23 ديسمبر، 2024 12:53 ص

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

( الحلقة الثالثة والعشرون )

يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
مَا يميز تجربة السَماوي يحيى الشِعرية فِي أحدِ جوانبها المهمة، هو القدرة الفائقة عَلَى اِسْتِغلالِ مَا اكتنزته ذاكرته مِنْ مَوْرُوثَاتٍ وَأحداث عاش فِي خضمِها وتجاذبته المعاناة مِنْ معطياتها، حيث أَنَّ القراءةَ المتأنية لبعضِ قصائده، فضلاً عَنْ مدادِ يراعه فِي أجناسِ الأدب الأخرى، تكشف عَنْ أثرٍ واضح لاستفزازِه الذاكرة ومنحها دفقاً؛ لإِنْتَاجِ صورٍ شِعرية وَأدبية تقوم عَلَى إبرازِ حالته النَفْسِيَّة وَانفعالاته الَّتِي تجتذب القارئ وَتهز وجدانِ المتلقي الَّذِي مَا يَزال مشاركاً لَه فِيمَا يشعر بِه مِنْ هواجسَ حيال مَا جرى مِنْ أزماتٍ وَمجاعات وَاغتراب وَأحداث دامية خلفت الكثير مِنْ الهمومٍ وَالأحزان وَالنكبات. وَمِنْ المؤكّـدِ أنَّ تنوعَ الينابيع الَّتِي نهل مِنهَا السَماوي يُعَدّ أحد الدعائم الإِيجابيَّة الَّتِي ميزت تجربته الشِعرية؛ إذ أَنَّ الخروجَ مِنْ مأزقِ الأحادية فِي اعتمادِ المصادر، وَالَّتِي لَمْ يكن بوسعِ الكثير مِنْ الشعراءِ وَالأدباء مغادرة شباكها، ساهم فِي إثْرَاءِ أدواته الشعرية، وَطور مِنْ موهبته فِي نظمِ القصيد وَانتقاء مفرداته عَلَى وفقِ ضوابطَ لغوية وَشروط نحوية، وَهو الأمر الَّذِي اتضحت معالمه فِي جمالِ صياغة قصائده وَتميزها؛ لارتكازِه عَلَى الإِبْداعِ فِي تركيبِ الصورة الشِعرية، فضلاَ عَنْ دقةِ اختيار الكلمة. يضاف إلى ذلك الدور الواضح للبِيئَةِ المَحَلِّيَّة الَّتِي عاش فِي رحابِها بالمُسَاهَمَةِ فِي إنضاجِ شاعريته وَتوهج وَعيه السِّياسِيِّ الوَطَنِيّ التقدمي؛ إذ يمكن الجزم بأنَّ مشاركته فِي الانتفاضةِ الجماهيرية عام 1991م، كانت تتويجا للحسِ الوَطَنِيّ الَّذِي نشأ عَلَيه منذ ختم مراهقته الشِعرية فِي ديوانِه البكر الموسوم ” عيناك دنيا “، ليبتدئ شبابه الشِعري فِي ديوانِه الثاني ” قصائد في زمن السبي والبكاء ” الَّذِي أصدره أيام دراسته فِي كليةِ الآداب بالجامعةِ المستنصرية، فلا غرابة فِي قولِ الكاتبة وَالقاصة التونسية هيام الفرشيشي مَا نصه ” شِعرُ يحيى السماوي يتقلب بين الوطن داخل الكلمات والمنفى خارج الوطن “، فضلاً عَنْ إشارتِها إليه بوصفِه ” أشبه بالطفل الذي يطرب لثغاءِ شاة أو نباح كلب في بستانٍ من بساتين السماوة، أكثر مما تطربه موسيقى منتديات الليل في المدن الكونكريتية “، وَيقيناً أَنَّ الأديبةَ الفرشيشي كانت عَلَى صوابٍ بشكلٍ لا يقبل اللبس فِي معناه؛ لأَنّ قولَها يعبر حقيقة عَنْ تعلقِ السَماوي بوطنِه وَمرابع طفولته وَأيام صبَاه وَشبَابه.

جـرّبـتُ يـومـاً
أنْ أغَـيِّـرَ فـي طـقـوسـي حـيـن يـطـحـنـنـي الـحـنـيـنُ
كـأنْ أخـونَـكِ
فـي دهـالـيـزِ الـخـيـالْ

هـيّـأتُ فـي سِـردابِ ذاكـرتـي
سـريـراً بـاردَ الـنـيـرانِ مَـسـعـورَ الـنـدى ..
ومـن الـسَّـفَـرْجَـلِ والأقـاحِ وسـادةً ..
ومَـلاءةً ضـوئـيَّـةً
طـرَّزْتُـهـا بـهـديـلِ فـاخِـتـةٍ ..
ومـبـخـرةً مـن الـشّــبَـقِ الأثـيـمِ ..
ومـن صـحـونِ الـلـذّةِ الـحـمـراءِ مـائـدةً ..
وثـغـراً ظـامـئـاً لـرضـابِ زهْـرِ الـبـرتـقـالْ ..

ونـديـمـةً كـانـتْ تُـويْـجَـتُـهـا أنـيـسـةَ مَـيـسَـمـي :
شـفـتـانِ مـن كَـرَزٍ ..
وعـيـنـانِ اسـتـفـاقَ الـعُـشـبُ فـي حـقـلـيـهـمـا ..
وحَـمـامـتـانِ يـكـادُ عُـشُّـهُـمـا يـضـيـقُ بـهِ الـقـمـيـصُ
فـحَـلَّ أزراراً لِـيُـفـسِـحَ فـي الـمـجـالْ

فـاسْـتـنْـفـرَتْ جـوعـي لـذائِـذُهـا ..
وحـيـن هَـمَـمْـتُ :
سَـلَّ الـقـلـبُ أضْـلاعـي عـلـيَّ
فـكـنـتُ مـهـوىً لـلـنِـبـالْ

فـعـرفـتُ أنـي
حـيـن أجـنـحُ عـن صِـراطِ هـواكِ :
أبـدأ بـالـتّـلاشـي والـزّوالْ
***
السَماوي يحيى الَّذِي أسبل عناقيد العشق مِنْ حول وطنه، نجح فِي توظيفِ مَا امتلكه مِنْ موهبةٍ أدبية حقيقية فِي التعبيرِ عَنْ انفعالاتِه الَّتِي تعكس صفحات مرعبة مِنْ تأريخِ معاناة الشعب العراقي، فضلاً عَنْ حرصِه عَلَى الغوصِ فِي بحورِ اللغة؛ لأجلِ الإمساك بالمفردةِ الَّتِي مِنْ شأنِها التعبير بصدقٍ عَما يجيش فِي صدرِه وَرأسه مِنْ أفكارٍ وَآراء مستمدة المقومات مِنْ مشاعرِ الحب وَالشوق وَالمُقَاوَمَة وَالغربة وَالحنين. وَمَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ السَماوي كان واعياً فِي البوحِ عما يعتمل فِي وجدانه، حيث تمكن مِنْ تفريغِ انفعالاته بِمَا أفضى إلى إيجادِ بِيئَةٍ خصبة بالتعاطفِ مَا بَيْنَ نتاجه الشِعري وَبَيْنَ المتلقي. وَفِي السياقِ ذاته، يرى السَماوي أنْ لا هدوءَ لطوفانِ انفعالاته، إلاّ حين يعود العراق خيمة أمان وَمائدة عافية، وَليس كما هو الآن كما يصفه بـ : ” أرخبيل دويلات هشة.. وكل وزارة دولة أو حزب أو طائفة ، في وطن أغلبه منطقة صفراء وقليله منطقة خضراء “. وَلا رَيْبَ أَنَّ وَطنَ السَماوي كان حاضرًا عَلَى الدوامِ فِي عقلِه وَمؤثراً فِي نظمِ شِعره، فحسهُ الوَطَنِيّ يزيده يقيناً مِنْ أنَّ البناءَ السِّياسِي فِي بلدِه، لَمْ يكن سليماً بفعلِ أجندة المحتل الأمريكي، حيث يشير ضمن هَذَا المعنى بالقول : ” طوفان الانفعالات سيهدأ حين يصبح الوطن كله منطقة خضراء، وحين يعمّ الأمان كل العراق وليس المنطقة الخضراء وحدها، وحين نرى اللصوص الجدد في قفص المحاكمة، وقبل ذلك إعادة النظر في بعض مواد الدستور لتخليصه من القنابل الموقوتة التي وضعها المحتل الأمريكي “. وَمِن المؤكّـدِ أنَّ تلك المواقف الوَطَنيّة لَمْ تكن جديدة عَلَى السَماوي يحيى الَّذِي استمد وعيه السِّياسِيّ مِنْ مجملِ أحوال مدينته البائسة، وَالَّتِي مِنْ المؤكدِ إنَهَا كانت سبباً فِي معاناتِه وَمعاناة عائلته، فضلاً عَنْ السوادِ الأعظم مِنْ أبناءِ شعبه، فَكان أنْ انصهر فِي قوافلِ الحالمين بغدٍ جديد مذ أنْ كان غضاَ طريا.
***
جـرّبـتُ يـومـاً
أنْ أغـيِّـرَ فـي كـتـابِ الـقـلـبِ ..
أشـطـبُ مـنـهُ :
بـاديـةَ الـسـمـاوةِ ..
والـفـراتَ الـمُـجـتـبـى ..
ومـآذنَ الـلـهِ الـنـخـيـلْ

والـكـوخَ والـفـانـوسَ ..
تـنّـورَ الـصّـبـاحِ ..
وطـاسـةَ الـلـبـنِ الـخـضـيـضِ ..
ونـخـلـةَ الـبـرحـيِّ وسْـطَ الـحـوشِ ..
والـفـقـرَ الـجـلـيـلْ

فـنـشـرتُ أشـرعـتـي
وأبْـدَلـتُ الـلـسـانَ بـغـيـرِهِ ..
غـيّـرْتُ أثـوابـي ..
وأبْـدَلـتُ الـسـواحـلَ بـالـسّـواقـي ..
والـمـراقـصَ بـالـمـآذنِ ..
والـكـمـنْـجـةَ بـالـهـديـلْ

لـكـنـنـي
عـنـدَ الـوقـوفِ إلـى الـمـرايـا
لا أرى
إلآ مـلامـحَ أمـسـيَ الـحيِّ الـقـتـيـلْ :

طـفـلٌ بـلا لُـعَـبٍ ..
صـبـيٌّ قـابَ قـوسٍ مـن كـهـولـتِـهِ ..
فـتـىً صـلـبـوا عـلـى عـيـنـيـهِ هُـدْهُـدَهُ الـجـمـيـلْ

وأرى غـدي
فـي ” الـمـسـلـخِ الـوطـنـيِّ ” ..
يـنـهـشُـهُ الـمُـنـافـقُ ..
والـمُـدَجَّـنُ ..
والـولـيُّ الـلـصُّ ..
والـضَّـبْـعُ الـدّخـيـلْ ..
***
الرئيس الأوزباكستاني إسلام كريموف ( 1938 – 2016 )، الَّذِي حكم بلاده منذ استقلالها عَن – الراحلِ – الاتحاد السوفيتي فِي عامِ 1991م، له مقولة جميلة بخصوصِ المواطنةِ نصها ” لا يوجد سعادة بالنسبة لي أكثر من حرية موطني “، وَقد وَجدت فِي جعبةِ السَماوي الكثير مِن النصوصِ وَالأقوال الَّتِي تؤكد الرابطة الوطنية، وَتعبر فِي الوقتِ ذاته عَنْ مقصد كريموف حيال الوطن، فمِنْ بَيْنَ طروحات السَماوي قوله : ” أقسم انني أكتب الشعر، لا حباً به ولكن : لأنه الماء الوحيد الذي أطفئ به حرائق روحي، والمنديل الذي أخبّئ فيه دمع الرجولة “. وَلأَنَّ ” الوطنية تعمل ولا تتكلم ” بحسبِ الأديب المصري وَرائد حركة تحرير المرأة قاسم أمين ( 1865 – 1906 ) الَّذِي يُعَدّ أحد مؤسسي الحركة الوَطَنيّة فِي بلادِه، فإنَّ الحضور النضالي للسَماويّ الَّذِي انعكس بمواقفَ مشهودةٍ فِي مختلفِ مراحل حياته، بلغ ذروته بِمشاركتِه مقاتلاً وَخطيباً فِي الانتفاضةِ الشعبية التي جرت أحداثها فِي شهرِ آذار مِنْ عامِ 1991م، حيث ركن مخيلته الشِعرية الَّتِي طالمَا تغنت بالمقلةِ وَالنهد جانباً، وَشرع فِي مهمةِ شحذ الهمم، فعززَ بشعرِه وَخطبه دور الإنْسَان المقاوم للدكتاتورية، وَتغنى بالنضالِ مِنْ أجلِ حرية الوطن وَسعادة الشعب وَرفاهه. وَفِي هَذَا السياق يصف الروائي العراقي المغترب سلام ابراهيم جانباً مِنْ ألبومِ تلك المرحلة بالقولِ ” يحيى السَماوي كان عاطفياً ومتحمساً وثورياً يكاد يتفجر حماسةً، شِعرهُ يشبه المتطرف في غزله، وعند – سويعات النشوة – تسيل العواطف فيبكي لغزلٍ ولفكرة عن الثورة، أو لحديث عن أوضاع الفقراء “. وَفِي مناسبةٍ أخرى يتحدث إبراهيم عَنْ فيضِ المشاعر الملتهبة عند حضوره أمسية شعرية أقامها نهاية عام 2017م بيت النخلة فِي الدنمارك تكريماً للشاعرِ يحيى السَماوي، وَالَّتِي وصل إبراهيم إلى مكانِها قبيل بدئها، فبادر بإلقاءِ التحية عَلَى مديرِ الجلسة الشاعر والناقد العراقي المغترب هاتف بشبوش، فالتفت بشبوش نحو يحيى الَّذِي كان منشغلاً فِي إخراجِ أوراق أشعاره قائلا: سلام إبراهيم، وهو لا يعرف علاقة السَماوي بإبراهيم وجذورها، ويضيف إبراهيم واصفاً مَا جرى فِي تلك الأمسية الممتعة بقولِه ” ترك السَماوي اوراقه وعانقني بشدة طويلاً وكأنه ذلك الشاب المتحمس الثوري بشعره الطويل المتدلي حتى كتفه والمتهدج الصوت حينما يمس الحديث فكرة الظلم والفقر، وجدته هو.. هو.. عانقني وألتفت إلى الحضور قائلا : واحد وأربعين عاما من السماوة حتى كوبنهاكن.. ومن عشرينيات عمرنا وحتى ستينياتها “. وَيسترجع إبراهيم بعضاً مِنْ ذكرياتِ الأمس البعيد فِي ختامِ حديثه قائلاً ” محبتي صديقي يحيى السماوي، الآن فقط تَفَسرَ لي ولك : لِمَ بكينا على ما يجري في وطننا في ليلة السماوة، وسرّ لوم وضحك – أصدقاء آخرين – من احتراقنا.
***
جـرَّبْـتُ يـومـاً
أنْ أخـونَ الأصـدقـاءَ
كـأنْ :
أغـضُّ الـسَّـمْـعَ
حـيـن يـنـالُ مـن أزهـارِهِـمْ
شـوكُ الـمُـهـتَّـكِ ..
والـطـحـالـبُ ..
والـذّلـيـلْ

فـخـشـيـتُ أنْ يَـعْـتـابَـنـي شـرفـي
ويـبـرأ مـن جـذوري
طـيـنُ بـسـتـانـي الأصـيـل

أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ شلالَ الدم المتدفق مِنْ جراحاتِ شعبنا النازفة، يفرض عَلَى البيتِ الثَّقَافي العراقي بمختلفِ موارده الشروع بتوثيقِ أيام المحنة الَّتِي أصبحت جزءاً مِنْ ذاكرةِ أجيالٍ عانت مرارة الدكتاتورية وَفجعت بديمقراطيةِ ” فوضى المحتل الخلاقة ” الَّتِي لَمْ تبقِ لَنَا سوى النحيب عَلَى أطلالِ حضارة مَا بَيْنَ النهرين، دجلة والفرات، وَالَّتِي تمتد جذورها فِي أعماقِ مَا قبل التاريخ. وَتدعيماً لِمَا ذكر آنفاً، يشير الأديب العراقي المغترب الدكتور إبراهيم الخزعلي فِي مداخلةٍ بأحدِ المواقع الإلكترونية إلى إعجابه بتجربةِ السَماوي يحيى وَتثمينه لِمنجزِه الشعري مخاطباً إياه بالقول : ” سيدي كم نحن محتاجون إلى ترجمةِ حروف جراحنا وآلامنا إلى كل لغات العالم، لأنها تاريخ أدبنا الذي نقشه أدباء هم كانوا احد أحرار هذا التاريخ الدامي، فعندما نرى لوحة الشهيد البطل شاكر الجوعان، نرى بين ألوانها روح ودم وقلم الشاعر يحيى السماوي، الذي كان جنبا إلى جنب شاكر الجوعان في مقارعة الدكتاتورية وأزلامها، فمثل هذا الأدب الصادق بحاجة إلى ترجمة، وايصاله إلى العالم، لا أدب دولارات السلطة وهبات السلطان لشعراء قصره، وهم يكتبون بعيون مغمضة عن بالوعات الدم التي هي من حولهم “. وَلا مفاجأة فِي القولِ إنّ للأدبِ دوره فِي الحيَاةِ الإنسانيَّة، وَلاسيَّما مَا يتعلق مِنهَا فِي إتاحةِ الأعمال الأدبية فرصة التفكير للقارئ أو المشاهد أو عيشهما اللحظة كما لو أنها تحدث لهما، فَعَلَى سبيلِ المثال لا الحصر، ” لولا ذيوع اسم بابل فِي فجاجِ العالم وَأزمانه، لما شهد الناس لحدائقها المعلقة كإحدى عجائب الدنيا السبع، ولما عرفوا قانون حمورابي “؛ إذ أَنَّ للأدبِ أثرا فاعلا فِي مهمةِ توثيق الأحداث وَتبليغها. وَإلى جانبِ أهميةِ مَا كتبه الدكتور الخزعلي حول ضرورة إبراز معاناة الشعب العراقي وَبؤسه بأعمالٍ أدبية، تعبيراً عَنْ الدورِ المهم الَّذِي يلعبه المنجز الأدبي فِي إطلاعِ العالم عَلَى ما تعرض لَه شعبنا مِنْ قهرٍ وَعذابات، فإنَّ المثيرَ للاهتمامِ هو أَنَّ الخزعليَ ضمن سطوره المذكورة آنفاً شهادة مهمة مِنْ أكاديميٍّ ومناضلٍ تقدمي حول دور السَماوي يحيى فِي مقاومةِ الدكتاتورية. وَأجدني هُنَا مدفوعاً بلهفٍ إلى تذكيرِ المُؤَسَّسَةَ الثقافيَّة العراقية بضرورةِ توثيق الأحداث الجسام الَّتِي عانى مِنْ ويلاتها شعبنا؛ وفاءً لدماءِ شهداء العراق الطاهرة وتضحيات أبنائه، فَغنيٌّ عَنْ القولِ إنَّ المُؤَسَّسَةَ الثقافيَّة تتحمل مسؤولية تاريخية وَإنسانيَّة فِي البدءِ بتهيئة مَا يتطلب مَشْروع تدوين أحداث مرحلة عصيبة مِنْ تاريخ العراق المعاصر، أعوامَها غنية بالمآسي وَمرارة المعاناة الَّتِي بوسعِ الأدباء وَالكتاب سبرِ أغوارها بإلهامٍ وَاحترافية؛ لأَجلِ أنْ لا يصبحَ ضحايا الدكتاتورية مُجرَّد أرقام أو لا شيء كما فِي المقولةِ اللافتة لقائدِ للاتحاد السوفييتي الثاني جوزيف ستالين ( 1878 – 1953 )، وَالَّتِي يقول فِيها ” تعتبر حالة وفاة واحدة حادثة تراجيدية، أما مليون حالة وفاة فهي حالة إحصائية “؛ إذ أَنَّ الثَّقَافَةَ ميدانٌ للنضال، وهو أمرٌ يؤكده أكثر مِنْ منجزٍ أدبي، وَلاسيَّما مَا ظهر مِنْ أدبِ المُقَاوَمَة.

لـثـمـتُ خـدودَهـا فـاغْــتـاظَ زهْـــرُ
وأعْـشَـبَ مُـقـفِـرٌ واخْـضـلَّ صَـخْـرُ

وخَــرَّ مُــكــبِّــراً نــزقٌ وطــيــشٌ
وصــلّــى تــائِــبــاً لـــلــــهِ نُـكْـــرُ

وجَــفّــتْ مُـوحِـلاتٌ لــلـخـطــايـــا
وفـاضَ على حـقـولِ العُـسْـرِ يُـسْــرُ

رأيـتُ فـجائعـي عُـرســاً ومَـغْــنـىً
وعـادَ صِباً بـرغـمِ الـشَّـيْـبِ عُـمْـرُ

غــفـونـا فـي ســريـرٍ مــن غــيـومٍ
يُــدَثّــرُنــا بــنــورٍ مــنـــهُ بَـــدرُ

وأسْـكَـرَني الـعِـنـاقُ فـرِحْـتُ أعـدو
فـبـيـني والـمــدى والــنـجـم شِــبْـرُ

فـبـعْـضـي مُـثْـقــلٌ بـالــقــيــدِ عَـبْــدٌ
وبـعـضي مثـلُ ضـوءِ الـنـجْـمِ حُــرُّ
***
إذا كان ” الوطن ” بالاستنادِ إلى رؤيةِ الكاتبِ وَالطبيب الأمريكي أوليفر وندل هولمز ( 1809 – 1894 ) الَّذِي نال الشهرة بفضلِ مقالاته وَقصائده، فضلاً عَنْ قيامِه بالتدريسِ فِي مدرسةِ هارفارد الطبية خلال سنوات أعظم نجاح أدبي لَه، هو ” المكان الذي نحبه، فهو المكان الذي قد تغادره أقدامنا لكن قلوبنا تظل فيه “، فإنَّ شرايينَ السَماوي يحيى مَا تَزال موصولة بترابِ العراق وَرافديه، فضلاً عَنْ أَنَّ روحَه – الَّتِي علاجها بحسبِه القرب مِن الأحبةِ الرائعين – تواقة للظفرِ بظلالِ نخيله، حيث يشير إلى ذلك بالقول : ” إنّ قرويةَ عراقية أو عربية في كفّها رائحة الحنّاء أجمل عندي من شقراواتِ الدنيا وسمراواتها .. وأنّ خيمة أغفو فيها بأمان في السَماوة، أحبّ الى نفسي من الإغفاءةِ في قصرٍ تطاردني فيه الكوابيس “. وَيمكن الجزم بأنَّ هَذَا الحس الوطني أكثر تأثيراً فِي نفسِ المتلقي مِنْ مضمونِ مقولة الكاتب وَالفيلسوف الفرنسي فولتير ( 1694 – 1778 ) الَّتِي مفادها ” خبز وطنك افضل من بسكويت اجنبي “.
***
حـمـلــتُ أمــيـرتـي والـلــيــلُ سِــــرٌّ
وعُــدتُ بـركـبـهــا والصّـبـحُ جَـهْــرُ

دخـلــتُ بـهــا مـن الــبــلـدانِ شــتّـى
فـأرضٌ طــيــنُـهــا مِـــسْـــكٌ وتِــبْــرُّ

وأرضٌ مـــاؤهــــا لـــبَـــنٌ وراحٌ
وأرضٌ شـــوكُـهـــا تِــيــنٌ وتــمْــرُ

وأرضٌ ســـورُهـــا قــمـحٌ ونـخــلٌ
وأرضٌ رمْــلُــهــا بــالــمـاءِ غــمْــرُ

وبــانــتْ دُرّةٌ مــن شِــــقِّ زيــقٍ
فـأخـفـاهــا عـن الـعــيـنـيــن شَــعْــرُ

كــأنّ الــنـهـــدَ فــاتــنــةٌ خـجـــولٌ
وأنّ قـمــيــصَـهــا الــشــفّــافَ خِـدْرُ

وجــيــدٌ لا أرقّ .. خـشــيـتُ هُــدبـي
ســيـجـرحُهُ .. ومـثـلُ الـجـيـدِ نـحْـرُ

أيُـطبِـقُ جـفـنـهُ في الـرّوضِ نـحْـلٌ
إذا نــادى عـلــيــه شـــذاً وزهْــــرُ ؟

فُـضِحْـتُ فـلـيس ليْ في الحـبِ أمْــرٌ
عـلى قـلـبي ولا في الـشـوقِ صَـبـرُ
***
يوم كان شعبنا يعيش فِي دهاليزِ الدكتاتورية وَأروقة أنفاقها المظلمة، لَمْ يكن السَماوي الفتى فِي معزلٍ عَنْ قضايا وَطنه السِّياسِيِّة، فالحسّ الوَطَنِيّ لَديه لَمْ يكن وَليد المنفى؛ إذ أنَّ تاريخه يحفل منذ فتوته بالكثيرِ مِنْ المواقفِ الوَطَنيّة الَّتِي عكست انحيازه إلى قضيةِ وَطنه وَشعبه، وَالَّتِي عززت بدورِها استعداده لمواجهةِ النظام الشمولي فِي الانتفاضةِ الشَعْبِيٍّة. وَقد يَبْدُو مِن المناسبِ هُنَا وَالمهم أيضاً العودة إلى الماضي البعيد لاستذكارِ مَا أتيح لنا مِنْ تلك المواقف، وَالَّتِي مِنْ بَيْنَها مَا كتبه الروائي سلام إبراهيم عَنْ زيارةٍ قام بِها فِي النصفِ الثاني مِنْ سبعينياتِ القرن الماضي إلى السِماوةِ بصحبةِ آخرين مِنْ أجلِ لقاء السَماوي يحيى بعد فراقهما فِي أعقابِ إكمال دراستهما الجامعية وسوقهما لأداءِ الخدمة الإلزامية، وَالَّتِي يصف مجريات إحدى جلساتها بالقول ” كان اللقاء حافلاً، كلام عن الثورة والأفق المسدود في العلاقة مع البعث. لا أدري كيف أنقضى الوقت، لكن كان ليل السماوة الصحراوي وحكايا النضال فيها، فقطار الموت في 1963 الذي أعده البعثيون لقتل أكبر عدد ممكن من الشيوعيين توقف فيها لينقذ أهلها من بقي حيا، وسجن نقرة السلمان البعيد في عمق الصحراء وقصصه كلها فيها، وحسن سريع الذي قاد انتفاضة معسكر الرشيد على أنقلابيي 8 شباط 1963 من أهلها، كنا نطوف ليلتها في التاريخ، في الحماسة، في الرغبة بتغيير العالم وخلق مجتمعٍ حرٍ سعيد، ليلتها بكينا أنا ويحيى بحرقة، جعلت من جلسائنا يسخرون من عواطفنا وهشاشتنا كما وصفونا ضاحكين “. وَلا رَيْبَ أَنَّ ندبةً عميقة وَجروحاً مؤلمة تركتها تلك الأيام فِي روحِ السَماوي يحيى وَأرواح أبناء شعبه، وَالَّتِي وَصفها ذات مهجر بالقول: ” أن تشعرَ بالغربةِ وأنت في وطنك بين أهلك وناسك، ذلك هو الاغتراب “، مضيفاً أيضاً ” أو بعبارة أبو حيان التوحيدي هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يفارق مهب أنفاسه، وأغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه “. وَعَنْ هَذَا الاغتراب الموجع الَّذِي فجر عذابات لا تنتهي فِي قصائدِه الشِعرية، يشير السَماوي فِي مناسبةٍ أخرى بالقول : ” تلك كانت حال كثير من المثقفين في عالمنا العربي قديماً وحديثاً، ولعل أبا ذر الغفاري واحداً من أبرزِ النماذج على اغتراب المثقف “. وَعندما يمتزج ألم تلك المعاناة وَمشاعرها الحزينة بعذوبةِ المعنى وَسحر الكلمة، وَالَّتِي ساهمت بمجملِها فِي حضورِ إِبْداعه الأدبي وَتسيّده عَلَى المنابرِ الثقافيَّة وَالفكرية، فَمِن البديهي أَنْ يجدَ منجز السَماوي الأدبي برموزه الَّتِي لها سطوتها وَقصائده الشِعرية البارعة، صدى عند الآخرين، وتجاوباً وَمشاركة لِهَذِه المعاناة. وَلعلَّ مَا كتبته الأديبة العراقية دلال محمود حول أحد أنشطة السَماوي الأدبية يعكس مَا أشرنا إليه آنفاً، حيث كتبت محمود مَا نصه ” يحيى السماوي شاعرنا وكاتبنا الجليل، انها مذكرات رغم مرارتها، تحس أن هناك شيئا ما جميلا يأخذك بعيداً – حيث لا تعلم – ليطوف بك في سني عمرك التي ذهبت هباء وفي غفلة من الزمن وكأنها باتت حلما “. وَأظنُ أَنَّ الروائيَ وَالكاتب المسرحي الفرنسي أونوريه دي بلزاك ( 1799 – 1850 ) الَّذِي يُعَدُّ مِنْ روادِ الأدب الفرنسي فِي القرنِ التاسع عشر وَتحديداً الفترة الَّتِي أعقبت سقوط نابليون، سيكون بحاجة إلى تعديلِ قوله ” الألم لا نهائي، أما الفرح فمحدود “، وجعله مقتصراً عَلَى عبارة ” الألم لا نهائي ” فِي حالِ اطلاعه عَلَى مآسي الشعب العراقي، وَالَّتِي يَبْدُو أنَّ لا نهاية لها، فالألم وَالحزن وَالمعاناة مَا تَزال ظواهر مستدامة فِي حياةِ أهل العراق.
***
يُـحَـرّضـني الـجّـمـالُ عـلى وقـاري
فـأنـسـى أنــنـي فــي الــنـاسِ سِـــرُّ

تــفــرُّ إلــيَّ مــنـي فــرْطَ ذُعْـــرٍ
فــيــغـــدو لـــذّةً عـــذراءَ ذعــــــرُ

وتُـغـوي روضـةُ الـشـفـتـيـن ثغـري
كـمـا يُـغـوي شِــبـاكَ الـصّـيْـدِ بَـحـرُ

وأثـمَـلــنـي رحــيــقٌ مـن زفــيــرٍ
كـأنّ شـمـيـمَــهُ لـلـعِـطـرِ عِــطــرُ !!

نـشــقْــتُ لـهـاثـهــا لــمّــا تـراخـتْ
فـحَـمْـحَـمَ فـي فــمـي لـلـثـمِ مُـهْــرُ

تـدَحْـرَجَ من مَـرايـا الجـيـدِ ثـغـري
وجـاز الـنَّـحْـرَ فـاسْــتـغْــواهُ صـدرُ

لـثمـتُ حـمـامـةً وشـمَـمْـتُ أخـرى
ومَـسَّـدَتِ الحـريـرَ الـبـضَّ عَــشــرُ

سـكرْتُ فـلـسـتُ أدري كيف فـرّتْ
كعـصـفـورٍ يـدي والـعـشُّ خـصْـرُ

نـسَـجْـتُ لـهـا مـن الـقُـبُلاتِ ثـوبـاً
وقــد نــام الــظــلامُ وقــام فــجْـــرُ

أمِــثـــلُ أمـــيــرتــي روحٌ وراحٌ
ومـثـلُ رضــابـهــا شـهــدٌ وخـمــرُ ؟

غـزوتُ ورودَهـا شــمّــاً ولــثـمــاً
فحـربـي فـي الـهـوى : كـرُّ .. وكـرُّ

أشــبُّ صَـبـابـةً .. وتـشـبُّ مــثـلـي
ويُـطـفِـئ جـمـرَنـا الـوحـشـيَّ جـمْـرُ

عَـلِــقــتُ بـهــا وأدري أنَّ حَــظّـي
بـلا حَـظٍّ .. وأنَّ الـحَــتـمَ خُــسْـــرُ

إذا ضحِـك الـهـوى لـيْ بعـضَ يـومٍ
فــإنَّ بُــكـاءَهُ الــصُّــوفـيَّ دَهْــــرُ

فــيــا تــفّـاحَ ” آدمَ ” لا تـلـمــنــي
إذا امْــتــدتْ يــدايَ وجُــنَّ ثـغـــرُ

لـ ” آدمَ ” عُـذرُهُ .. وأنـا لــثـغــري
وجـوعِ يَــدي ولــلأحــداقِ عُــذرُ
منذُ يفاعته، التحق السَماوي يحيى بحركةِ اليسار العراقي، وانصهرت طموحاته الوَطَنيّة وَالإنسانيَّة فِي بوتقةِ آمالِ الوطنيين الحالمين بغدٍ جديد، وَعراق معافى يسوده العدل وَالبناء وَالنماء وَالرخاء، فكان أنْ اختبرت ” وطنيته ” فِي أقبيةِ سجون الشرف؛ إذ لطالمَا اعتقل وَعُذِّب وَفصل مِنْ وَظيفته وَطورد، فضلاً عَنْ تحميل أهله الاضطهاد بسبب مواقفه الوَطَنيّة الَّتِي فرضت عَلَيه مواجهة السلطة. وَيصف السَماوي هَذه المعاناة بقولِه : ” ما هذا بجديدٍ في وطن كانت قراءة كتابٍ فكريٍّ من كتب لينين أو يوسف سلمان يوسف أو محمد باقر الصدر جريمةً تقود الى أقربِ حبل مشنقة أو ساحة إعدام “. ولعلَّ مِنْ بَيْنَ الكثير مِمَا تعرض له السَماوي، ومَا يزال يؤرقه – رُبَّما لشعوره بالذنبِ تجاه مَا سببه لِمعلمه الأول فِي الحياة – هو أنْ يُصفعَ أبوه أمامه حين زاره فِي مركزِ شرطة الحي الجمهوري بمدينةِ السَماوة يوم أوقف فِيه عَلَى خلفيةِ مقال نشره فِي صحيفةِ ” طريق الشعب ” البغدادية الَّتِي كان ضمن كادرها فِي وقتٍ كان مَا يسمى بالجبهة الوَطَنيّة فِيه قائمة. وَالمذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ فحوى ذلك المقال لم تكن سِّياسِيِّة بقدر مَا هي وَطَنيّة تُشيرُ إلى خطأ يجب تلافيه درءاً لمفسدة، حيث أَنَّ السَماوي وسم مقاله آنفاَ باسْمِ ” مدينة للألعاب في السماوة “، وَالَّذِي تضمن الكشف عَنْ أنَّ تلك المدينة مَا هي إلا مدينة قمار تُدير فيه طاولات القمار نادلات مصريات شبه عاريات وليست مدينة ألعاب “. وَليس مِنْ شك أَنَّ السَماوي يحيى الَّذِي يعبّر عَنْ فجيعةِ شعبه بقولِه : ” في ظل أنظمة مجرمة كنظام القائد الضرورة، يكون الأبرياء متهمين ببراءتهم “، ليس سهلاً عَلَيه نسيان تلك الحادثة المُحزنة بفعلِ مَا أفضت إليه مِنْ تعريضِ والده الإنْسَانٍ البريء إلى الظلمِ وَالتعسف، حيث مَا تَزال حاضرة فِي ذاكرته الَّتِي لَمْ يبقَ فِي أروقتِها فسحة متناهية الصغر بوسعِها تحمل المزيد مِن الألم، بَيْدَ أنَّ مَا تركه بِه ذلك الجمر، عزَّزَ آماله فِي الخلاصِ مِنْ حكمِ الاستبداد وبراثن الدكتاتورية، حيث يقول السَماوي بِهَذَا الصدد مَا نصه : ” أما ما الذي تركه بي ذلك الجمر، فإنه قد زاد من نضجِ وصلابة طين إرادتي تماماً كما يُنضجُ جمرُ التنّور عجين الخبز “.

لـسـتُ بـالـمُـشْـرِكِ بـالـلـهِ
فـأشْــرِكْ

بـهـواكِ الـفـرْدِ ..
قـلـبـي فـي الـهـوى يُـؤمِـنُ بـالـتّـوحـيـدِ ..
لا ثـمَّـة َ فـي مِـشـكـاةِ أحـداقـي
سـوى
مـصـبـاحِـكِ الـحـقِّ ..
ولا ثـمّـة َ فـي هـودج ِ قـلـبـي
ظـبـيـة ٌ أخـرى ..
حـمـدتُ اللهَ أنْ أسْـقـطـني العِـشـقُ
بـبـئـرِكْ

فـإذا الـذئـبُ غـزالٌ ..
والـدُّجـى نـورٌ ..
وطيـنُ الـبـئـرِ ريـحـانٌ وآسٌ
فـتـهـجّـدْتُ لأبـقـى كـلّ عـمـري
رهْـنَ أسْـرِكْ
***
لا نبعد عَنْ الصَوَابِ إذا قُلْنَا إنَّ السَماوي لَمْ يفقد الأمل بإرادةِ الشعب فِي التغييرِ عَلَى الرغمِ مِمَا حصل مِنْ إخفاقات، الأمر يجعلَه يزداد تمسكاً بخيوطِ الأمل؛ لإيمانِه بأَنَّ المعاناةَ وَالألم لهما سعة حضور فِي ظلِ مَا يفضي مِن الأنظمة السِّياسِيِّة إلى سيادة القهر وَالعذاب. وَلا أدل عَلَى ذلك مِنْ قولِه : ” لابد للفجر أن يُطِلَّ سواءٌ أصاح ديك الإمبراطور أو لم يَصِحْ .. الظلاميون ضباب، وإرادة الشعوب شمس، وليس من ضبابٍ يمتلك القدرة على خنقِ الشمس “، ولا غرابة فِيما يحمله السَماوي يحيى مِنْ رؤى، فهو بخلافِ الكثير غيره مِنْ أدعياءِ البطولات الزائفة، يمتلكُ تاريخاً ناصعاً مفعماً بمواقفَ وَطَنيّة حفرتها الأيام فِي ذاكرةِ الزمن، وَالَّتِي تُعَد براهين واضحة – لا لبس فِيها وَلا غموض – عَلَى أَنَّ السَماويَ إنْسَانٌ نبيل جعل مِنْ الأبرارِ الشرفاء قدوة له، وَشاعرٌ أصيل وَشامخ شموخ نخيل العراق، ذاب فِي حبِ وطنه وَتفاعل مَعَ همومِ فقراء شعبه. وَلأَنَّ تاريخ الكبار مليء بالدفءِ وَالفخامة وَحافل بالإضاءات، أرى مِن المناسبِ الإشارة هُنَا إلى مداخلةٍ خص بهَا السَماوي صديقه الشاعر وَالناقد العراقي خليل مزهر الغالبي الَّذِي يَعَدّ السَماوي يحيى بوصفه ” إنسان تفتن العقل والقلب أشعاره وأخلاقه “، فضلاً عَنْ أنَّه كتبَ بحقه قصيدة فِي عامِ 2010م، وَسمها بـ ” مصحة فوكو “، وَزينها بإهداءٍ نصه ” إلى شاعري يحيى السماوي إن قبلَ إليه سبيلا “، حيث كتب إليه السَماوي مَا نَصه : ” صديقي الأديب الجميل، ثمة أسباب كثيرة تحتّم عليّ أن أكون مخلصا للعراق .. من هذه الأسباب مثلا أنَ الأبرارَ الشرفاء مثلك، سيطردونني من قلوبهم لو خنت العراق يا سيدي “.
***
فـاصـنعـي بيْ مـاتـشـائـيـن .. :
وِجـارا ً نـاعِـمَ الـنـيـران ِ فـي لـيـلِ شـتـاءاتـكِ
عُـشّـا ً لِـحَـمـام الـصّـدرِ ..
نـاطـورا ً لـوردِ الـفُـلِّ في روضةِ خـصـرِكْ

وأمـيـنَ الـتِّـبْـرِ والـفِـضَّـةِ والـدُّرِّ
بـكـنـزِ الـجـسـدِ الـمـائِـيِّ ..
حَلاّجـا ً جـديـدا ً
يـتـمـنـى الـعـمـرَ مـصـلـوبـا ًعـلـى
شُـرفـةِ نـحـرِكْ

فـأنـا ـ معـصومـة َ الأعـذاق ِ ـ سِــرِّي
طوعُ جَـهْـرِكْ

ومـيـاهـي طـوْعُ واديـكِ ..
وطِـيـنـي طـوْعُ جَـذرِكْ ..

لـيـسَ فـي الـفـردوسِ
مـا يُـغـوي فـراشـاتي بعـطـر ٍ
غـيـرِ عـطـرِكْ

وشـراعي لـيـس مـايُغـريـهِ بـالإبحارِ
إلآ
مـوجُ بحـرِكْ

وكـؤوسي لا تُـسـاقـيـنـي رحـيـقـا ً
غـيـرَ خـمـرِكْ

وبـسـاتـيـني أبـتْ تـنهـلُ
إلآ
فـيضَ نهـرِكْ
***
السَماويُّ يحيى الباحث عَنْ بلسمٍ لشفاءِ جرح الوطن، لا ينفك عَنْ التفاعلِ مَعَ المَوْرُوثِ قصد رسم لوحة فنية تندمج فِيها المشاعر الإنسانيَّة وهو يبحث عَنْ توصيفٍ دقيق يليق بمعاناةِ شعبنا فِي الماضي وَالحاضر، حيث يصوّر الألم الَّذِي أضنى أهل العراق مِنْ خلالِ توظيفِ مفردات مهمة وردت فِي الملحمةِ العربية اليتيمة الَّتِي حملت اسْمِ ” ملحمة جلجامش “، وَالَّتِي مِنْ حقنَا أنْ نفخرَ بِهَا؛ لأَنَّهَا ملحمة عراقية انبثقت مِنْ فضاءاتِ بلادِ الرافدين، وَحروفها خطت عَلَى أديمِهَا، حيث يشير السَماوي إلى محنةِ بلاده بالقول : ” لا ثمة ما ينبئ عن أنّ الوحش خمبابا سيغادر الغابة المسحورة “. وَتحضرني فِي هَذَا الإطار مقولة بليغة للروائيِّ الروسي ديستويفسكي يقول فِيهَا ” أخاف أن أقول لك اني بخير، فتتمنى دوامه .. فيتخلد بؤسي “، فالسَماوي يخشى عَلَى بلادِه الَّتِي يراها تضيع رويداً رويداً. ولعلَّ مِنْ المناسبِ أنْ نتأمل مَا سجلته أقلام بعض القراء عَلَى صفحاتِ المواقع الإلكترونية عَنْ شاعرية السَماوي وَما قدمه مِنْ أجلِ بلده وَشعبه، وَالَّتِي مِنْ بَيْنَها عَلَى سبيلِ المثال لا الحصر قول قارئ كريم – قد يكون عَلَى معرفةٍ بالسَماوي منذ أيام الدراسة الجامعية – مَا نصه ” عرفت السَماوي واستمعت إلى قصائده منذ أكثر من أربعين سنة، حتى رأيته قبل فترة قصيرة فكان كما هو يحمل على كاهله هموم الوطن واوجاعه “. ويضيف قارئ آخر بالقول ” برعت وأجدت بالســـجال واشهرت اليراع واحسنت المقال وانطلقت بخيل خيالنا ودونت ملاحم من قصائد تبقى لأجيال “. وَفي مداخلة جميلة يَدلُو قارئ آخر بدَلْوَه قائلاً ” التي توصد شطآنها عن سفينة اشواقك المبحرة دائما وشراعها القصيدة، إنما توصد باب حظها دون امل قادم يبشر بالجمال.. أنت تجترح لنا في افق الجمال غيمة مطرها زمرد ومخمل.. شاعرنا الكبير، دم كبيرا لنتباهى بقامتك الشعرية “.
***
لـيس ليْ أمـرٌ عـلى قـلـبـي ..
فـأمـري
طـوعُ أمـرِكْ

مُـقـلي أعـلـنـتِ الإضـرابَ ..
لا تـبـصـرُ إلآكِ ..
وثـغـري أوقـفَ الـلـثـمَ
عـلـى
زنـبـقِ ثـغـرِكْ

أنـتِ مَـنْ أسْـرَتْ بكهـفـي
لـيلـة َ الـمـوتِ
لأحـيـا
شـمـسَ فـجـرِكْ

قـدَري أنْ أتـشـظّـى فـي تـخـوم الـطّـيـش ِ دهـرا ً
قـبـلَ أنْ
تـجـمـعـنـي ” لـيـلـة ُ قَـدْرِكْ” !
***
مِنْ المعلومِ أنَّ التمسكَ بالأملِ يُعَدُّ أفضل سُّبُل مواجهة اليأس وأكثرها تأثيراً، حيث أَّنَّ رهان الإنْسَان عَلَى الحياة، يملي عَلَيه الدفاع عَنْ خياراتِه؛ لأنَّ إصراره عَلَى السيرِ بأملٍ نحو الآفاق الرحبة مِنْ شأنِه المُسَاهَمَة الفاعلة فِي مهمةِ فك قيود اليأس حين تحاصره، فوظيفة الإنْسَان فِي الحياة بحسبِ السَماوي يحيى هي المُسَاهَمَة بإضاءِة مَا هو معتم، وإيقاد شمعة فرح فِي ليلِ الإنْسَان. وَمِمَا هو جدير بالإشارةِ أنَّ مِنْ بَيْنَ الرؤى المنسجمة مَعَ هَذَ الواقع هو إشارة الأستاذ الجامعي الأمريكي، الباحث فِي مجالِ تِقْنِيَّة المَعْلُومات وَالمُتَخَصِّص فِي الواقعِ الافتراضي الدكتور راندي بوش (1960 – 2008 ) إلى ذلك بالقول ” ما يهمُ ليس الضربات التي نسددها، بل تلكَ التي نتلقاها، ونقاومها كي نسيرَ إلى الأمامْ “، لكن يَبْدُو أنَّ الجراحَ – بحسبِ معطيات الواقع المحلي – تأبى أنْ تلتئمَ فِي بلادِنا الَّتِي مَا يزال البؤس يخيم عَلَى فضاءاتِها. وَقد تناول السَماوي يحيى هَذَا الأمر، وَعبر عَنه بشكلٍ دقيق حين وَصف فِي قراءته هَذَا المسار مَا نصه : ” منذ عرف شاربي شفرة الحلاقة وأنا أغرس في حقولِ حياتي شجر الأحلام، ممنّياً نفسي بما كان يتمنى السندباد وهو ينشر أشرعة سفينته بحثاً عن الجزيرةِ الحلم – الأمنية – ليفاجأ بعد عذاب وطول انتظار أنّ جزيرته لم تكن غير بيضة الرخّ الأسطورية. فما أجمل فراديس الأماني التي ندخلها في الأحلام… وما أقبح مفازات وكهوف الواقع “.

***

” والـضُّحى والـلـيـل ِ ” :
ما أشـمـسَ صُـبحي دون عـيـنـيـكِ
ولا زان مـسـائي غـيـرُ بـدرِكْ

ما سَـجـا صدريَ
إلآ
ودثاري دفءُ صـدرِكْ

فـأنـا بـعـضُـكِ يـا كُـلّـي ..
ونـهـري طـفـلُ قـطْـرِكْ

ثـكـلـتْـنـي جـنّـةُ الـعِـشـقِ
إذا يـعـشـقُ نـحـلـي
غـيـرَ زهـرِكْ

فـأزيـلـي
عـن مـرايـاكِ ضَـبـابَ الـشـكِّ ..
لا ” لاتٌ ” و ” عُـزّى ” غـيـركِ الان بـمـحـرابـي
ولا كـعـبـة عـشـق ٍ
غـيـر خِـدْرِكْ
فِي هدأةِ ليلٍ مِنْ لياليِّ المنفى، وَقد حَرَمَ حنينه لأيامِ الطُفولَة فِي سماوتِه عَلَـى أجفانِ عينيه المثقلتين بالنعاسِ لذيـذ المنام، فتح السَماوي يحيى حافظة الرسائل فِي بريدِه الإلكتروني، واستعرض مَا فِيها، فوجد رسالة مِنْ أحد الأدباء تحمل سؤالاً عَنْ تأريخ ولادته، وَبعد لحظات استرخاء عاد إلى حاسوبه ليكتبَ مَا نصه : ” لم أولد بعد يا ولدي .. أعني أنَ ولادتي الحقيقية ستكون حين يعود عراقنا خيمة محبة للجميع تخلو من ذئاب البنتاغون وضباع الظلاميين ولصوص قوت فقراء العراق “.