وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.. جزء من نصّ الآية 140 من سورة آل عمران، هو في واقعه عنوان كبير، عرضه عرض الحكومات والممالك والإمارات والمدنيات والحضارات التي قامت منذ أبينا آدم (ع) وتقوم مادامت السماوات والأرض، وكل أمة تدرك معنى الآية الكريمة، فهي تعيش مضامينها الظاهرة والباطنة بكل مقاطعها، وتعايشها بكل وجدانها، فهي منها وفيها ومثالها، فكل جيل من الأمة في هذا البلد أو ذاك يعيش دهره، تحكمه سلطة قائمة، وقد يراها تبور وتنهض أخرى، فتلك الأيام دول بين الناس وهكذا هي صروف الدهر.
وقراءة تاريخ الأمم والدول، ليس فقط يكسب الجيل تجربة وخبرة وينير له الدرب ويطلعه على أيام الهزائم والقهر لكي لا يقع فيها وايام الانتصارات والظفر حتى يستن بها، بل ويجعله مستحضراً لنقاط القوة والضعف على الدوام بما يجعله متماسكاً يسابق الأمم الأخرى، هذا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، من هنا فإن بعض الحكومات بقيت لسنوات وأعوام وبعضها لعشرات الأعوام وبعضها لعصور وقرون.
وأجمل ما في تاريخ الأمم هو أن يقف الإنسان على آثارها، على أن الأجمل من ذلك هو أن تحافظ الأمة على تاريخها أو بقاياه، وخلال زيارة قصيرة مع العائلة للمملكة المغربية في الفترة 2-7 اكتوبر تشرين الثاني 2014م تجولت في أربع مدن هي الدار البيضاء ومراكش والقنيطرة والرباط، فضلا عن مدن عديدة مررنا بها ونحن في رحلة يومية بواسط القطار أو (التران) حسب تعبير المغاربة، أخذنا من محطة المسافرين في الدار البيضاء الى مراكش، ومن محطة الميناء الى القنيطرة والرباط، فكنا نخرج صباحا ونعود مساءً في وقت متأخر من اليوم نفسه.
الملفت للنظر في زيارة المدن المغربية، وبخاصة العواصم التاريخية والحديثة، مثل مراكش يوم 4/10/2014م، والرباط يوم 6/10/2014م، أن الزائر لها يستحضر تاريخ الممالك والحكومات القديمة بعد أن حافظت الحكومات المتعاقبة على حدود تلك الممالك ومعالمها بجدرانها المتسامقة وأبوابها الخشبية الكبيرة وبقايا مدنية قامت واندثرت، فحين يتحرك المرء في مراكش باستطاعته وهو داخل أسوار المملكة القديمة أو خارجها أن يستعيد التاريخ وأدواته ومفرداته، وعندما يتجول في شوارع العاصمة الرباط بامكانه أن يشاهد حدود مملكة المرابطين ومملكة الموحدين، وله أن يتجول في الأزقة الجديدة، والأزقة المتمادية في التاريخ مثل أزقة حي الوداية المطل على المحيط الأطلسي والمحاذي لنهر أبي رقراق الذي تنتصب على الجهة الثانية منه مدينة سلا، وفي هذا الحي يقف الزائر عند أول مسجد بني في دولة الموحدين ويعود الى العام 544 هجرية، فالمسجد مع منارته وقصر بانيه الملك عبد المؤمن بن علي الكومي (487- 558هـ = 1094- 1163م) لازالا قائمين حتي يومنا يقرأ الإنسان من سطور جدرانهما التاريخ بجزئياته، ويقدمان الدليل تلو الآخر على أن الحكومات والممالك دول، ولو دامت لفلان لما وصلت لعلان.
مشاهد الرحلة الثانية الى الدار البيضاء بعد الأولى في كانون الثاني عام 2011م، أعادها من ساحل الذاكرة القريب، الأستاذ علي التميمي وأنا أتصفح كتابه “دول المسلمين عبر التاريخ” المستل من دائرة المعارف الحسينية للكرباسي، الصادر حديثاً (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 391 صفحة من القطع الوزيري.
قامت ثم دالت
تعد الحكومة الإسلامية التي أسسها نبي الإسلام محمد بن عبد الله (ص) في المدينة المنورة في العام الأول من الهجرة هي باكورة الدول التي بدأ بها الكتاب فيما تعتبر الجمهورية الإسلامية في إيران التي أسسها السيد روح الموسوي الخميني عام 1979م آخرها، وما بينهما 254 دولة ومملكة وإمارة، وكلها حكمت باسم الإسلام، منذ مطلع القرن الأول الهجري وحتى مطلع القرن الخامس عشر الهجري، وهي مجموع الحكومات التي ورد ذكرها في أجزاء دائرة المعارف الحسينية لمؤلفها المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، تقصاها الأستاذ التميمي وجمعها في هذا الكتاب، حيث اعتمد في وضع تسلسل الدول على تاريخ النشأة متقيداً بذكر مؤسس الدولة أو المملكة أو الإمارة أو الجمهورية، وعاصمتها، وسلسلة الحكام حتى آخرهم، وسنة انقراضها والجهة التي أسقطتها، وما كانوا عليه من مذهب اسلامي، على ان المذهبية دخلت كركن أساس في قيام حكومات وسقوط أخرى، وعدد غير قليل مما ذكره المحقق الكرباسي في الموسوعة الحسينية وقيّدها التميمي في الكتاب إنما قامت على أساس مذهبي طائفي، وتحت حد المذهبية قُتل الكثير من المسلمين، وتداعيات هذه الحرب الخؤون لازالت الى يومنا هذا قائمة يغذيها الغلاة والجهلة من كل الفرق والمذاهب الإسلامية.
ولعل واحدة من الدروس المستقاة من ثنايا الكتاب، أن ذاكرة الإنسان ذات ألوان متعددة، تسودّ مع الحكومة الفاسدة وتخضّر مع الحكومة الصالحة، والآثار التي تتركها الأمم السابقة يتوقف طبيعة ذكرها في النفس تبعاً لطبيعة الحاكم أو الحكام، فيتحقق عندها مفهوم العبرة والاعتبار، فالواقف على الأطلال بين دائرتين، فإما أن يترحم على الحاكم أو يلعنه، والأمر عائد لما يتركه من أثر خير أو شر، مثلما هو المرء المحكوم، حصير ما يترك من عمل وافرازاته إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌ، ومن أمثلة ذلك هو الحجاج بو يوسف الثقفي (40- 95هـ) الذي حكم العراق، لكن ذكره يبعث على الاشمئزاز والنفور تتبعه اللعنات، وتولى مالك بن الحارث الأشتر (25 ق.هـ- 38هـ) حكم مصر، وذكره مدعاة لذكر الخير تتبعه الرحمات، فالأول كان يحكم في دولة يُقال لها دولة اسلامية والثاني حكم بالعنوان نفسه، لكن الأول مثال الشر والثاني مثال الخير، فالأول عمل بشعار: (إني لأرى رؤساً قد أينعت وحان قطافها، وإني صاحبها، وكأني أنظر الى الدماء بين العمائم واللحى) والثاني عمل بوصية الإمام علي(ع): (أنصفِ الله وأنصفِ الناسَ من نفسك ومن خاصّة أهلك ومَن لك فيه هوًى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)، وبجملة مفيدة وكل جمل أمير الفصاحة والبلاغة مفيدة: (استصلاح أهلها وعمارة بلادها)، ولهذا يدخل المرء مدينة واسط (الكوت) في العراق ولا يجد للحجاج قبرا ولا ذكراً سوى اللعنات، فيما تتراءى أمام ناظريه مراقد لعلماء أجلاء أطاح برؤسهم الحجاج ظلماً وعدواناً، ويدخل المرء مصر ويقصد مدينة الخانكة (الخانقاه) في القليوبية لزيارة مرقد مالك الأشتر وقراءة الفاتحة عند قبره، ويغادر مرقده على أمل العودة ثانية، تلك صورة وهذه صورة، وهي تحكي حال الدول والممالك وما ينطوي عليه قول الله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
ولا يذهبن الظن بأحد بأن الطغيان هي صفة خاصة بالحاكم الظالم دون بقية الناس، فالطغيان صفة مذمومة تتحقق في كل انسان حاكما كان أو محكوماً، لأنه تعبير عن الانفلات عن مركز القيم والمفاهيم الحقة، وهو يجري في أي مجتمع صغيراً كان أو كبيراً، كأفراد وكمجتمعات، لكن مثاله الأبرز في الحاكم الذي يتخذ مال الله دولا وعباده خولا ودينه دغلا، فيحتكر المال ويمنعه عن عباده ويتخذهم عبيدا ويحكمهم باسم الدين الذي أدخل ما ليس فيه واستحدثه، وأمرهم به كدين وآية منزلة.
من هنا فإن قراءة الكتاب وما فيه من أسماء حكومات وزعماء وملوك وأمراء، هو في واقعه عبرة، فمهما شمخ الإنسان بأنفه فإن تراب القبر سيرغمه، ولهذا جاء في الحديث النبوي الشريف: (لولا ثلاثة في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء: المرض والفقر والموت، وكلهّن فيه، وإنه معهنّ لوثّاب)، وهذه الثلاثية هي التي غيبها الشيطان عن الإنسان فغوى، عندما منّاه بالخلد وملك دائم كما أشار القرآن الكريم: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) سورة طه: 120، ولولا هذه الثلاثية كما يشير التميمي في المقدمة: (لا تجد للإنسان خضوعاً وانقياداً) وهو كذلك.
ببلوغرافيا الدول الاسلامية
ينطوي الكتاب على معلومات مهمة، وهي بمثابة خطوط عامة لكل دولة اسلامية (ببلوغرافية)، فقد تجد دولة إسلامية تقوم على ملكين أو أميرين ثم تنقرض، وأخرى على عشرات الملوك ولقرون عدة، فعلى سبيل المثال فإن الدولة الزنگية الثانية في سوريا في الفترة (541- 577هـ) قامت على الملك العادل نور الدين محمود الزنگي والملك الصالح اسماعيل بن نور الدين الزنگي وانقرضت على ايدي الأيوبيين، في حين أن الإمارة اللوهانية في الهند استمرت 613 سنة في الفترة (771- 1383هـ) وانقرضت على يد البريطانيين عام 1964م في عهد ديوان مهاخان إقبال خان بهادر، وكانوا من الشيعة الإثني عشرية، وحكم فيها 29 أميراً، أولهم مالك خرّم خان، وهم أقرب الى الدول العثمانية من حيث مدة الحكم، التي بدأت ولايتهم عام 680هـ على يد عثمان الأول ابن أرطغرل الأقزي ودالت عام 1342هـ على يد دول التحالف الغربي، وكان آخر سلاطينهم عام 1924م هو عبد العزيز الثاني الذي حمل الرقم 41، وكانوا من السنة الأحناف.
ومما يمكن ملاحظته من خلال قراءة أسماء الحكومات ونوعها وقادتها، أن الدول القائمة على الأسرة يطول، بشكل عام، عمرها ويقل عدد حكامها، لاسيما مع وجود نظام الوصاية، فالملك أو الأمير يتولى سدة الحكم حتى وإن كان طفلا ضمن نطاق الوصاية، ولذلك يكبر وتزداد سنوات حكمه حتى يخرج من نظام الوصاية الى الحكم المباشر ولا ينتهي حكمه الا بالموت أو القتل أو الاغتيال، في حين أن الحكومات الجمهورية التي انتشرت في القرن العشرين الميلادي، يزداد فيها عدد الرؤساء والزعماء في مدة قصيرة، والأمر عائد لطبيعة الحكم الجمهوري القائم على الرئاسة المؤقتة والانتخابات، كما لا يخفى أن كثرة الانقلابات والثورات في النظام الجمهوري يساعد على تداول الحكومات وتنقلها بسرعة من يد الى أخرى طوعاً أو قهراً، فعلى سبيل المثال، فان الدولة الشيبانية الأولى في خوارزم وعاصمتها بخارى تولى حكمها 12 حاكما لمدة 98 عاماً في الفترة (1500- 1598م)، في المقابل فإن جمهورية جزر القُمر الاتحادية الاسلامية بدأت عام 1975م وحكمها حتى عام 2014م 12 رئيسا خلال 40 عاماً.
وحتى في بعض الحكومات الملكية أو الأسرية يتحقق الفرق في عدد الحاكمين قياساً للفترة الزمنية لكل حكومة، فعلى سبيل المثال، فإن الدولة القرمية في روسيا في الفترة (1428- 1793م) تناوب على رئاستها 71 حاكماً خلال 365 سنة، في المقابل نجد أن الدولة الهاشمية في الفليبين في الفترة (1450- 1898م) تولاها 32 حاكما خلال 448 سنة، وكانوا من الشيعة الاثني عشرية وانتهت على يد القوات الامريكية.
إنّ ما يثير الفضول فيما جاء في الكتاب، الرغبة في معرفة الدول الاسلامية التي قامت ودالت، عبر التاريخ، لأن كل مجتمع مسلم بشكل عام يعرف عن بلده وعن حكامه، واذا تجاوزت حدود معارفه حاجز القطرية فإنه سيعرف الحكومات الكبرى التي كانت تحكمه، ولكن اذا ازدادت معرفته بحكومات اسلامية في شرق الأرض وأقصاها فهذا هو الحسن، وهذا ما يوفره الكتاب الذي يعكس الجهد الكبير الذي بذله المحقق الكرباسي في استقصاء تاريخ نشأة الدول وانقراضها، ويعكس جهد المعد في تنظيم المعلومات الكثيرة المتوزعة في ثنايا الموسوعة الحسينية التي بلغ المطبوع منها 90 مجلداً من مجموع 900 مجلد مخطوط.
ولاشك ان الذي يعيش في المغرب العربي، على سبيل المثال، يعرف الكثير عن حكومات منطقته وكذلك الذي يعيش في المشرق العربي، ولكن القليل يعرف أن الهند حتى وقت قريب كانت تعج بالممالك والإمارات الإسلامية في شتى المذاهب والطوائف، فالكتاب يضم 32 مملكة وإمارة كانت آخرها الإمارة اللوهانيّة وعاصمتها پالنپور التي أسقطها البريطانيون عام 1964م.
إن ما يمكن الخروج به من خلال تتبعنا لكتاب (دول المسلمين عبر التاريخ) وأمثاله من الكتب الرصينة القائمة على المعرفة والبحث والتنقيب والتحقيق، هو مسيس حاجتنا الى إعادة قراءتنا التاريخية السابقة عن الحكومات والولاة ولاسيما ما تعلمناه أثناء الدراسة في المدارس الرسمية، المحكومة بالنظام المذهبي لكل بلد، فهناك تصورات رسمتها المناهج الدراسية للتاريخ والجغرافية عن كل دولة قامت ودالت، ليس بالضرورة أن تكون هي الحقيقة بعينها، وتخضع في بعضها أو كثيرها للأهواء المذهبية، وهو ما يخالف المنهج العلمي، والمرء بامكانه الخروج من أسر التاريخ المؤدلج عبر تنويع قراءاته، وهذا ما يحث عليه الإسلام وتدعو اليه الفطرة الإنسانية، وهو ما ينبغي أن يكون عليه عقلاء الأمة.