18 ديسمبر، 2024 8:34 م

مرجعية بحجم الإنسانية

مرجعية بحجم الإنسانية

قال رسول الله ( ص ) وهو يوصي جيشه في غزوة مؤته : ” أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم من المسلمين خيرا، إغزوا في سبيل الله، وقاتلوا في سبيل الله من كفر، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا أو امرأة، ولا كبيرا فانيا ولا منعزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا وتقطعوا شجرا ولا تهدموا بناءً ” .

توصيات ومفاهيم جسدها الإمام على (ع ) في حربه ضد الكفار والمشركين، وحتى المسلمين الذين حاربوه في معركة الجمل وصفين، فكان لا يبدأ بقتال قوم ما لم يبدأوا فيه، ولا يأخذ أعدائه بغتة دون أن يدعوهم الى الإسلام، ومن أروع المفاهيم التي تجسدت في قتال أمير المؤمنين (ع )، حين لم يمنع الماء عن جيش معاوية القادم لقتاله في معركة صفين، ومنع التعرض للنساء والأطفال والشيخ الكبير ما لم يكن مشتركا في القتال، مجسدا بذلك مبادئ الشريعة الحقة، والإسلام المحمدي الأصيل .

فالحرب في الإسلام تظللها الرحمة والعدل حتى مع الأعداء، فلا يجوز قتل غير المحاربين إلا الذين اشتركوا فيها فعليا أو أعانوا بالدعم والإمداد، فالناس العزل في نظر الإسلام أبرياء لا تجري عليهم سنن الحروب، ومن هذه المفاهيم الإنسانية انبثقت قواعد الحرب في اتفاقية جنيف عام 1949، لحماية العجزة والمسنين وعدم الاعتداء على المدنيين إثناء الحروب، رغم إن الاتفاقية أجازت قصف القرى والمدن بالأسلحة الحربية، لغرض الاستيلاء عليها، مما يعني أذية المدنيين العزل .

تعرض العراق خلال السنوات الماضية، لهجمة إرهابية شعواء حاملة اسم الإسلام شعارا لها، أتت على البشر والحجر وافتقدت لكل المفاهيم الإنسانية، كان الإرهابيون فيها يتلذذون بقطع الرقاب، واستباحة الدماء وتقطيع أوصال الأطفال وسبي النساء، لم تمنعهم حرمة ولم يردعهم رادع عن أفعال يقشعر لها الضمير الإنساني، ولم ترى الخليقة لها مثيلا على مر التاريخ، وكان ذلك مدعوما بتمويل إعلامي من داعمي الإرهاب، لبث الرعب والخوف في صفوف الأبرياء، وتهويل إمكانية العدو الاجرامية .

وهكذا ووسط الخطر الداهم، واجتياح الوحوش البشرية لأرض العراق، تصدت مرجعية النجف الأشرف متمثلة بسماحة السيد السيستاني دام ظله، وأعلنت فتوى الجهاد الكفائي لمحاربة الإرهاب، وإزاحة الظلام وتحرير الأرض ورفع الظلم، فهبت جموع المتطوعين والمجاهدين، لا يردعهم خوف ولا تفل لهم عزيمة عن محاربة الإرهاب وقتل أوباشه، وتحرير المدن العراقية قرية بعد قرية ومدينة بعد مدينة، باذلين الغالي والنفيس مقدمين أرواحهم هبة من اجل العراق وأهله .

ولكن المرجعية التي أعطت الفتوى، كانت حريصة على أن تكون المعركة إنسانية بمعنى الكلمة، لها آداب وحدود يجب مراعاتها من قبل المقاتلين، فمن التزم بها بلغ اجر الجهاد وثوابه، ومن خالفها أحبط عمله وتعرض للمسائلة، فكانت وصية رسول الله (ص ) حاضرة في توجيهات المرجعية للمقاتلين، وأوجبت عليهم الالتزام بها، وجعلت أخلاق أمير المؤمنين (ع) في الحرب ماثلة أمامهم، وعليهم قتال أعدائهم كما كان علي (ع) يقاتل أعدائه، وأوصت المجاهدين بالأطفال والنساء وعدم التعرض للنفوس البريئة، حتى وان كانوا من ذوي المقاتلين .

كما أوصت المجاهدين، بعدم التعرض لأموال الناس وممتلكاتهم، وحرمت التجاوز عليها بأي عذر، ومنعت التعرض لسكان المناطق المحررة، حتى ولو بالكلمة الجارحة أو الانتقاص منهم أو اتهامهم باطلا، فهم مسلمون قد شهدوا الشهادتين وربما كثير منهم وقع في الشبهة، فالتعامل الكريم والكلمة الطيبة تجعل الناس يأمنوا المقاتلين، ويكونوا لهم عونا على أعدائهم، فهم إخوة لهم وأهل أبعدتهم الخطابات الطائفية والتحريضية، واخذ منهم الإرهاب مأخذه .

وهكذا جسدت المرجعية العليا في كلماتها الإسلام الحقيقي، الذي يحمي الإنسان ويصون حرمته، وليس إسلام الإرهاب والذبح وهتك الحرمات، مؤكدة إن الإسلام دين المحبة والرحمة، جعل للإنسانية قيمة عظمى لا يجوز هتكها بغير جرم، فالإنسان في النهاية أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق .