23 ديسمبر، 2024 4:38 م

مرسال غرام وعلاقة آثمة

مرسال غرام وعلاقة آثمة

كان السيد جلال الطالباني مفترياً على الحقيقة عندما زعم أمس أن ثمة تحالف شيعي – كردي له جذور قديمة في تاريخ السياسة العراقية , ذلك أنه منذ تأسيس الدولة العراقية كان الشيعة منخرطين في أحزاب سياسية يسارية و قومية وليبرالية , ولم ينتظموا أبداً في تشكيل طائفي حتى ستينات القرن الماضي عندما شكّل بعض طلاب حوزة النجف خلية تنظيمية كردّ فعل على نشوء حركة الاخوان المسلمين في العراق , ولم يكن لتلك الخلية قيمة فاعلة في السياسة العراقية حتى لاحت بوادر الحرب العراقية – الايرانية حيث قررت ايران استخدامها كجزء من دعايتها الحربية , إلى جانب تجمّع ظهر في خضم تلك الحرب قاده السيد محمد باقر الحكيم انضم إليه أفراد كان لكل منهم أسباباً تراوحت بين الفرار من خدمة العلم , أو الهرب من أحكام جنائية , أو التخلص من ربقة الأسر الايراني وعذاباته .  
 عندما حسمت الولايات المتحدة أمرها في نهاية تسعينات القرن الماضي بغزو العراق واحتلاله , كان طبيعياً أن تتصل بأعداء النظام العراقي لتجمعهم في إطار واحد يدعم جهدها السياسي المتصل بعملها العسكري , وقد كلفت وكلاء موثوقين بهذه المهمة كان من أبرزهم السيد أحمد الجلبي الذي كان مرسال غرام أخذ على عاتقه نسج وتوثيق العلاقة بين الأكراد والإسلام السياسي الشيعي , وكان أيضاً من بين هؤلاء الوكلاء الموثوقين السيد إياد علاوي القاسم المشترك بين كل الأجهزة الأمنية الغربية ورجل كل المهمات سيئة الصيت ؛ وفي خضم تلك الظروف برزعلى سطح السياسة العراقية ما عُرف بالتحالف الشيعي – الكردي الذي ينطوي مفهومه على مغالطة جوهرية أريد بها مبكراً تأكيد الطابع القومي للأكراد وتكريس الفزر الطائفي بين العرب , فالاسلام السياسي الشيعي سوءا الذي سبق الغزو الأميركي أو الذي ظهر بعده ليس إلا تجمّع لطائفيين منسلخين عن الولاء الوطني ومعزولين عن غالبية شيعة العراق ومعادين للعروبة وغير معنيين بالصراع العربي – الاسرائيلي وغير متمسكين باستقلال العراق, وقد رأت فيهم ايران والولايات المتحدة نقطة التقاء مناسبة لمصالحهما المشتركة ومطية مستعدة لخدمة الطموح التوسعي الايراني , وفتح الباب للشركات المتعددة الجنسيات لاستعادة سيطرتها على ثروات العراق , والرضا بتسخير موقع العراق الاستراتيجي الحاكم كبوابة شرقية للوطن العربي في خدمة مصالح الغرب سيدّ الأكراد ومحركهم السياسي وحاميهم العسكري منذ ستينات القرن الماضي ؛ وللأسباب ذاتها كان هذا التجمّع الطائفي ملائماً للمطامع الكردية بسلخ شمال العراق عن الوطن الأم والانفراد بموارده وثرواته , وكذلك جرى تكليف مرسال الغرام – أحمد الجلبي – بجمع الرأسين بالحرام فكان مؤتمر لندن الذي عُقد في كانون أول من عام 2002 باكورة تلك العلاقة الآثمة بين هؤلاء الطائفيين والأكراد والتي تخلّقت ثمرة دنسة في مؤتمرين تاليين عُقدا في مصيف صلاح الدين و ايران في شباط 2003 , ثم أنجبت لقيطاً سمّي بمجلس الحكم قام الأميركيون بتسليمه مفاتيح العراق !       
في غمرة نشوة الاستئثار بالسلطة والثروة لم يتوقف أحد للتساؤل عن مغزى التحالف بين طرفين لا يربطهما أي قاسم مشترك , فأولهما ينتمي للإسلام السياسي الذي يتجاهل الجوهر الاجتماعي والأخلاقي للدين , ويصطنع له ملاحم خرافية يغرسها في ضمائر جماهيره لاستعبادهم , و يعيش قطيعة مع العصر ومع المعرفة ويعادي الحداثة والمدنية , وقد استغل وسائل السلطة ليصطنع بأثر رجعي تاريخاً ونضالا !  وثانيهما علماني احترف منذ تواجده على أرض العراق اللعب على تناقضات السياسة الاقليمية وصراعات المصالح الدولية في هذه المنطقة الحيوية من العالم ويرى ضمانات مستقبله بعراق خرب ومفتت ؛ ولم يكن أي طرف من الإسلام السياسي الشيعي معنياً بتجاوزات الأكراد , ذلك أن نهبهم للثروة الوطنية وتمددهم الاستيطاني المسلّح  يجريان على أراضٍ يقطنها العرب السنّة , ولما كان الفقه الطائفي يعتبر أن العروبة والوطنية والديمقراطية كفر وانحراف عن المذهب , فقد أفتى بتخريج شرعي أباح لجماعة المجلس الأعلى وزمرة مقتدى الصدر وسواهم من الطائفيين الاصطفاف إلى جانب الأكراد في كل سياساتهم ومواقفهم بكل شططها .                                
لم يتصدّ السيد نوري المالكي للجموح الكردي بصفته الطائفية , ولا كونه زعيماً لحزب الدعوة أو قائمة دولة القانون , ولكنه اضطر كرئيس للوزراء وباعتباره المسؤول التنفيذي الأول أن يقوم بواجباته دفاعاً عن الكيان السياسي الذي يتولى مسؤوليته بعد أن فاقت تجاوزات الأكراد على هذا الكيان كل الحدود وبلغت مستوى غير مسبوق , فهم لم يكتفوا بأخذ نسبة من واردات العراق تتجاوز نسبتهم العددية , ولا بتشكيل كيان شبه مستقل يقيم علاقات مع كل أعداء الأمة بما فيهم اسرائيل , ولا التصرف بالبترول العراقي بمشيئتهم المنفردة , لكنهم باتوا يريدون بالتواطؤ مع الاسلام السياسي الشيعي تفتيت السلطة والحيلولة دون امتلاكها لجيش قادر على حماية أمن البلد وسيادته ؛ وفي ظني أن كل رئيس لوزراء العراق أياً كانت توجهاته السياسية أو عقيدته الدينية سيجد نفسه في مواجهة مع الأكراد  , وهو ما وقع على طول تاريخ العراق الحديث منذ الاستعمار العثماني مروراً بالعهد الملكي ثم في عصور الجمهورية انتهاءً بنظام الرئيس صدام حسين الذي أعطى الأكراد – بشهادة السيد مسعود البرزاني – كل ما بوسع دولة أن تمنحه من حقوق لأقلية مقيمة على أرضها.
يظن الأكراد أنها فرصتهم التي قد لا تسنح ثانية لأن العراق يعيش اليوم أضعف أحواله , فالنظام السياسي مهتز وتنخره فضائح الفساد وصراعات أركانه على الغنيمة , والقوات المسلحة شبه منزوعة السلاح وقد خلت من الكفاءات القيادية  وبات واجبها مقتصراً على حماية الأمن الداخلي إلى جانب جهاز شرطي فاسد ومرتشٍ , والانقسام الشعبي يراد له أن يصل إلى منحى خطير يتجاوز الأفق السياسي ليتحول إلى معسكرين طائفيين متقاتلين , وأينما تلفت المرء في أنحاء العراق فلا يصادف إلا الخراب والفقر ؛ في مقابل ذلك كله يعيش الأكراد أفضل أحوالهم , فعلاقاتهم مع تركيا تحسنت لأسباب تتعلق بقيادتها الطائفية وبالسياسة الكردية الماكيافيلية التي باعت قضية أكراد تركيا , كذلك فإن علاقتهم مع ايران مستقرة لانشغالها بصراعها السياسي مع الغرب بسبب ملفها النووي , وهم قد استقطبوا المصالح الغربية بما يستتبع ذلك من دعم سياسي وعسكري غربي بعد أن سلّموا لتلك المصالح بكل مطالبها في شمال العراق, وكذلك دخلوا معاً في مشاركة ينهبون بها الثروة الوطنية جهاراً نهاراً مستيقنين من عجز العاصمة عن القيام بردّ فعل جدّي خاصة وأنهم صادفوا عرباً من محدثي السياسة يشاركونهم نهب الثروة البترولية التي تختزنها أراضي نينوى .
تفيد عبر ودروس تاريخ العراق السياسي الحديث أنه ليس من طريق للجم الجموح الكردي سوى الردع العسكري ومن قبله ضرورة تحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي في البلد  , ومن المسلّم به أن النظام السياسي العراقي الحالي ليس قادراً على أداء ما اؤتمن عليه , وفي سبيل الحفاظ على موقعه في السلطة فإن السيد المالكي ومعه حزب الدعوة سيرضيان بحلول وسط تحفظ لهما صولجان السلطة وهيلمانها و تؤجل في ذات الوقت تداعيات الخطر الكردي , ولكن هذه الحلول الوسط ستبقيه خطراً ماثلا حتى تتولى أمره القوى العراقية الحية عندما تعي مسؤولياتها تجاه بلدها وشعبها .