15 نوفمبر، 2024 2:58 م
Search
Close this search box.

مرض عضال اصاب قصيدة الشعر الحر العراقي منعها

مرض عضال اصاب قصيدة الشعر الحر العراقي منعها

من اداء واجبها  الوطني                                    
عذرا ! انا لست بشاعر لكني اهوى قراءة الشعر وتهزني القصيدة خصوصا ، الحرة لما تحويه من معان لا يستطيعها القريض لسجنه المؤبد في قفص القافية الحديدي تحت حراسة الاوزان المشددة….فقد لاحظت غياب القصيدة الحرة عن ساحة الوطن وهو في امس الحاجة لها فعتبت نيابة عنه لهذا الغياب……مع الاعتزاز والتقدير……
الشعر خطاب وجداني مقتضب و وسم موسيقي حسي يتبنى قضية مغلفة بشعورية الشاعر وموهبتة ومهارته الوجدانية في التأثير الحسي المطنب مع انعكاس زمكاني لوضع مرفق بتفسير وافي لكينونة الحدث و شكل من اشكال الفن الادبي تعتلي نواصيه الجمالية وتتصرف فيه بمساحات غير محدودة وعلى المشهور، معنى مموسق ولفظ مأخوذ من كلمة الشعور و ينتهك بشراسة ورقة مرهفة اخيلة المتلقي ويخاطب وجدانه لا كينونته الملموسة بشكل مباشر و بلغة مفهومة ومعاني واضحة منتقاة بحرفنة ودقة عالية الجودة و التأثير تمكن الشاعر من النفاذ الى اعماق المتلقي واحاسيسه بصورة ناعمة تلامس دواخله الشعورية وتسرق يقظته وتجعله هائما في اثير الخيال لكي تحقق ما تصبوا اليه من انتهاك سحري مؤسر وهذا شأن الشعر برمته من العهد الجاهلي مرورا بالثورة الرومانسية حتى حداثة يومنا هذا بكل انواعه واغراضه.
يقتضي ان يسير الشعر بشكل متوازي مع  الموسيقى والرسم مع اختلاف الادوات ، فالكلمات حصة الشعر و الموسيقى الانغام والرسم الالوان ويلتقي هذا الثلاثي و يتمازج كخليط  متجانس مع الحبكة والمعنى في بودقة موهبة و انسانية الشاعر المحملة بالحس للتعبير عن قضية حملها له المجتمع وعليه ايصالها بأمانة واخلاص دون تشويه او تلاعب  فهو امينا في ايصال صوته دفاعا عن مظلوم او تقريع لظالم مع الاشارة الى الاخطاء وتصحيح مساراتها . الشعر كينونة مرعبة للظلمة وكثير من الشعراء ضحوا بأنفسهم مقابل قضاياهم العادلة وقد حمل لنا التاريخ  الادبي احداثا مثيرة من هذا القبيل لشعراء قارعوا الظلم والظالمين والكل يذكر ما حصل للمتنبي من كافور مصر وقصيدته الرائعة التي دفع حياته ثمنا لها(عيد بأية حال عدت يا عيد…..)….وابعد من ذلك ، ان الشعر برمة قضية وجدانية تهتم بمدارك الاحاسيس والعلاقات القلبية والوجدانية التي  تسور الواقع بأسوار الحقيقة  وتحلق فوقه بادراك ملموس.
 ان الثورة الرومانسية وشعرائها، وليام ويردسويرث و صومويل تايلر كولرج الذين الفوا كتابا في القرن التاسع عشر، اسمه(The Lyrical Ballads اناشيد غنائية)  ووليم بليك و بايرون وجون كيتس القت ظلا سميكا على شعراءنا المعاصرين والتحم الحال الانكليزي بالحال العراقي بعمارة والسياب والملائكة والبياتي واطلاق سراح الشعر من بين قضبان القريض الى فضاء الحرية المرسل وتسارعت خطواتهم خلف المعنى المقيد بالوزن لتحريره ايضا من عبودية القافية و الخروج به الى ساحات التحرر و بشكل كامل حين تبنوا مدرسة حديثة وغريبة كغرابة دجاجة بين ديوك شرسة ، مدرسة الواقعية التي تتبنى الانسان وقضاياه النفسية وكفاحه الانساني في الحياة اليومية. اشار الكثير من النقاد نحو العراق وبالذات الشاعرة نازك الملائكة ومنهم نحو لميعة عباس عمارة  وهناك من اشار نحو الخيمة العربية ، وصلاح عبد الصبور .
اتخذ الشعر الحديث في بداياته في الخمسينيات  من القرن المنصرم أنماطا  واسماء مختلفة  منها ” الشعر المرسل” والنظم المرسل ” و”الشعر الجديد” و”شعر التفعيلة”، واخيرا  أطلق عليه مسمى “الشعر الحر” حين اتخذت قصيدة الشعر الحر عناصر مختلفة :  العاطِفَةُ و الفِكرَةُ، و الخَيالُ، والأُسلوبُ، والنَّظمُ، و الوحدة العضوية، فلم يعد البيت هو الوحدة  المتكاملة في التبليغ وإنما تفوقت القصيدة بكونها كلاماً متماسكاً وموحدا ، واندمج الشكل بالمضمون وتسخرت التفعيلة والصياغة لخدمة الموضوع حين اقتفى الشاعر اثر المعنى في وحدة القصيدة اما “التفعيلة ” ما هي الا موسيقى رابطة بين المفردات الداخلية للقصيدة ، قد تظهر مرة وحيانا تختفي تماما . تمتاز هذه المدرسة الحرة بالواقعية في البناء الشعري وبتعرضها للحالات النفسية والعوامل المتعددة من آمال وطموح كرد خلافي على مدرسة الابتداع والهروب من الواقع الذي تتبناه المدرسة الرومانسية والتي نلهث وراء الطبيعة والعوالم الانسانية والخبال و المثالية للمعاصرين لهذا النمط الادبي .
أرسى دعائم المدرسة الواقعية في العراق الشاعرة لميعة عباس عمارة والشاعر بدر شاكر السياب. ومن روادها نازك الملائكة وعبد الباسط الصوفي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وأمل دنقل  ومحمود حسن إسماعيل . والاهم من ذلك كله يكمن خلف امكانية الخروج من مدرسة الشعر القريض نحو الحرية والالتزام بالمعنى اكثر من الوزن لكون الوزن قيد يشغل الشاعر بالبحث عن التوافق الموسيقي اكثر من الترابط الفكروي في وحدة القصيدة بعد ان فشلت الضرورة الشعرية في اسعافه. ومع ذلك اتسعت مدارك تلك المدرسة سريعا والقت في احضان الادب العربي ملامح معاصرة جديرة بالمتابعة والاحترام منها:
·       تتبنى القصيدة الوضوح والبساطة والعفوية مع لغة تقترب نحو اللغة الدارجة في التعامل اليومي لكي تغزو اذهان البسطاء بسهولة ويسر
·        هنالك نوع سريالي من الشعر الحديث يمتاز بالغموض والابهام وتناول الاسطورة والرمز و الابهام بالتحليل بالمقاييس الشعرية المعروفة.
·       الملامسة للروافد الرومانسية والابداعية الناتجة من التدين الموروث العقائدي والتراثي
·       محاربة الظلم والاخطاء وكشف الحقائق ونشر الوعي ومحاربة التخلف في كل اشكاله
·       وحدة القصيدة هدف اساسي وهي عبارة عن سيناريو لقضية مدروسة بدقة متناهية مسبقا تخفي وراءها خلفية اخلاقية
·       كفاح الانسان ومعاناته النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية اليومية وتجربته هي جوهر مثالي يستحق الملاحقة الادبية
·       تناول الرمز الشعري المستل من التراث والتاريخ والشكل الاجتماعي والاعراف
تمرد الشعر في العراق خلال السنوات الاخيرة من القرن المنصرم، واقصد التخصيص وليس التعميم فالبعض من شعراءنا ارتدوا السريالية بدلة انيقة وربطة عنق واغرقوا القصيدة الحرة يهوس الغموض والبسوها ثوبا مهلهلا من الابهام و انتزعوا المعني منها انتزاعا قسريا حين غاصوا  في اركان القصيدة الشعرية بشكل كفيف هدفا يسعى اليه  الشاعر بحثا وزحفا وتوقا حتى امست  القصيدة اطارا جافا ومجموعة من الالغاز والطلاسم ليس لها حل حين امتص منها المحتوى ونجحت في نقل المتلقي من حيز الخيال المفترض باتجاه صحراء قاحلة من الاحتمالات الجامدة لتركيب المعنى الهادف في تلك القصيدة بذلك فقد الشعر امكانيته الحسية في صيد الانتباه حين سقطت عناصره المهمة في بركة التمرد الآسنة..!؟
فقدت القصيدة الحرة العراقية حريتها وبصرها وهي في ريعان الصبا و الشباب وظلت تتلمس اجزاءها المبعثرة بغياب المعنى والاحساس حين اوصدت ابواب القصيدة على ذوق المتلقي و اصبحت كتلة سجينة عمياء خاوية تتلمس طريقها في ظلام دامس ، مجموعة من الكلمات المتناثرة هنا وهناك ، ميتة لا روح فيها وبدأ العزوف يطرق ابواب القراء وانحسر النهم بالقراءة مع اطراد اصدارات الفية من هذا النوع باتجاه سلال الاهمال  ورفوف المكتبات…..!؟ ولا ندري لما يفعل شعراءنا ذلك …!؟…وهل هو وميض اسود يلوح بيده لظهور مدرسة جديدة لزرع القباحة والغموض بديلا للجمالية والسباحة في بحار السهل الممتنع والاحساس المرهف الملائكي و السيابي …!؟
 ويصرخ العراق بأعلى صوته يستنهض اهل القبور من اصحاب كلم وقلم ليأخذ كل منهم دوره الوطني لمواجهة الاوضاع المنحرفة ومع ذلك ثمل الاحياء منهم بخمرة الغموض وسهولة الشاعرية والتصاقهم القرادي بالسريالية حتى نسوا وتناسوا مخاطبة الانسان العراقي البسيط  وتوعيته بواقعه المر الخانق وحرموا القصيدة من اداء واجبها الوطني حين قيدوها و رموها في سلال النقد المتعالي و المدلل والمتشدق بالمصطلحات الجافة الرنانة والرموز والطلاسم المقفلة في غرف الغموض المظلمة حتى اشمئز الذوق وشاح بوجهه عنهم نحو قصيدة  الشعر الشعبي واتسعت الهوة بين البسطاء من الناس وشعراءنا المجددين والمعاصرين حين اخذ العزوف مكانته المرموقة في اذهان المتلقي ودق اسفينا اسمنتيا بينه وشعرهم الذي يستدعي كل قواميس و معاجم الارض لفك اسراره وطلاسمه السريالية المقفلة. ….انطلاقا من مبدا مصيبة قوم عند قوم فوائد فقد اخذت القصيدة الشعبية واجب الشعر الحر ، الشاغر والمهمل عن قصد ونرفع ، في العراق لملامستها الواقع الانساني فينا وقربها من احساسنا المسحوق….. وعتب الوطن ثقيل ولسان حاله يقول جزى الله النوائب الف خير  فقد علمتني عدوي من صديقي…..لعن الله  التجديد والغموض والسريالية ، هم سرطان ينخر جسد الكلمة الطيبة……….والكلمة الطيبة صدقة…. !؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات