22 ديسمبر، 2024 7:17 م

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

( الحلقة الخامسة والعشرون )
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ عبثيةَ سِّياسات الأنظمة الدكتاتورية الَّتِي قدر لَهَا أنْ تتحكمَ بمصائرِ الكثير مِنْ شعوبِ العالم، أوقعت بلدانها فِي الكثيرِ مِنْ المآزق، وَجلبت الخراب وَالكوارث الدموية الَّتِي تسببت فِي تهشيمِ حياة شعوبها، وَلاسيَّما مَا أشعلتهُ مِنْ حروبٍ لا غرض مرتجى مِنهَا غير تدعيم سُّلطة تلك الأنظمة المستبدة بِأنهارِ دمٍ وَمزيد مِنْ جماجمِ الأبرياء، فضلاً عَنْ تداعياتِها المحملة بِمَا تباين مِن المحنِ وَالمصائب. وَلأنَّ الكتابةَ تساهم فِي تعزيزِ معنى الحياة، فقد تعددت أقوال الأدباء وَآراء الحكماء عَنْ مآسيِّ تلك الأنظمة المقيتة بحكمِ معايشتهم، إلى جانبِ التجارب المستمدة مِنْ حياةِ الآخرين، وَمِنْ بَيْنَ مَا قرأته فِي هَذَا السياق هو إشارة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم ( 1939 – 2014 ) الَّذِي يُعَدّ أحد أهم الشعراء العرب الَّذين ارتبط اسْمهم بشِّعْرِ الثورة وَالمُقَاوَمَة مِنْ داخلِ أراضي العام 48، إلى مصائبِ تلك الأنظمة الفاشية بالقول ” النظام الدكتاتوري، قد يبني التماثيل في الوطن، لكنه يهدم الإنسان فِي المواطن “. وَفِي السياقِ ذاته، أوضح الأديب جبران خليل جبران اعتلال الكرامة الإنسانيَّة فِي ظلِ سطوة الأنظمة الاستبدادية تعبيراً عَنْ اختلالِ علاقة الحاكم بالمحكومِ فِي قولِه ” هل لطاغيةٍ أنْ يَحكمَ الأحرار والأعزة إلا إذا شابَ حريَتهم الاستبداد، وخالط عزتهم العار؟ “. وَقد يَبْدُو للبعضِ أنَّ الحديثَ فِي هَذَا الأمر مِنْ ترفِ القول، إلا أنَّ الواقعَ يؤكد أنَّه ليس سهلاً أنْ يتجاهلَ الإنْسَان الآثار النَفْسِيَّة الَّتِي تخلفها سِّياسات الانظمة الدكتاتورية، فَمِنْ يعاني قيود الديكتاتوريات أو عانى مِمَا تباين مِنْ أشكالِ الظلم الَّذِي أذاقته إياه تلك الانظمة لفتراتٍ مِنْ حياتِه، يبقى عَلَى الدوامِ أسير مشاعر نَفْسِيَّة وَاجْتِماعِيَّة، تلزمه المطالبة بالحريةِ الَّتِي تُعَدّ القاسم المشترك لجميعِ مَا شهده التأريخ مِنْ ثوراتٍ ضد الأنظمة الاستبدادية.

***
كـبّـرَتْ مـئـذنـة ُ الـروح ِ ..
فـأغـلـقْـتُ كـتـابـي
وتـوضّـأتُ بـعـطـر ٍ ..
ثـمّ وجّـهْـتُ إلى الـلـه ِ فـؤادي ..
وعـيـونـي لـلـتـي لـيْـسَـتْ تُـسـمّـى

خـاشِـعـا ً ..
سِـجّـادتـي مَـحْـضُ تـراب ٍ
ربّـمـا كان أخي فـي الـجـوع ِ والـعـشـق ِ
ومِـثـلـي عـاش تـشـريـدا ً ..
ومِـثـلـي ذاق ظـلـمـا ..

أو أمـيـرا ً
عـاشَ كـلّ الـعـمـرِ تِـيْـهـا ً ..
ثـوبُـه ُ يـكـنِـزُ يـاقـوتـا ً وشـحْـمـا

عَـطـشـي يَـسـمـو عـلـى كأسـي ..
وجـوعـي مـنْ رغـيـف ِ الـلـذة ِ الـسّـوداء ِ
أسـمـى ..

شـاكـرا ً حِـيـنـا ً ..
وحِـيـنـا ً أسـألُ الـصّـفْـحَ
عـن الأمـس ِ الـذي عـاقـرتُ إثـمـا

بـهـوىً كـنـتُ بـه ِ :
الـسَّـجّـان َ والـمـسـجـون َ ..
والـقـاتـِـل َ ..
والـمـقـتـولَ ..
والخِـنـجَـرَ ..
والـجُّـرْحَ الـمُـدَمّـى !

سَـجْـدَة ٌ مـرّتْ ..
وأخـرى ..
وإذا بـيْ :
طـائِـرٌ أعـبـرُ صـحـراءً ..
ويَـمّـا ..

لـيْ جَـنـاحـان ِ :
جـنـاحٌ يـلـمَـسُ الأرضَ
وثـان ٍ ريـشُـه ُ يَـعْـبـرُ غـيْـما .. !!

لاح ” صوفائيلُ ” في الأفـق ..
فــتـمْـتـمْــتُ خـفـيـضـا ً :
بـصَـري كـان سـلـيـما ً
غـيـر أنّ الـقـلـبَ أعْـمـى !

***
تدعيماً لِمَا ذُكر آنفاً، فَمِن الْمُفِيدِ الإشارة هُنَا إلى إنَّ هناكَ الكثير مِن الرؤى الَّتِي لها دلالاتها العميقة فِي بيانِ أهمية هَذَا الأمر، وَلعلَّ مِنْ بَيْنَها مقولة جميله أطلقها قبل عقود مِن الزمانِ الشاعرَ وَالكاتب المسرحي وَالممثل الإنجليزي وِلْيَمْ شكسبير ( 1564 – 1616 ) الَّذِي يُعَدُّ مِنْ أشهرِ الشخصيات الأدبية الكبرى فِي العالمِ الغربي، وَالَّتِي يعبر فِيهَا عَنْ رفضِ الإنْسَان الخضوع لإكراه السُّلطةَ بقولٍ نصه ” أَطلِقْ لسانك بما تشعرُ به وليس بما أنت مُجبرٌ على قولِه “. وَلأَنَّ السَماويَّ يحيى مؤمن بحتميةِ الخلاص وَبزوغ فجرٍ جديد، فقد كان بشهادةِ مجايليه – وَمَا يزال – وَطنياً مخلصاً، لَمْ يتخذ مِنْ توجهِه اليساري ” جداراً شعائريا أو مظهراً شعبيا أو موقفاً استعلائياً “، فالسَماويّ يحيى بحسبِ الفنان التشكيلي وَالناقد عباس حويجي ” يساري بالفطرة، فطرة إنسانية تقف دائماً مع المظلوم ضد الظالم، ومع الحق ضد الباطل، ومع الاشتراكية ضد الرأسمالية “. وَيعلل حويجي – الَّذِي عُرف بنظمِ الشعر أيضاً منذ يفاعته – المَسَار النضالي الخاص بصديقِ طفولته أبي الشيماء بالقول ” هو موقف إنساني عام، دعمته الموهبة الشعرية المبكرة عندما لامس شغفه الثقافي بمواقفِ وأدب شعراء اليسار الكبار كالجواهري وبحر العلوم والسياب والبياتي والحيدري وسعدي يوسف وغيرهم، إضافة الى شعراءِ اليسار العالميين حيث تتداول كتبهم ومواقفهم في تجمعات مثقفي اليسار “. وَفِيمَا كان حويجي يلامس قدح الشاي بأنملته مِنْ دُونِ أنْ يتناولَ رشفة منه وَهو يحاول العودة بذاكرتِه إلى الأمسِ البعيد لاسترجاعِ شريط الذكريات، عاد إلى الحديث بالقول ” من ماياكوفسكي واراغون وإيلوار وناظم حكمت ولوركا ونيرودا الاكثر شهرة وتداولا منذ الخمسينيات من القرن الماضي، شكّل هؤلاء وغيرهم ليحيى وأمثاله من شعراء اليسار العراقيين : شعلة التمرد ومفتاح التنوير وفرح الاكتشاف ورؤى التجديد والحداثة؛ فتسلحت تلك الفطرة بالوعي السياسي والتطور الفني والنظرة التقدمية للتراث القومي والفولكلور الشعبي، وما يتمخض عن النضال السياسي اليومي “. وَيختتم حويجي شهادته عَنْ السَماوي بالقول ” يسارية الشاعر يحيى السماوي كانت اختياراً لابد منه وانتماءً إنسانياً أكثر مما هو حزبي، فهو من جيلٍ كانت السياسة شغله الشاغل، ومن بيئةٍ اجتماعية تعيش على حافةِ الكفاف مثل أكثرية الشعب العراقي آنذاك “.

أيـتـهـا الـمُـقيَّـدةُ بـسـلاسـل نـبـضـي
الـمـحـكـومـةُ بـعِـشـقـي الـمـؤبّـد :
مـا أضيـق زنـزانـةِ الـدنـيـا
لـولا
نـافـذةُ الـحـب !
*
حـيـن رأيـتـكِ
إكـتـشـفـتُ أنّ قـوسَ الـقـزح
يُـمـكـن أنْ يـتـألَّـفَ مـن لـونٍ واحـد
وأنّ الـوردةَ الـواحـدة
يـمـكـن أن تـكـون بـمـفـردهـا حـديـقـة
*
نـهـرُكِ الـذي شـربـتُـهُ قُـبـلـةً قُـبـلـة ذات لـقـاء
ذرَفْـتُـهُ
دمـعـةً دمـعـة ذات وداع
*
دأبَ الأدباءُ وَالفنانون منذ أمد بعيد عَلَى وصفِ الكثير مِنْ المشاهدِ الصادمة لصورِ الظلم الَّتِي تتحكم فِي تشكيلِها مُؤَسَّسَات الأنظمة الشمولية القائمة عَلَى سوءِ استخدام السُّلطات الممنوحة لِهَا دستورياً مِنْ أجلِ توفير الحقوق الإنسانيَّة لمواطنيها، بعد أنْ ركنت تلك الحُكُومات إلى استخدامِ مَا تباين مِن الأساليبِ القمعية امتداداً لفشلِها فِي إدارةِ سياسات بلدانها. وَفِي هَذَا السياق يُعبر الطبيب وَالأديب الروسي أنطون تشيخوف ( 1860 – 1904 ) الَّذِي كان يُنظر إليه بوصفِه مِنْ أفضلِ كتاب القصة القصيرة عَلَى مدى التاريخ، عَنْ التأثيراتِ المباشرة الَّتِي تقع عَلَى الشخصِ الَّذِي يتعرض إلى المظلوميةِ بالقول ” لا أريد شيئا, ولكن الظلم يثير تقززي “. وَليس خافياً أنَّ المواطنَ العراقي كان يتعرض للاعتقالِ عند قيامه بأيِّ نشاطٍ يعارض سِّياسَات النظام الدكتاتوري الَّذِي تمرس عَلَى خنقِ الحريات، وَعُرفَ بارتكابِه التجاوزات، فضلاً عَنْ فرضِه حالة مِن الرهبةِ فِي نفوسِ المواطنين، إلى جانبِ إحكامه رقابة صارمة عَلَى جميعِ الأنشطة المتعلقة بحريةِ التعبير؛ إذ لَمْ تكن هناك ضمانات لممارسةِ الجماهير حقها فِي التعبيرِ عَن الأفكارِ والآراء، مَعَ العرضِ أنَّ حُرِّيَّةَ التعبير تُعَدّ أحد حُقُوق المواطن الأساسية. وَكمثال حيّ عَلَى ذلك هو الضغوط الَّتِي كانت تمارسها حُكُومة القائد الضرورة حيال مَا كان يقام مِنْ نَّشَاطُاتٍ ثقافيَّة، كما حدث عَلَى سبيلِ المثال لا الحصر فِي عام 1971م، حين أُقيمتْ أمسية شِعْرية فِي ساحةِ النادي الرياضي بمدينةِ السَماوة، وَلمصادفةِ وجوده فِي مدينته، دُعي السَماوي يحيى الَّذِي كان وقتها طالباً فِي الجامعةِ للمشاركةِ فِي فعالياتها، فلبّى الدعوة استجابة لإلحاحِ الأصدقاء وَالمشرفين عَلَى تلك الأمسية، فارتقى المنصة وَقرأ قصيدة لَمْ يمتدح بِهَا فكر الحزب الحاكم أو الترويج الموهومِ مِنْ إنجازاته، فكان أنْ طرقَ شرطيّ أمن باب أبيه فِي اليومِ التالي، معتمداً أسلوباً سلساً فِي محاولةِ إقناع السَماوي الحضور إلى مُدِيرِيَّةِ أمن البلدة، حيث أبلغه قائلا : ” إنَّ السيدَ مدير أمن البلدة عنده سؤال بسيط، ولن تتأخر غير دقائق معدودة “. وَمَعَ معرفته بخفايا الأمور وَعواقبها فِي أجهزةِ أمن النظام منذ أنْ لسعَ ظهره أول سوط، وتلقى وجهه أول صفعة فِي معاونية شرطة القشلة، لكنه لَمْ يكن فِي يده حيلة سوى الذهاب مَعَ رجلِ الأمن الَّذِي اصطحبه إلى تلك المُدِيرِيَّة الَّتِي استقبلته فِيها مظاهر العنف كالعادة قبل أنْ يخبره الضابط الَّذِي يدير مُدِيرِيَّة أمن البلدة رسالة فِيها تهديد مبطن، بِمَا مفاده ” إنَّ الشِّعْرَ سيسبب له الكثير مِن الإهانات، ويجعله يخسر كرامته وسمعته “.
*
حـيـن مَـسَّـدَتْ نـحـلـةُ فـمـي زهـورَ شــفـتـيـكِ
سـالَ الـشـهـدُ مـن قـلـمـي
وسـطـوري غـدتْ بـتـلاتِ نـجـوم
*
يـومُـكِ أمـسـي .. وغـدي يـومُـك ..
مُـذْ أنـقَـذَتِـنـي مـنـي وأطـفـأتِ حـرائـقـي بـنـارك
ونـحـنُ :
قـوسٌ وسـهـم ..
مـحـراثٌ وتـنُّـور ..
ومـحـرابٌ وصـلاة
وحـدُهُ تـنـورُكِ مـا يـمـلأ صـحـونَ مـائـدتـي
ولـيـس مـا يـمـلأ واديـكِ الـعـمـيـقَ
إلآ سـيـولـي
*
نـهـرُكِ الـمـمـتــدُّ مـن قِـمَّـةِ رجـولـتـي
حــى أخـمـصِ أنـوثـتـِك
صـرتُ ضِـفـتَـه الـثـالـثـة !
*
يـوم تـسـلّـقـتُ نـخـلـتـكِ قُـبـلـةً قُـبـلـة
ســقـطـتُ مـغـشـيّـاً عـلـيـكِ
مـن أثـر الـلـذة
وكـمـا يـتـلاشـى الـدخـانُ فـي الأعـالـي
تـلاشـتْ أمـطـاري فـي واديـكِ
مـوقـظـةً عـشـبَ ربـيـعِـك
فـي صـحـراءِ خـريـفـي
*
ضابط الأمن الَّذِي نجهل أي زاوية قصية اتخذها هو – وَمِنْ أمثاله – مستقرا لهم فِي ” أرصفةِ الهوامش “، والَّذِي جهد فِي محاولةِ حمل السَماوي يحيى عَلَى الكَفِ عَنْ كتابةِ الشِّعْر، بالإضافةِ إلَى إخبارِه عمَّا سيحل به فِي القادمِ مِن الأيام؛ لأجلِ تقويض جذوة همته وَاحتواء ثوريته المتنامية، لَمْ يطلع قطعًا – حتى وَلو بشكلٍ محدود – عَلَى ثمراتِ الذهن الإنسانيّ فِيما يتعلق بمواجهةِ الاستبداد، كمقولة الشاعر وَالروائي فيكتور هوغو ( 1802 – 1885 ) الَّذِي يُعَدّ أبرز أدباء فرنسا فِي الحقبةِ الرومانسية، وَالَّتِي نصها ” عندما تصبح الدكتاتورية حقيقة واقعة، تصبح الثورة حقاً من الحقوق “، وَلَمْ يَدُر بخلَدِه أيضاً وَهو يبلغه رسالته تلك، أنَّ هذا الطالب الجامعي سيصبح يوماً فناراً مشرقاُ فوق أرصفة الأدب، أو كمَا يشير إليه الأستاذ الدكتور خضير درويش بوصفِه ” باسقة مِن باسقات عراقنا الحبيب “، فأين الثَّرَى مِن الثُّرَيَّا ؟ كما يقول المثل العربي؛ إذ أَنَّ السَماوي يحيى أو ” المبدع الدائم الإقامة في كونِ الشِّعْر البهي قمرا ” بحسبِ الشاعر وَالناقد وَالأكاديمي الدكتور عبد المطلب محمود، حظيَ منجزه الشِّعْري الإبداعيّ باهتمامِ الكثير مِن الأكاديميين وَالباحثين وَ الأدباء وَالنقاد ” دراسة وَنقداً وَترجمةً وَبحثاً وَتحليلا “، وَلعلّ مِن المناسبِ أنْ أُشيرَ هُنّا عَلَى عجالةٍ إلى غيضٍ مِنْ فيضِ آراء بعضهم، حيث يشير إليه الشاعر الدكتور عصام البرام بِمَا نصه ” عندما تتسامق قامه أدبيه شعريه كبيرة، تحمل بين طياتها روح العراق وقامة نخيله الممتدة على فراتيه، والمتمثلة بشاعر العراق الاستاذ يحيى السماوي، فلابد من الوقوف برهة للتأمل بمثل هذه القامة ، والتأمل بروح القامه والابداع الذي رسمه لنا مثل السماوي عبر تأريخه الإبداعي والنضالي الكبير “. ويضيف البرام أيضاً مخاطباً إياه ” لقد كنت كما قرأتك في الأمس وأقرأ اليك اليوم، شمعة أدبية عراقية بين الشموع العالمية، والتي أضافت للإنسانية جمعاء أدباً عالمياً وضاء “. وَيقول الكاتب وَالسِّياسِيِّ العراقي الدكتور كاظم حبيب الَّذِي يعمل فِي مجالِ الدفاع عَنْ حُقُوقِ الإنْسَان ” إنَّ هذا الشاعر الغريد يستحق الكثير الكثير الذي نعجز عن ذكر مساهماته الرائعة في نشر الحب عبر مشاعره الإنسانية المتجسدة في قصائده الممشوقة والشفافة “، وَيكتب عَنه الشاعر وَالمترجم الأردني نزار سرطاوي المولود فِي بلدةِ سرطة الفلسطينية ” الشاعر الكبير يحيى السماوي، مبدع وإنسان أثرى الساحة الأدبية والثقافية بفيض من نور، وأسهم في تشكيل ذائقتنا الأدبية “. وَفِي مداخلةٍ جميلة كتبها فِي منتصفِ أيلول مِنْ عامِ 2017م بأحدِ المواقع الإلكترونية الأديب العراقي الدكتور حميد نعمة العبد مشيراً فِيها إلى شاعريةِ السَماوي بالقول ” منذ اكثر من خمس سنين عدت الى العراق، ومن يومها لم اتصفح اية مجلة او أكتب في أية صفحة، لكن مجيء صديقي الدكتور حسين سرمك إلى الديوانية واهداءه لي بعض مؤلفاته ومنها الكتاب الذي يناقش مسيرة الشاعر يحيى السماوي كشاعر ايقظني “. كذلك تحدث الشاعر العراقي سلام كاظم فرج عَنْ منجزِه الإبداعي بقولِه ” الشاعر يحيى السماوي رمز إنساني كبير، منح الشعر العربي الأصيل ديمومته وجزالته وعنفوانه .. غنى شعبه في أحلك العهود “، فلا غرابة فِي أنْ يكون الإبداع عنواناً للسَماوي يحيى الَّذِي عبرت عَنه الشاعرة العراقية الدكتورة سراب شكري العقيدي بالقول ” الشاعر الكبير يحيى السماوي قامة شعرية هامة لها حضورها اللافت في المشهد الشعري العراقي والعربي والمهجر “.
*
فـمُـكِ لـيـس شـيـطـانـاً
فـلـمـاذا لا يـقـبـلُ الـعـشـقُ حَـجَّ فـمـي
إلآ بـعـد رمْـيِـهِ بـسـبـعِ بـاقـاتٍ
مـن زهـورِ الـقُـبُـلات ؟
*
حـيـن عـقَـدَتِ الـحـديـقـةُ قِـرانَ مـيـاسـمـي عـلـى تُـوَيـجـاتـك
آمـنـتُ أنّ ” الـقـنـاعـةَ كـنـزٌ لا يـفـنـى ”
فـأنـا يـكـفـيـنـي مـن كـلِّ الـدنـيـا :
خِـدرُكِ
وكـأسٌ مـن زفـيـرِك
وطـبـقٌ مـن خـبـز تـنـورك
مع لـحـافٍ مـن دفـئِـكِ يـسـتـرُ عـورةَ
شِـتـاءات جـسـدي !
*
مـنـذ أربـعـةِ أنـهـارٍ وخـمـسـةِ جَـداول
وأنـا بـسـتـانٌ عـلـى سـعـةِ الـعـشـق
عـاصـمـتُـهُ نـخـلـتُـك
*
لا عُـشَّ كـشـفـتـيـكِ يـلـيـقُ
بـعـصـفـور فــمـي
*
أكلُّ هـذه الـبـحـارِ/الـصـحـارى / الـغـابـاتِ / الـتي بـيـنـنـا
ونـحـن أكـثـرُ اقـتـرابـاً
مـن شـفـتـيـن مـضـمـومـتـيـن !
السَماويُّ يحيى أو ” أحد أنهار العراق الذي يفتخر به العراق وأهله ” بحسبِ القاصة العراقية سنية عبد عون رشو، وَالَّذِي لَمْ يكن بوسعِه – مثل الآلاف مِنْ أبناءِ شعبه – مغادرة السباحة فِي بحيرةِ الوجع العراقي، كان أحد الأعمدة الرئيسة فِي الشريحةِ الاجْتِماعِيَّة الأولى مِن المتضررين بفعلِ سياسات النظام الدكتاتوري؛ إذ أنَّ ضريبةَ مواجهة السُّلطةَ أملاً فِي بزوغِ فجر الحُرِّيَّة الَّذِي يفضي إلى استعادةِ البلاد هويتها وَسيادتها وَهيبتها، كانت ثقيلة التداعيات وَباهظة التكاليف عَلَيه، حيث ارتضى وَهو يتصدى لِمَنْ نهشَ أحلامه واغتصب مستقبل شعبه، البعيد مِن المنافي، وَعمل فِي أحلكِ الظروف بساحاتِ الغربة الَّتِي لا تخلو يومذاك مِنْ خطورةِ الملاحقة وَالاغتيال، فكان أنْ تركَ بصمات قوية، لا يمكن محوها مِن ملفاتِ الذاكرةِ الوَطَنيّة، حيث أَنَّ السَماويَّ مَا يَزال رباناً ماهراً فِي توجيِه منظومته الشِّعْرية بصورةٍ جعلته : ” يقف عند سدرة الإبداع، يضيء جوانب العتمة وهو يطل علينا من أفق النور حاملاً بيديه عشبة الشعر الخالد ” بحسبِ الشاعر العراقي أحمد الشطري. وَلا أدل عَلَى هَذَا المعنى مِنْ قيامِ “المؤلفة الموسيقية الأسترالية HILARY KLEINIGبتحويلِ خمسٍ مِنْ قصائدِه إلى نوتاتٍ موسيقية بتقنيةٍ خلابة عَلَى شكلِ لوحةٍ جدارية، تعبيراً عَنْ اهتمامِ دول أوروبا بالخيالِ السمعي وَالبصري المستفز، وَتثميناً لمنجزِ السَماويّ الإبداعي. وَممَا هو جدير بالإشارةِ أنَّ بعضِ مَا ظهرَ مِن جزئياتِ الرؤية النقدية الخاصة بتجربةِ السَماوي الأدبية فِي ظل معادلةِ الإبداع، أكدت عَلَى قيمةِ توظيفه الألم فِي منجزِه الشِعري، وَالَّتِي ساهمت بتوطيدِ رأيٍ عام مشترك فِي المشهدين الثقافي والانساني، وَلعلَّ ما ذكره صديقه الشاعر فائز الحداد، يؤكد الأمر الَّذِي ذهبنَا إليه، حيث قال الحداد مَا نصَه ” أنني أسألك ايها المبدع الكبير.. لولا هذا الألم الذي اجتاحك عاتياً، هل خرج هذا الفيض الهائل ككراتِ نارٍ من قلب بركانِ محتبس؟؛ أذن أتمنى لك الألم الذي تمنيته لي يوماً ما… كي نحفل بأبداعك المثابر والثائر على سكون الأشياء “.

مَـطَـراً مـن الأعـيـادِ جـئـتِ
وكـنـتُ قـبـلـكِ ـ كـالـعـراقِ ـ يـتـيـمَ عِـيـدْ

حَـدَّقـتِ بـي وسـألـتِـنـي : مـن أيـن أنـتَ ؟
فـقـلـتُ : مـن أعـرابِ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ مَـسَّـنـي عـشـقٌ
فـغـادرَنـي الـرشـادُ وهـا أنـا : الـحـيُّ الـشـهـيـدْ

قـبـري مـعـي يـمـشـي ولا صـحـبٌ سـوى مـوتـي الـمُـؤجَّـلِ
أقـتـفـي أثَـرَ الـمـلاكِ الـسـومـريـةِ فـانـتـهـيـتُ الـى بـلادِ الـغـربـتـيـنِ
وهـا أنـا : تـسـعٌ وعـشـرون انـتـهـيـنَ ولـم أجـدنـي فـابـحـثـي عـنـي
صـفـاتـي : نـخـلـةٌ مُـذ غـادرَتْ بـسـتـانـهـا عَـقُـمَ الـنـضـيـدْ

إنـي عـثـرتُ عـلـيـكَ ـ قـلـتِ ـ فـقـمْ مـعـي لِـنُـعـيـدَ لـلـبـسـتـانِ خـضـرتَـهُ
ولِـلـتـنُّـورِ أرغـفـةَ الـمـسـرَّةِ والـسـمـاوةَ لـلـشـريـدْ

عـنـدي عـلاجكَ مـن ضَـيـاعِـكِ فـيـكَ فـادخـلْ آمِـنـاً قـلـبـي

وكـنْ فـي الـعـشـقِ سـادنـيَ الـوحـيـدْ

سـأقـومُ مـن قـبـري لأحـيـا مـن جـديـدْ :

طـفـلاً .. فـتـىً .. شـيـخـاً كـمـا قـيـسُ الـمُـلـوّحُ
لا كـهــرون الـرشـيـدْ

هـيَّـأتُ نـاراً لـلـتـصـاويـرِ الـقـديـمـةِ والـرسـائـلِ والـمـنـاديـلِ الـحـريـرِ
ومـعـولاً لـكـؤوس مـائـدتـي
ومـحـرابـاً يـلـوذ بـهِ مـن الأمـسِ الـبـعـيـدْ

مـا سـوف أتـلـو مـا تـيَـسَّـرَ فـي جـلالـكِ مـن قـصـيـدْ

وضـيـاءَ قـنـديـلٍ يُـريـنـي مـا أريـدْ

لا تـسـألـيـنـي عـن رمـاد الأمـسِ قـد أبـدلـتُ ذاكـرتـي
فـخـبـزُ الأمـسِ تِـبـنٌ والـنـمـيـرُ كـمـا الـصـديـدْ

عـدتُ الـجـديـدَ كـمـا الـولـيـدْ

مَـلِـكـاً غـدوتُ
وكـنـتُ آخـرَ مُـسـتـبـاحٍ مـن سـلالاتِ الـعـبـيـدْ

تدعيماً لِمَا ذكرناه آنفاً، فإنَّ السَماويَّ يحيى أسرني ذات مرة، إعجابه بمقولةِ الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه ( 1875 – 1926 ) الَّذِي يشار إليه باسْمِ الشاعر الذي قتلتْه وردة، فضلاً عَنْ أَنَّه يُعَدّ وَاحداً مِنْ أكثرِ شعراء الألمانية تميزا، وَالَّتِي نصها ” الأعمال الفنية تنبع دائماً من أناس واجهوا الخطر، ووصلوا إلى النهاية القصوى للتجربة، وكلما ازدادت جرأة الإنسان على التوغل، كلما أصبحت الحياة أكثر جدارة للاحترام وأكثر ذاتية وأكثر تفرداً “، بَيْدَ أنَّ السَماويَّ الَّذِي نَشرتُ عَنهُ قبل سنوات تدوينة كتبت فِيهَا ” السَماويُّ قامةٌ سامقةٌ فِي سوحِ الثَّقَافَة، وَصوتٌ باسقٌ معني بقضايا الإنْسَان، وَتأريخٌ حافلٌ بالنضالِ ضد الدكتاتورية “، وَبفضلِ مَا عُرِفَ عَنه مِنْ تواضعٍ يترجم فلسفته فِي الحياة وَرؤيته حول التعامل مَعَ الإبداعِ الأدبي بالقولِ : ” لا أزعمُ أنَّ ليّ أعمالاً فنية ترقى إلى ما يطمح له الفن – شعرا كان أو نثراً أو سواهما – لكنني أعتبر حياتي ذاتها موضوعاً فنياً يتوجب عليّ خوض غماره بصدقٍ كي تكون الحياة جديرة بالاحترام “، فالوطنُ على وفقِ رؤية السَماوي يحيى، يمثل ” الحبيب ” الَّذِي استعذبَ مِنْ أجلِه أقسى العذابات، لكن ولاة أمره كما يقول : ” جعلوني أشعر أنني أحبه مِنْ طرفٍ واحد؛ نتيجة حماقاتهم وسياساتهم الَّتِي جعلته فِي شبه حالة إغماء “. ولعلَّ مِن المذهل أَنْ يعترفَ السَماويّ بعدمِ كتابته قصيدته الأُمنية، حيث يشير إلى ذلك بِمَا نصه : ” لم أكتبها بعد، ولن أستطيع كتابتها؛ إذ أَنَّ قصيدتي الأُمنية سيكتبها غيري، وعند ذلك سأشعر بفرحٍ صوفي وأنا متدثر بالتراب “.

نـخـلـةَ اللهِ الـبـتـولـيّـةَ : سِـرِّي بـاتَ جـهـراً ..
فـاكـتـمـي جـهـري الـذي أصـبـحَ سِـرِّيْ

آنَ لـيْ أنْ أخـلـعَ الان جـلابـيـبَ وقـاري
لأعـودَ الـطـفـلَ يـلـهـو بـيـن مـوجٍ هـائـجِ الـمَـدِّ
وجَـزرِ !

مُـسـتـعـيـراً مـنـكِ يـا مـعـصـومـةَ الـعـشـقِ جـنـاحـيـنِ
فــأمـضـي رحـلـتـي داخـل ذاتـي !
فـأنـا أصـبـحـتُ غـيـري !

كـلَّ يـومٍ :
وأنـا أولَـدُ إنـسـانـاً جـديـداً ..
لـمْ أعـدْ أعـرفُ كـمْ أصـبـحَ عـمـري !

فـرحـي فـاضَ فـغـطـّـى ضِـفـتـيْ نـهـري
ووديـانَ ” طـوى ” الـعـشـقِ
ويُـسـري !

مِنْ بَيْنَ مظاهر الاضطهاد الكثيرة الَّتِي تعرض لَهَا السَماويّ، أَنَّه يوم كان مدرساً فِي إعداديةِ السَماوة، وَزّعت النقابة – بإشراف حزب السلطة ومديرية الأمن – قطع أرض عَلَى المعلمين والمدرسين، لكنه – وَكثير غيره – لَمْ يحصل عَلَى مترٍ مربع واحد مِنْ تلك الفعالية، حيث ألزمته الظروف الاكتفاء – مِنْ كُلِّ مساحة العراق – بغرفةٍ يتيمة فِي بيتِ أبيه قبل أنْ يستأجرَ حجرة وَصالة صغيرة لمكتبته مِنْ بيتٍ يُطل عَلَى أخدودٍ كان يوماً مجرىً لمياه الأمطار. وَقد شهدت هَذِه الحجرة البائسة ولادة طفلته البكر الشيماء، وَفِي الحجرة ذاتها كان يخطط للهربِ مِنْ عراق ” القائد الضرورة “. وَلا رَيْبَ أَنَّ هَذِه الخلفية المؤثرة بوجعِها الإنسانيّ ستكون حاضرة حين يهم بكتابةِ قصيدة، فالسَماويّ أو ” الصانع الأمهر ” بحسبِ الشاعر العراقي المغترب فِي بلجيكا جبار حمادي، كان محكوماً بقساوةِ العيش فِي ظلِ النظام الشموليّ الَّذِي ساهم بِمَا عُرفَ عَنه مِنْ أساليبَ استبدادية ببلورةِ فكرة الانعتاق فِي ذهنِه، وَتعميق سعيه للخلاصِ مِن الظلمِ الصارخ الَّذِي تعرض له، باهتدائِه إلى آليةِ الهرب خارج البلاد. وَلعلّ مِن المناسبِ أنْ نشير هُنَا إلى أَنَّ وَالده حين اكتشفَ بالصدفة نيته الهرب، وَبخهَ علَى تصميمه مغادرة البلاد، فكان جوابه لأبيه فِي كُلِّ مرة مَا يلي: ” مَا الذي سأخسر لو هربت؛ ما دمت لا أملك في وطني بضعة أمتار؟ “، بَيْدَ أنَّ جوابَ الحاج عباس ” طيب الله ثراه ” كان عميق الدلالة؛ لِتيقنِه مِنْ وجودِ مَا يلزمه إبعاد فكرة الهرب عَنْ ذهنِه، وَهو خسارته أصدقاءه. وَلَعَلَّ إشارة وَالده هَذه تعيدني إلى مَا ذَكرهُ السَماوي ذات غربة وَهو يلتفت إلى الأمسِ البعيد قائلاً : ” قبل سنين كثيرة، زمان كان أبي يتنقل بأطفاله الثمانية بَيْنَ بيت وآخر مِن بيوتٍ رخيصة الإيجار، كان يقول لأمي : ليس مهماً إنْ كان موجوداً في البيتِ مصباح كهربائي، ما دمنا نملك فانوساً .. المهم وجود جارٍ نقيّ وشريف “. وَمَا هو ملفتٌ للنظرِ بمضمونِ مقولة الحاج عباس ” الحكمة ” فِي ظلِ معطيات الحياة المعاصرة الَّتِي نعيشها اليوم، هو أنَّ شعباً ” هويته الأنين “، يسعى عَلَى الدوامِ إلى مداواةِ آلامه بالعودةِ إلى الماضي الَّذِي نشير إليه بوصفِ ” الزمن الجميل ” عَلَى الرغمِ مِنْ نكدِ العيش فِي أيامه؛ بالنظرِ لبساطةِ الحياة وَطيبة الأهالي وتميزهم بالصدق وَغيره مِن سجايا النبل، وَهو الأمر الَّذِي يجعلنا نستشف أنَّ هناك ماضٍ جميلا كان فِي الأمسِ البعيد يسكن تلك البيوت البائسة المتواضعة، وَلعلَّ خيرَ مصداقٍ عَلَى مَا تقدم هو حكايات الأوفياء لعشقها.
ظميء.. واللهيب هَمِيْ
فما يحسو سوى ضَرَمِ

يُفتشُ في صحارى العشقِ
عن مُستعذَبٍ شَبِمِ

وفانوسٍ ينشُّ به
عثارَ طريقهِ العَتِمِ

يُقوِّسُ ظهرَهُ تعَبٌ
يشدُّ يداً إلى قدَمِ

ينامُ على ندى أمَلٍ
فيوقظه لظى ألَمِ

ويسْتجدي من الأيام
صفواً بعد مُحْتدَمِ

به شغفٌ.. ويُخجِلهُ
تصابي العاشقِ الهَرِم

يراودُهُ على شفتيه
ثغرٌ للرحيق سمي

رأى نبعاً.. فصاح القلبُ :
ياهذا الذبيحُ صُمِ

ومئذنة.. فقال لها :
متى تكبيره الهِمَمِ ؟

متى الإمساكُ عن جزعٍ
وعن بَطرٍ وعن سأمِ؟

وعن عَسَلِ الخنوع يشلُّ
همَّة أشرفِ الأممِ ؟
***
عود عَلَى بدء، يَبْدُو أنَّ السَماويَ يحيى كان مقتنعاً بتنفيذِ خطة الهروب إلى خارجِ البلاد بَعْدَ أنْ وجدَ نفسه عالقاً مَا بَيْنَ ” فكي كماشة “؛ إذ تنامت أسباب تفكيره بِهَا، وَنضجت الظروف المَوْضُوعيَّة لتحقيقِها، ومثلما يقول الشاعر إبراهيم بن قيس
قالوا دمعت فقلتُ الدّمع من رمدِ
والعينُ ما دمعت إلاّ على الكمدِ
كأنَّ في كبدي رقطـــاء تلسعُها
كأنّما زفرات النّـــار في كبدي
وَيمكنُ القول إنَّ السَماوي، وَإنْ كان كتوماً وَحذراً وَفِي ” صدره لسرِه متَّسعْ “، إلا أنَّه لا يمكن أنْ يخفيَ أمراً عَلَى وَالده وَمعلمه الأول، حتى لو كان ذلك الأمر بالغ الأهمية أو شديد الخطورة كاستلهامه الإنسانيَّة فِي التطلعِ إلى الهربِ بحثاً عَنْ فضاءٍ حر؛ إذ عَلَى الرغمِ مِنْ إدراكِه أنَّ هناك أذناً واعية تصغي إليه باهتمام، إلى جانبِ إحساسه بأبوةٍ مسؤولة عند مكاشفته بمراميِه فِي التخلصِ مِنْ سطوةِ الاستبداد، فإنَّه يجيب عَلَى تحذيرِ وَالده بصراحةٍ متناهية بالقول : ” إنْ لَم يهرب أصدقائي، فسيعدم أكثرهم “. وَالمثيرُ للاهتمامِ أَنَّ هَذَا مَا حدث فعلاً، فَأبناء جيله أكلت أغلبهم الحروب الغبية، وَغَيبت أو حصدت أرواح الكثير مِنهم المشانق وَرصاص الإعدام وَالمقابر الجماعية، فضلاً عَنْ أمراضٍ أماتت بعضهم فِي غياهبِ السجون وَالمعتقلات. وَيضاف إلى ذلك ” غربة ” سلبت بعضهم الآخر، وَالَّتِي رُبَّما أجاد فِي التعبيرِ عَنْ خلجاتِها وَعواطفها وَآلامها، تعبيراً صادقاً الفيلسوف وَالكاتب وَرجل الدولة الإنجليزي فرانسيس بيكون ( 1561 – 1626 ) المعروف بقيادته للثورةِ العلمية عَنْ طريقِ فلسفته الجديدة القائمة عَلَى الملاحظةِ وَالتجريب، حيث يشير بيكون ” إذا كان المرء لا يدري إلى أي ميناء يريد أن يذهب، فإن كل ريح تهب عليه لن تناسبه “.
ظميء.. والنهارُ ظمي
إلى شمسٍ من القيَمِ

يَغُّذ إلى الديار السيرَ
في صحوٍ وفي حُلم

فما جازتْ ركائبُهُ
سوى سطرين من كَلِم:

إلهي جفّ طين العمر
لا أقوى على سَقمِ

إلهي صُنْ عراقَ الروحِ
من هوجاءِ مُضطرَمِ

تجيّشتِ الهمومُ عليه
من سفحٍ إلى قمَمِ

فمن جوع إلى وجع
ومن ضيْم إلى ظُلَم

ولا من حيلة فأحوْلُ
بين أسى ومغتنم

أنا الراعي، وعاطفتي
عصاي.. وأضلعي غنمي

دمي مرعايَ.. والينبوعُ
دمعي.. والوجاقُ فمي

أنادمُ في هزيع العمرِ
ما أهرقتُ من ديم

وقد مَلكَ الهوى مني
ندى روحي ودفء دمي

عشقنا.. فانتهينا
بَيْـن مُتَّهِمٍ ومُتَّهَمِ!

كلانا نادمٌ.. والعشقُ
قد يُفضي إلى ندَمِ!
***
من البديهي أنَّ العيشَ فِي مُجْتَمَعٍ يسوده الظلم ويعمّه القهر وَالخوف، يفرض عَلَى الإنْسَان تكثيف مساعيه لتحقيق حلم الخلاص، وإنْ كانت سبله محفوفة المخاطر؛ إذ ربما تفضي بالمغتربِ إلى حتفه، لكن تلك المرامي تبقى أرحم مِنْ الظلم الَّذِي يتعرض له الإنْسَان فِي بلدِه. ولأنَّ واقع الحال فِي بلادِنا كان حينئذ كما فِي قول أحد مؤسسي الفلسفة الغربية الحكيم اليوناني سقراط المتوفى فِي العام 399 ق.م ” راحة الحكماء في وجود الحق, وراحة السفهاء في وجود الباطل “، فلا مناص مِن الإقرارِ بأنَّ استبدادَ نظام القائد الضرورة، قد ساهم فِي غرسِ فسيل المواجهة فِي البِيئَةِ المَحَلِّيَّة بالركونِ إلى البحثِ عَنْ سُّبُلٍ لمغادرةِ البلاد؛ وَلذا فإنَّ فكرةَ الهرب كثر ما كانت تتبلور فِي تفكيرِ السَماويّ، بالإضافةِ إلَى الكثيرِ غيره، إلا أنَّ المفارقةً فِي أمرِ هروبه مِن العراق، تمثلت بحدوثه فِي أعقابِ امتلاكه بيتاً جميلاً بناه له أبوه عَلَى الرغمِ مِنْ أنَّه وزوجته كانا يتقاضيان راتباً؛ كونهمَا يعملان فِي حقلِ التدريس قبل إبعاده عَنْ فضاءاتِها بشكلٍ غير مشروع وَمُثير للاشْمِئْزاز فِي الوقت ذاته.
***
ويا بغداد و«الخمسون»
بدءُ صبا لذي نِعَم

ونافذة ـ لذي ألم
ولا أملٌ ـ على رِمَم

نُحشِّمُ مَنْ وكلّ فيه
جرحٌ غيرُ ملتئم؟

فلا من حزم «هارونٍ»
ولا من عزم «معتصم»

لمن نشكو و«قاضي العصر»
ما أبقى على قيم؟

أضاع بصيرة وغفا
على ريشٍ من الصَمَمِ
***
ظميء.. والشراع ظمي
إلى نهريك والنَسَمِ

إلى نخل السماوة زُفَّ
بعد الصبرِ للدِّيَمِ

وفاختةٍ إذا هَدَلتْ
أثار هديلها نغمي

وحَفَّزتِ المِداد يصبُّ
كأسَ الحبِ من قلمي

سلاماً يانميرَ الروحِ
من قلبٍ إليكَ ظمي
لَعَلَّنا لا نبعد عَنْ الواقعِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ السَماويَ يحيى أو ” الطائر الذي منح للحرف سماء إبداع ” بحسبِ الشاعرة الدكتورة راوية الشاعر، لَمْ يخضع وَلَمْ ينكسر، فهو القائل : ” مادام الواقع قبيحاً، فليس لنا إلآ تجميله – قدر استطاعتنا – بالشِّعْر حتى لو كنا مذبوحين من إخمصِ الماضي إلى قمةِ الحاضر “، فالسَماويّ يحيى مؤمن بأنَّ شعورَ الإنْسَان بنشوة الحياة، يلزمه البحث عَنْ الشيء الذي يشبع ذاته؛ لأنَّ للحياة بحسبِه ” متعة، مَنْ لا يجدها فهو لم يولد بعد “. وَضمن هَذَا المسار وَجدت فِي بعضِ آهات السَماويّ يحيى مَا يترجم آلام شعبنا وَيعبر عَنْ إحساسه بضياعِ وَطَن، حيث يقول فِي واحدة مِنْ تنهداته : ” أرجو ألآ أكون مجانباً للحقيقة لو قلت أن كلّ عراقييِّ الأمس عاشوا ذات المرارة، وأمّا عراقيو اليوم، فلا أظنهم أحسن حالاً : غرباء حتى في مدنِ أحلامهم “، لكنه يستدرك قائلاً : ” من أين للمرء القدرة على إعادة دموع الأمس إلى عينيه، فربما يحتاج بعضاً منها للفرحِ المرتجى “؛ لأَنَّه مَا يَزال متفائلا بالغد وَمتمسكاً بالأمل فِي إجهاض مَا تواجهه بلاده مِنْ جسامِ التحديات. وَقد يكون مِن المناسب أنْ نذكر هُنَا مَا أشار إليه الفيلسوف البريطاني وَعَالم المنطق وَالمؤرخ وَالناقد الاجتماعي برتراند راسل ( 1870 – 1970 ) بالقول ” لو كان في عالمنا اليوم عدد كبير من الناس يرغبون في سعادتهم أكثر من رغبتهم في تعاسة الآخرين، فسنحصل على جنة في بضع سنوات “. وَالطريف فِي الأمرِ بشأنِ هذه المقولة أَنَّ صاحبَها انتهج فِي مراحلٍ مختلفة مِنْ حياتِه، الليبرالية وَالاشتراكية، فضلاً عَنْ عَملِه داعية سلام، إلا أَنَّه أقر بعدمِ كونه أياً من تلك المناهج بالمعنى العميق.

***
ذنـبـي كـبـيـرٌ !
مَـرَّ لـيـلٌ كـامـلٌ
مـن دونِ لـثــمِ قـرنـفـلِ الـشـفـتـيـنِ والـيـاقـوتـتـيـنِ
ودون تـمـشـيـطـي جـدائـلـكِ الـحـريـرْ

والـركـضِ
خـلـفَ غـزالـةِ الـفـردوس ِ مـا بـيـن الـوسـادة ِ
والـمـلاءةِ والـســريـرْ

فـلـتـغـفـريْ لـيْ إثـمَ مـعـصـِـيـتـي …
جـِدي عـذراً لـســادنِـكِ الـبـتـولـيِّ
الـمـوزَّعِ بـيـن بـاديـةِ الـسـمـاوةِ والـرّصـافـةِ
مُـطـفـأ الـيـنـبـوعِ مُـتـَّـقِــدَ الـسـَّـعـيـرْ

شـوقـاً
الـى صـحـنٍ مـن الـقـُـبُـلاتِ …
يـقـفـو جُـوعَـهُ عـطـشٌ خُـرافـيٌّ
لـكـأسٍ مـن زفـيـرْ
***
لا رَيْبَ أَنَّ السَماويَ يحيى أو ” سيّد السّكر دون خمر، والعمر الزاحف دون شيخوخة، والطفل الملفّع بأنين اللحظة دون دمية، فنان الرسم بالكلمات..” بحسبِ الشاعرة وَالروائية وَالناقدة الفلسطينية هيام مصطفى قبلان، كان يئن مِنْ فرطِ الإجحاف الَّذِي فرضته عَليه أجهزة النظام الدكتاتوري، وَلعلَّ مِنْ جملةِ تلك المواقف المؤلمة هو أنَّه بَعْدَ أنْ سيقَ إلى الخدمةِ الإلزامية فِي أعقابِ تخرجه مِنْ كليةِ الآداب عام 1974م، انتظم بدورةٍ للضباطِ ” المجندين ” أو – الاحتياط مثلما هو شائع فِي بلادنا – فِي قسمِ الدروع بمعسكرِ منصورية الجبل، حيث أمضى شهوراً عدة عَلَى أملِ التخرج مِن تلك الدورة العسكرية برتبةِ ملازمٍ مجند، إلا أنَّ أمراً رسمياً صدر قبل أسابيع مِنْ تخرجِه، يقضي بتحويله – وَنحو أربعين مِنْ خريجي الجامعات العراقية – إلى ” جندي شغل “؛ بالنظرِ لوصولِ أضابيرهم الأمنية مِنْ كلياتِهم وَمناطق سكناهم. وَأَدْهَى مِنْ ذلك إجراءات إدارةِ وحدته الجديدة التعسفية الَّتِي اتخذت ضده هو وزملائه الَّذين يشاركونه الدرب نحو مدينة العشق الفاضلة – مِنْ بَيْنَهم الدكتور نجاح طاهر العميشي المقيم حالياً فِي الدانمارك – وَالَّتِي يمكن أن نتلمس معاناة أيامها مِنْ خلالِ وصف السَماويّ إياها بدقةِ وَعمق إنْسَانيّ فِي قولِه : ” أمضينا شهوراً عديدة في – قره داغ – كبغال بشرية ممنوع عليها الاختلاط بالجنود الاخرين “. وَلا أظنني أبـالـغ أو أخاصم الحقـيـقـة إذا ما قلت إنَّ مَنْ يتاح لَه الاطلاع عَلَى هَذِه الحكايات أو عَنْ غيرها مِنْ مآسي تلك الأيام، يدرك جيداً عمق فجيعة الأجيال العراقية الَّتِي عاصرت تلك الفترة برعبها وَبؤسها وَعذاباتها، فضلاً عَنْ أنَّه لا يجد غرابة فِي تسيّد مَا يسعى إلى بعثِ الهوية الإنسانيَّة فِي الحراك الإبداعي عَلَى صعيدِ الأروقة الثقافية والفَنِّيَّة، فبالإمكان استقاء بعض الإيماءات الخاطفة مِنْ إجماليّ ما دونه عَلَى مدى عقود مِن الزمانِ علماء وَأدباء وَمفكرون وَغيرهم، وَالَّتِي مِنْ بَيْنَها عَلَى سبيلِ المثال لا الحصر، أنَّ شعورَ الكاتب وَالشاعر التونسي المنصف مزغني بِمَا يعيش مَعه مِنْ ألم، ترجمه بمقولةٍ جميلة نصها : ” قشروا ضحكتي تجدوا دمعتي “. أو كتلك الصورة الإنسانيَّة الَّتِي رسمها أيقونة السينما الصامتة، الممثل الكوميدي الإنجليزي تشارلي تشابلن ( 1889 – 1979 ) الملُقّب بالحزين الَّذِي أسعد العالم، وَالبائس الَّذِي أضحك الملايين، وَالَّتِي عبرَ فِيها عَنْ الموضوع إياه بالقول ” أحب المشي تحت المطر، لأنه لا أحد يرى دموعي “.

تـَوَهَّــمَــنـي صَــبـوراً فـاســتــزادا
صــدوداً كـاد يـســلـبـنـي الــرَّشـادا

ولـو عـلِـمَ الـحـبـيـبُ حـدودَ ضـعـفـي
لـمـا عَــرَفـَـتْ وســـادتـهُ الـرُّقــادا

غـرَسـتُ أضالـعـي شـجَـراً ظلـيـلاً
فـجـازانـي بـذبحِ غـدي حَــصــادا !

يُـعـانِـدنـي بـحـجـبِ خطىً وصـوتٍ
فـزدتُ عـلـيـهِ فـي شـغــفـي عِــنــادا !

تـمـكـَّنَ مـن فـؤادي فـهـو عــنـدي
إذا شـُــلَّ الــفــؤادُ : غــدا فــؤادا !

ولــولا عـاذلٌ يــمـتــارُ حــقـــداً
خـبـيـثـاً ســـاءَ ظـنـاً واعــتــقــادا

لكـنـتُ كـ” صَبِّ عـذرةَ ” في هـيامي :
أرى مـوتي ـ عـلى عَـجَـلٍ ـ مُــرادا !

ولـكـنـي كـظـمـتُ الـوجـدَ كـيــمــا
أغـيـظُ بـهِ لــدوداً قـد تــمــادى !

وخـوفـاً من شــمـاتـةِ مُـسـتـريـبٍ
وقَــولــةِ جـاحِــدٍ إنْ قــالَ زادا
***
مَا تَزال الذاكرة الوَطَنيّة المشبعة بويلاتِ الحروب العبثية حاضرة لِمَنْ اكتوى بنيرانِها، وَتأثر بمعطياتِها الَّتِي أصابت السواد الأعظم بالتصدعِ وَالتشظي، وَخذلت أماني الحالمين بمستقبلٍ زاهر للبلادِ يتجول فِيه السلام وَتتناثر فِي فضاءاتِه ضحكات الطُفُولة السعيدة. وَعَلَى الرغمِ مِنْ سعةِ حجم تلك الذاكرة المتعبة، أراني مضطراً لاستذكارِ واحدة مِنْ إحدى ملفاتها الَّتِي مَا تَزال طرية فِي ذهنِ السَماويّ يحيى، حيث كُتَب لشقيقِه الأوسط ” محمد ” أنْ يكون معه فِي نفسِ وَحدته العسكرية أيام مطحنة حرب الخليج الأولى، وَالَّذِي كان وقتها بحسبِه : ” شاباً مفرط الجمال، أشقر، له عينان أكثر خضرة مِنْ عشبِ الربيع، ، قويّ مثل المكوار، رشيق مثل الفالة “. وَلعلَه مِن المفيدِ الإشارة هُنَا إلى أنَّ ” المكَوار ” الَّذِي يُعَدّ اليوم مِن الموروثاتِ الشعبية العراقية، كان فيما مضى مِن الزمانِ السلاح الدفاعي الشخصي الفردي الأقوى بَيْنَ يدي الفلاحين فِي الريفِ العراقي. كذلك كانت الفالة أداة فعالة للصيد ابتكرها أهل العراق القدامى عوضاً عَن الرمح، فضلاً عَنْ كونِها سلاحاً فعالاً أيضاً لدى الفلاحين، وَهي عبارة عَنْ آلة حديدية لَهَا ثلاث شعب قبل أنْ تصبح بخمسة أصابع عَلَى شكلِ كف، وَفِي نهايةِ كُلِّ أصبع يوجد نتوء معاكس، فِإذا غرست الفالة فِي جسمٍ مَا، لا يمكن اخراجها أبداً إلا بعد تمزيق اللحم. وَيجري تركيب تلك الأداة الحديدية عَلَى ذراعٍ طويل مِن البردي الَّذِي يتم الحصول عَليه مِنْ منطقةِ الأهوار، وَهو الأمر الَّذِي جعل مدن العراق الجنوبية المحاذية أو القريبة مِن الأهوار تختصّ فِي صناعتِها. وَلشدةِ أثرها فِي إيقاعِ الاذى؛ اعتمدها أحد الشعراء الشعبيين فِي نظمِ هَذَا البيت الدارمي :
يا لتنشد اعلة الحال حالي اعلة حالة
سمجة وشحيح الماي وبظهري فالة
وَمِنْ المعلومِ أنَّ الثوارَ العراقيين اعتمدوا الفالة، إلى جانبِ المكَوار فِي معاركِ ثورةِ العشرين، واللذان أرعبا جنود الاحتلال البريطاني وَأصبحا مِنْ رموزِ تلك الثورة التحررية، حيث كانا يشكلان أعمدة الأهازيج الَّتِي أطلقها ثوار عشائر الفرات الاوسط. ولعلَّ مِنْ بَيْنَها مَا ارتجله مهوال ” الأمس ” بعد أنْ أنبت الثوار الفالة فِي ظهرِ أحد جنود العدو البريطاني وَحملوه جماعته وَهي مغروزة فِي ظهرِه بقولِه :
” مشكول الذمة اعلة الفالة ” وأخرى ” رد فالتنا احتاجيناها ”
خلال معارك ” بسيتين ” فِي عامِ 1982م، حدث أنْ ارسل آمر مفرزة التصليح الملازم أول عبد مسلم درو – الَّذِي ينحدر مَنْ أريافِ الديوانية – أحد جنود مفرزته لإحضارِ السَماويّ مِنْ أجلِ إبلاغه ضرورةِ مراجعة مستشفى البصرة؛ لمعاينةِ أخيه محمد الَّذِي يرقد هناك بسببِ إصابته. وَحين وصل السَماوي المستشفى وجد أخاه قد بُتِرت ساقه مَنْ فوقِ الركبة، وكان يرقد إلى جانبِه جندي مقطوع الساقين، بالإضافةِ إلى جرحى كثيرين. وَالْمُلْفِت أَنَّ السَماويَّ لَمْ يتحمل هول المنظر الَّذِي ربما لِمْ يتح لَه فرصةً لالتقاطِ أنفاسه، فاستدار إلى معاونٍ طبيّ ” مضمد ” كان متواجداً فِي الردهةِ وَسأله بصوتٍ واضح وَمسموع بفعلِ الصدمة : ” هل يوجد مَا بَيْنَ هؤلاء الجرحى جريح واحد مِنْ أهالي العوجا، وَهل يوجد مَا بَيْنَهم إبن مسؤول مِنْ مسؤولي حزب البعث؟. وَفِي اليوم التالي فوجئ السَماويّ بوصول والده البصرة، ليس لأجلِ زيارة شقيقه محمد، إنما ليأخذَ له إجازة مَنْ وحدتِه العسكرية كي يذهب معه إلى مدينةِ العمارة؛ لاستلامِ جثة خاله ” رسول ” الَّذِي دهست سيارته ناقلة دبابات فقتلته هو وَرفيقه المهندس الَّذِي يشرف عَلَى مقاولاتِه .
***
فــيــا لــلـهِ مـن قــلــبـي وخِـلـِّـي
كــأنــهــمــا : عــذابـاتـي أرادا !

ويـا لـلـهِ مـن جُــرحٍ عَــصِـيٍّ
أبـى إلآ الـبــتـولَ لـهُ ضِــمـادا

ويـا لـلـهِ مـن صَــبــرٍ تـسـلـّـى
بـصَـبٍّ إنْ مـشى طلَـبَ الـسِّـنـادا

ويـا لـلـهِ مـمـا بــتُّ أخــشــى
إذِ الأيــامُ قـارَبَـتِ الــنِّــفـــادا !

أمـاطِـلُ غـربـتـيَّ بـأرضِ لـغـو ٍ
وأسـتـجـدي مـن الأصـواتِ ضـادا !

يُـقـاتِـلـنـي هَـوايَ فـلـيسَ يـرضى
جـنـوحـاً لـلـسـلامِ ولا حِـيـادا !

أنـا الـراعـي ..خِـرافي ذكـريـاتٌ
وبـسـتـاني صِـباً لـن يُـســتـعــادا !
***
أَمْرٌ شَدِيدُ الأَهَمِّيَّةِ فِي هَذِه الحكاية الَّتِي تدمي القلوب، وتذكرنا بأيامِ المحنة فِي زمنِ الطغيان، هو أَنَّ أبَاه كان يومذاك مريضا؛ لذا لَمْ يكن بمقدورِ السَماويّ إخباره عَنْ إصابةِ شقيقيه. وَحين عادوا بجثمانِ خاله إلى مدينةِ السَماوة، كانت المفاجأة الصادمة الَّتِي تسببتْ فِي إصابتِه وَمَنْ أسره بتلك التفاصيل – مِنْ العائلة أو الأصدقاء – بحالةِ ذهول، حيث وجد شقيقته ” أم نوفل ” فِي بيتِ وَالده قادمة مِنْ بغداد؛ لأجلِ إخبارهم عَنْ حصولِها عَلَى معلومةٍ تفيد بأنَّ زوجَها المناضل المعتقل لأسبابٍ سِّياسيَّة ربما تمت إذابته بحامضِ الكبريتيك المركز. وَممَا هو جدير بالإشارةِ أنَّ الأيامَ أثبتت صِحة هّذَا الأمر حين فشل أبناؤه بالعثورِ عَلَى رفاتِه فِي كُلِّ ” المقابر الجماعية ” كمَا هو حال الكثير مِنْ أبناء شعبنَا المبتلى. وَأَدْهَى مِنْ ذلك مَا تعرض لَه السَماويّ حين عاد إلى وحدتِه، حيث أخضع للتحقيقِ عَمَا قاله فِي المستشفى وَهو بحالةِ غضب. وَكان يمكن أنْ يكون ضحية أخرى وَيلحق بقوافلِ المغيبين، لولا الموقف النبيل الَّذِي وقفه لأجله الملازم أول عبد مسلم درو، وَالَّذِي يُعدّه السَماويّ أحد أشرف الضباط الَّذين عرفهم فِي حياته، فضلاً عَنْ العقيد محسن علي عكلة، أحد أبناء مدينته، وَالَّذِي كان يومها ضابط التوجيه السياسي للقواتِ البحرية ومسؤول التنظيم العسكري فِيها، بالإضافةِ إلى كونِه شاعرا شعبيا جيدا ، للسَماويّ يحيى علاقة صداقة به.
***
وبـيـتٌ كان من طـيـنٍ وســعـفٍ
حَـبـوتُ بـهِ مـع الـعُـشـبِ اتـِّـحـادا

وكـنـتُ أقـودُ قِـطـعـانـي وئـيـداً
فـصـرنَ الـيـومَ يـأبَـيـن انـقـيـادا

يـُوَسِّـدنـي طيوفَ الأهـلِ شوقٌ
فـتـحـرمـنـي مَـدامـعُـهـا الوِسـادا !

فـيا ملحَ الـهـوى ـ ياصبرُـ عـندي
جـمـوعٌ مـن هـمـومٍ لا فـرادى !

ويا مـلـحَ الهـوى ـ ياصـبرُ ـ عِـدنـي
بـيـومٍ لا أرى فــيـهِ الــصِّــفــادا

ويا مـلـحَ الهوى ـ ياصبرُ ـ هلْ مِـنْ
عــراقٍ ذي نـعـيـمٍ لا يُــعــادى ؟

تـَعِـبـنـا يـا عـراقُ … وأتـْعَـبَـتـنـا
رُحـى الأيــامِ أدْمَـنـَتِ الـحِـدادا !

أرانـي قـد وَهـنـتُ وكـاد يـبـلـى
قـمـيـصُ تجـلـُّدي والـعـمـرُ كادا !

فـيـا نـهـرَ الـفـراتِ ألا ريـاحٌ
فـتـأتـي بـالـسـفـيـن وقد تـهـادى ؟

وإنْ حَمَـلَ الـسـفـينُ جمـيعَ قـومي
أيـحـمـلُ في عَــنـابـرهِ الــبـلادا ؟

يُـقـالُ تـغـيَّـرتْ ما عـاد فـيـهـا
هوىً يُـفـدى ولا خِـلٌّ يُـنـادى !

وأنَّ كـريـمـهـا الـتـنـُّورَ أضـحـى
عـقـيـمَ الـجـمـرِ يستـجـدي الـرَّمادا !

ذات وجع عند ضفاف الفجر، غادر السَماويّ يحيى مكتبه إلى حديقةِ منزله فِي بلادٍ موقعها خلف الشمس؛ لأجلِ أنْ يتأكدَ مِنْ أنَّ العصافيرَ قد استفاقت مِنْ نومِها، لكنه فوجئ بشجرةِ زهور الليلي قد لفظت بياضها، فتذكر أنَّه لَمْ يرتشف نداها منذ أيام عديدة كعادته كُلّ فجر، فحزن حزناً حقيقياً، ليس لأنَّه سيحرم مِنْ ارتشافِ الندى، إنمَا لأنَّ الفراشات ستظمأ، فتيقنتُ مِنْ أنَّ السَماويَّ، فضلاً عَنْ كونِه علامة فارقة فِي الأدبِ وَالشِّعْر وَالإبداع، فهو إنْسَان نبيل يتمتع بمعانٍ إنسانيَّة رائعة منذ أنْ كان يقتسم فِي الزمنِ المرّ الضحكة وَالدمعة وَالحلم وَالوجع وَأرغفة الخبز مَعَ أصدقائه وأحبّته.