الناظر في حياتنا الأدبية والثقافية يلحظ البؤس الثقافي الذي نعيشه في السنوات الأخيرة.فقد تحول الفكر الى تجارة في السوق الحرة، وأستفحلت ظاهرة الأرتزاق والتلون وازدواجية المواقف ومسح الجوخ، وكثر الأنتهازيون والوصوليون والمتعهرون الذين يمارسون كل أنواع وأشكال الزنى واللواط الفكري والعقائدي والبغاء الثقافي والسياسي. كما وتخلى المثقفون عن دورهم الطبيعي والطليعي في صياغة شرف الكلمة ،وشاعت الفوضى الأدبية على مستوى الأفراد والجماعات ،وأنحلت الأخلاق والقيم الثقافية،وغابت المؤسسات والتنظيمات الأدبية مثلما غاب الوقار الأدبي والشعر الحقيقي، وانهار الأدب وتراجع ووصل حضيضاً لم نعرفه سابقاً .وايضاً تراكمت الأصدارات والمطبوعات المحلية رزماً في جنبات البيوت وامتلأت بالغبار المتطاير ولا ينظر اليها أحد، وبات الشعراء يقرأون قصائدهم لنفر قليل أو لأنفسهم، وعدد المتحدثين في الندوات أكثر من عدد الحاضرين. هذا ناهيك عن أن المشهد الثقافي أخذ يقتصر على بعض المهووسين الذين ما زالت الكتابة الأدبية تسحرهم وما فتىء الكتاب يجذبهم .والأنكى من ذلك ان التسويق والعلاقات العامة و”صناعة ” النجوم غدت عنصراً أساسياً ً وهاماً في حياتنا الثقافية ، فيسوق هذا الكاتب من هذه القبيلة أو هذا لشاعر من تلك العشيرة ، ويعتم على اخرين ممن لا يجيدون العلاقات العامة ويفضلون البقاء في الظل والذين يعانون من الجاهل المتعمد الملفوف بنرجسية بعض الكتاب والنقاد.
ولا تسل عن العلاقات الأدبية والتنافس والتزاحم بين الكتاب والمتثاقفين وأهل القلم والدفتر ، اذ تنتشر الدسائس والمكائد والقيل والقال وتتعمق النرجسية البغيضة ومظاهر الذاتية والغرور واللهاث وراء الشهرة الرخيصة الفارغة والسباق على الميكرفونات والمنصات الأدبية. وتزداد حالة الاستكتاب والتوسل والالحاح من المتشاعرين وأشباه الكتاب على محرري الصحف للكتابة عن أعمالهم وكتبهم وأخبار نشاطاتهم . هذه الأخبار التي يكتبونها بأنفسهم ويتم توزيعها عبر الناسوخ والاميل على جميع الصحف والمواقع الألكترونية . وزيادة على ذلك فأن الكاتب لم يعد صاحب رسالة كما كان في الماضي الجميل بل أضحى همه وشغله الشاغل حصد الجوائز الأدبية بأية طريقة وبأي ثمن ودون وجه حق وباللف والدوران ، وأمسى الكتاب يصدرون 3 كتب متتالية لكي يحظوا بجائزة التفرغ.!
فرحم اللـه تلك الأيام التي كانت الجائزة ذات وزن وقيمة ورونق وتعطى لمن يستحقها بجدارة، ولم يكن الكاتب بحاجة الى الاستجداء وتقبيل الايادي وبوس اللحى ليحصل عليها. ويكفي في أيام العهر والدعارة الثقافية الحالية ان تعرف اسلوب الحك وكيف تضرب بسيف السلطان و”من أين تؤكل الكتف” فتحصد العديد من الجوائز المالية. ثم فأن حياتنا الثقافية لا تزال تفتقر الى فرع أساسي وهام هو فرع النقد، حيث أن النقد هو أحد المعايير الحاسمة لنضج وتطور الحركة الأدبية بل النهضة الحضارية للشعوب.
قد لا اغالي ولا اجافي الحقيقة اذا قلت ودون تجن اننا أمام مهزلة وحيال اكذوبة وخداع ولم نعد نملك حركة أدبية بمفهومها الايجابي الواعي، فمثل هذه الحركة غائبة اليوم ، من حيث الطرح والتأثير وتأدية الرسالة المنوطة بها، وطنياً واجتماعياً وثقافياً وأنسانياً على المستوى الشعبي والجماهيري.
ولا ينتطح عنزان بأنه في الماضي كان الكاتب صاحب رسالة يؤمن بها وينطلق فيها ويدعو اليها ويعمل على ترسخها وتأصيلها في مجالات التوعية والترشيد والتطور وخلق وانشاء المجتمع الأفضل، وملتزماً بالقيم الاصيلة والأهداف والمصالح العليا وقضايا المجتمع والجماهير التي يستمد منها ويتوجه اليها في نتاجاته وابداعاته الأدبية.، وعلى رأسها القيم الوطنية والثورية والانسانية والجماعية والقضايا المصيرية لهذه الجماهير. أما اليوم فقد تغير الحال وغدا الكاتب يهتم ويناجي الذات ويعشقها ويركز على الهموم والغرائزالفردية ويفتقر لهوية ثقافية وفكرية.
أخيراً، وازاء الحال الثقافي المتسيب والفوضوي فأن المطلب الأساسي هو الدفاع عن القيم الثقافية الحضارية والصمود في وجه جرافة الانحطاط والمد الطافح بالقذارة والبؤس والفيروسات، فالناس بحاجة ماسة الى الخبز والورد والفرح والثقافة الشعبية الحقيقية. لذا هنالك ضرورة لاعادة الاعتبار لحركتنا لثقافية والأدبية وتطوير الأشكال الأخرى لنشر الوعي الاجتماعي والثقافي، وتطوير فولكلورنا الشعبي العريق في حفلاتنا وأعراسنا ومناسباتنا وأعيادنا الوطنية بحيث لا تنطفىء دبكة شمالية ولا يختنق ارغول ولا تختفي السحجة، ولنحرس الكرم ونغني للأيام الجميلة التي لم تأت بعد ـ على ذمة الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت. وكم نحن بحاجة الى تطوير منهج نقدي أصيل ، وفق معايير نقدية تعتمد على المعرفة المتعمقة وبناء من جديد ـ حركة أدبية وثقافية شاملة ومتكاملة ذات رسالة واضحة المعالم والتأثير.