قبل عامٍ مضى، واجه المتظاهرون المطالبون بالإصلاح موتاً محتماً، كان موتاً لذيذاً وسعيداً، أنا على يقين أن الذين أصابتهم رصاصة الشهادة كانوا يشعرون بلذّة ذلك الموت، والسعادة تغمرهم ولو طولبنا بالدليل فسنستدلّ بمن عاد من موته بينهم، فقد عاد لما كان عليه من الاحتجاجات بعد شفائه أو تفاقم جرحه، حتى من فقد جزءاً من جسده ظلّ على ما هو عليه..
إنهم قوم آمنوا بربّهم فزادهم هُدىً وهم جواب الشرط في قوله تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فالإيمان شرط للعلو، والحزن والهوان دليل على إنعدام روح الإيمان وتمكّن اليأس من روح المؤمن.
كانت تظاهرات واحتجاجات عارمة جابهها الفاسدون بالرصاص والبذاءة والتبريرات التافهة، من قبيل حفظ هيبة الدولة وهي تبريرات كشفت بوضوح، بل بفضيحة أن مشكلة العراق تكمن في عاملين لا ثالث لهما: الأول داخلي يتمثّل بانحطاط الطبقة السياسية وفشلها الذريع في إدارة الدولة العراقية ومواردها البشرية والمادية، ونجحت فقط في إدارة الموارد المادية عندما تقاسموا كل شيء وانتعشت مصارف دول الجنسية الثانية بما نهبوه من مال، حتى شركات تبييض الأموال العاملة في العراق والتي وصل عددها إلى العشرات رفعت نصيبها إلى 70% من المال المنهوب، فوافق الناهبون بلا تردد على ذلك! فأيّ انحطاط وأيّة جينةٍ مجرمةٍ يحملها هؤلاء بين دواخلهم؟
أما العامل الثاني: فهو عامل خارجي نجح في فرض العامل الأول على العراقيين ليصل إلى محو البلاد من الوجود كنتيجة نهائية للسلوك التدميري الذي نتهجوه (تدمير المصانع، تدمير الزراعة، جفاف الأنهار، شيوع المخدّرات، شيوع الرذيلة، تشجيع قيم المجتمع الاستهلاكي، تفكّك الأسرة، تخريب التعليم، إنهاء الرعاية الصحية، استثمار جسد الإنسان، استثمار المقدّسات، إغباء الجيل القادم، تسييس الفاسد، تدمير شعور الفرد بالكرامة، إهانة الإنسان…. إلخ).
كل ذلك سيؤدّي إلى الهجرة التي تبدأ أولاً من النخب العلمية والثقافية ومن ثمّ عامة الناس الذين لن يجدوا خياراً آخر أمامهم سوى القنوع بالعبودية والعمل العضلي من أجل الحياة أو الهجرة، أسوةً بغيرهم، ووفقاً لهذا سيغدو العراق (الدولة، الشعب) جزءاً من التاريخ! تماما كالهنود الحمر في أمريكا الذين استأصلهم الفاتح الجديد وحوّل بعض أسمائهم إلى ماركات تجارية كــ( شيروكي) الذي أصبح علامة من علامات سيّارات (Jeep) ذات الدفع الرباعي التي خدم الساسة في العراق بعضاً منها! وذلك حتمية تاريخية لا نقاش فيها، حيث يؤدّي استنزاف الموارد وغياب الحكم الرشيد إلى إنهيار حتمي للبلاد، فضلاً عن المشاكل الداخلية بين العراقيين أنفسهم التي خطّط (الفاتح الأمريكي) لجعلها مبرّراً للتقسيم بدعوى عدم التعايش، وبانهيار مشروع التقسيم تلاعب الفاسدون بالعقل العراقي تلاعباً ممنهجاً يؤدّي إلى إغباء هذا العقل وإلغائه وإفقاده القدرة على الإبداع !
أكتب ذلك وأنا اقرأ في الأخبار عن جفاف نهر دجلة! وهو جفاف لا يحتاج أخباراً لمن رآه بالعين، وسيتلوه الفرات عَمّا قريب! إذن فليكُفّ الجواهري عن تحيّته وبكائه :
حيّيتُ سفحك عن بعدٍ فحييني
يا دجلةَ الخير يا أُمّ البساتين
أيها المدفون غريباً في الشام، لم يعد لك ما تحييه، فلا ماء ولا شجر ولا بساتين !
ولن تلوذ حمائمك بين الماء والطين!
وبجفاف دجلة توقّفت الزراعة في أغلب مدن جنوب العراق، اللهم إلا إذا نجحت تركيا في مقايضة برميل النفط ببرميل من الماء، ولعل ذلك يحتاج مراجعة بنود جولة التراخيص التي رهنت نفط العراق لشركات لا يعلمها الشعب، لكنها معلومة لمن مثَّل على الشعب السيد حسين الشهرستاني المجاهد الهارب نحو الحرية!
وفي الوقت الذي أقرأ فيه خبر جفاف نهر دجلة، فإني أشاهد على شاشة التلفزيون وقائع مؤتمر إعادة إعمار العراق في الكويت، وأودّ أن أسجّل للتاريخ أنه مؤتمر مهين للشعب العراقي أيّما إهانة، لأن موارد العراق الهائلة تكفي لبناء دولة أخرى بمساحة العراق في غضون سنوات قليلة لا تصل إلى مدّة سنوات بناء ماليزيا أيام زعيمها النزيه “مهاتير محمد” ومع التقدير الكبير لأشقّائنا في الكويت لاحتضانهم هذا المؤتمر وسعيهم لإعادة إعمار ما دمّره الإرهاب والفساد، فإني على يقين أن تلك الأموال ستعْمِّر جيوب الفاسدين قبل أن تُعمِّر شبراً من أرض العراق!
إنها مأساة كبرى أن تتحكّم في العراق طغمة فاسدة، جعلتنا ونحن الأعزاء نستجدي المانحين ونفتشّ في تاريخنا عن مواقف الكبرياء لنقف بشموخ على أعتاب التاريخ هروباً من ذلّ الحاضر ومهانته.
تُرى ألا يوجب كل ذلك ثورة شعبية تعيد ذكرى اقتحام البرلمان وفرار الفاسدين وبكائهم على (قنفة) تحطّمت واعتبروا تحطّمها إهانة لهيبة الدولة المنهوبة والمُستَلَبة دون أن يشعروا بتحطيمهم للدولة ذاتها؟!
ألا يوجب ذلك انتفاضة تُلقي بالفاسدين إلى مكبّات النفايات أو مدن التيه من حيث جاؤوا وتعيد لهذا الوطن كرامته؟
ألا يوجب ذلك أن نكون أوفياءً لتلك الأرواح التي حَلَّقت في السماء لأجلنا، فنواصل رفض الظلم والفساد، ورفض تدمير الوطن؟؟
تُرى هل نحن بحاجة لتجديد ثورة 1958 في 2018؟
وأخيراً: تُرى هل سيقودني مقالي هذا إلى السجن أو الموت عملاً بقوانين الطغمة الفاسدة المُكَمِّمة للافواه؟
أبكيك يا وطني.. وللبكاء بقية