( الحلقة السادسة )
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ موروثِنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
مِن المناسبِ الإشارةِ هُنا إلى أَنَّ مِنْ بَيْن مَا شهده معترك الحياة اليومية فِي القريبِ مِنْ تأريخِ العراق المعاصر – الغنيّ بالأحداثِ والوقائع وَالزاخر بِمَا تنوع مِن الحكاياتِ – هو أَنَّ الأهاليَ الَّذين عرفوا بأمثلِ درجات التكاتف فيما بينهم، فضلاً عَنْ تمسكِهم بأسمى صور العلاقات الإنسانية وأكثرها نبلاً، وَالَّتِي بلغتْ درجة فهم بعضهم بعضاً مِنْ خلالِ الإشارة إلى الحاجةِ بمضمونِ الحديث أو مِنْ نظرة العين فِي بعضِ الأحيان، كانوا مهتمين فِي التركيزِ عَلَى تنويعِ سُّبُلٍ مبتكرةٍ مِنْ أجلِ ديمومةِ الحياة، وَالَّتِي مِنْ شأنِها مواجهةِ صعوبة ظروف المعيشة وَالاستجابة للبسيطِ مِنْ أحلامِهم؛ بغية تسييرِ حياتهم عَلَى نَحوٍ أفضل. وَلعلَّ مِنْ بَيْن تلك الأنشطة الَّتِي تبدو بلا رَيْبَ منسجمة مَعَ بساطة الحياة آنذاك، هو تسخير الأهالي لطاقاتِهم وَخبراتهم، إلى جانبِ ما أتيح إليهم مِنْ مَعْرِفةٍ فِي اِسْتِغلالِ الكثيرِ مِنْ المُخَلَّفَات – الَّتِي تُعَدّ اليوم أحد أبرز المُشكلات الأساسية الَّتِي تعانيها بلادنا وبلدان أخرى – بقصدِ الاستفادة مِنها فِي تغطيةِ بعض الاحتياجات اليومية داخل المنازل أو فِي أماكنِ العمل، مثلما كانَ الناسُ يفعلون مَعَ بقايَا الأجزاء الحديدية وَالمخلفات الخشبية وَأوعية النفط المعدنية الفارغة وَصفائح السمن بعد الفراغ منها، فضلاً عَنْ كثيرٍ غيرها. وَالمتوجبُ إدراكه أيضاً هو الاهتداء إلى فكرةِ توظيف تلك المواد عَلَى وفقِ أسسٍ عَمَليَّة فِي مهمةِ تفعيلِ عددٍ مِن الحرفِ الَّتِي تحولت مَعَ مرورِ الأيام إلى مهنٍ تلبي طلبات المُجْتَمَع المَحَلّيّ وَتواكبُ إلى حدٍ بعيد الكثير مِنْ احتياجاته، فضلاً عَنْ معاونتِها الأهاليّ فِي تجاوزِ الخشية مِنْ احتمالِ تعريض بعض تلك المهن أو الحرف إلى البحثِ عَنْ مستقرٍ لها فِي دهاليزِ خانةِ الانقراض كما هو حاصل للحرفِ التقليدية الَّتِي توشك حالياً فِي مدننا عَلَى الاندثار، بالإضافةِ إلى توفيرِها لقمة العيش لممتهنيها، وَمُسَاهَمَتها فِي إيجادِ فرصِ عملٍ مفيدة – وَقد تكون ممتعة أيضاً – لكثيرٍ مِن العاطلين عَنْ العملِ والباحثين عَنْه. وَلَعَلَّنا لا نبعدُ عَنْ الواقعِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ تلكَ العادات الَّتِي قد تشكل علامة فارقة فِي حياتنا المعاصرة – الشخصية وَالمهنية – تُعَدّ فِي واقعِها الموضوعي، وَعَلَى الرغمِ مِنْ بساطتِها جزء مِنْ أدبياتِ أحدِ المفاهيم العِلْميَّة الحديثة الَّتِي يشارُ إليها باسْمِ التدوير.
مِنْ بَيْن المشاهداتِ المشار إليها آنفا، وَالَّتِي مَا تَزال ذاكرة متخيّلة لدى الَّذين عايشوها، وَذاكرة منقولة شفوياً لدى البعض الآخر، هو أَنَّ التفاحَ المعروض فِي السوقِ المحليّ لغاية مَا تأخرَ مِنْ أعوامِ العقد السادس مِن القرنِ الماضي، وَلاسيَّما المورد إلى أسواقنا بفعلِ ازدهار الأنشطة التجارية مع الجمهورية اللبنانية، كان يصلنا محفوظاً فِي صناديقٍ خشبيةٍ أنيقة، رصت قطعها الرشيقة بشكلٍ منتظم، وجرى تبطينها بورقٍ ﻤﻘوى، فضلاً عَنْ حرصِ الإدارةِ المعنية بتسويقِ الفواكه عَلَى تغليفِ مَا تحتويه تلك الصناديق – كُلٍّ عَلَى انْفِراد – بورقٍ شفاف؛ سعياً فِي ضمانِ المحافظة عَلَى نظافتِها وطراوتها. وَقد حظيَ الفتى السومري برعايةِ أمه وأبيه – طيّب الله ثراهما – وَنال اهتمامهما؛ لأنه كانَ أكبر أشقائه وشقيقاته، فقد صنعا لَهُ سريراً مِنْ صناديقِ التفاح ينام عليه بمفردِه عَلَى العكسِ مِنْ شقيقاتِه وأشقائه الَّذين يفترشون أرض الغرفة، حتى إذا كبر قليلا، استثمرَ والدهُ سقيفة البيت فَعملَ لها مَا يشبه الجدار مِنْ قماشٍ سميك وَحصيرة قصب، فغدت بمثابةِ حجرةٍ ثانية له وَلأشقائِه.
إنْ تـسألي شـفـتي فلنْ تجـِدي
ماءَ الجوابِ المرتجى لِصَدي
فاسْـتنطقي عـَيْناً يـُحاصِرُهـا
شــوقٌ بهِ يـومي أذلَّ غـدي
واسْـتحْـلِفي قـلبي : أفـارَقـَهُ
شـَغَفٌ الى الأحبابِ والبَلدِ؟
مـنذ ارتمـيـتُ بغـربـةٍ وأنا
مَـيْتٌ .. ولكنْ نابضُ الجَـسَدِ
في يدي ورْدٌ .. وفي
روحيَ جُرْحُ
***
فـالـنقيـضـانِ أنا : لـيـلٌ وصُـبْحُ
والصَّديقانِ أنا : شـمـسٌ وظِـلٌّ
والـعَـدُوّانِ أنـا : ثأرٌ وصَـفـْحُ
لا أنـا الصّاحي فأغـْفو عن أسىً
أو أنــا النائمُ جـذلانَ فـأصْحـو
لمْ تـزلْ صفحةُ عـمري زَبَداً:
تكتبُ الأحلامُ … والأقـدارُ تمحو
في ظلِ تلكَ الظروف القاسية الَّتِي لا مناص مِن الاعترافِ بصعوبةِ إمكانية أهالي المدينة فِي تحييدِها أو التقليل مِنْ شدةِ آثارِها، وجد السماوي يحيى نفسه ملزماً بالتعاملِ مَعَ معطياتها وَمسايرةِ ركبها؛ إذ مخضته أمه وسط أحضان أزقة، أورثتنا حكاياتها حجارة استخدمها السومريين فِي بناءِ أقدم الحضارات الإنسانية، وَدهلة ماء ارتكزت عليها مسيرة النماء وَتشعبت آفاقه. وَنشأ وَترعرع وَاشتد عضده مَا بَيْنَ جنبات محلات عتيقة لمدينةٍ لا يفوح مِنْ ثناياها سوى عبق المحبة وَالبساطة وَالطيبة، وَالَّتِي قد لا يشعر بعذوبتِها غير الغربَاء، بالإضافةِ إلى رائحةِ أرغفةِ خبز تنور الطين الَّتِي تشع مِنْ ماضيِها عطور الأمهات الكبيرات المجاهدات الصابرات، وَاللَّائِي لَمْ يبرحن التنور الساخن يوماً؛ لأجلِ عجنّ الحياة لأطفالهن وأسرهن قبل خبزها بنفوسٍ صافية وَقلوبٍ نقية عامرة بالحبِ والمودة.
ابي عاش سبعين عاماً ونيفاً
على الخبِز والتمرِ
ما زار يوما طبيباً..
وأمي ، إذا جعتُ، تشوي لي الماء
او تنسجُ الصوف ثوباً
فيغدو حريراً بهيًاّ
ليسَ خافياً أنَّ الصورةَ الشعْرية تُعَدّ أحد المقومات الأسَاسيَّة لتشكيلِ القصيدة؛ لأَنَّ الصورةَ الفَنِّيَّة تُشكلُ أساس الخلق الشعري بالاستنادِ إلى منظورِ أغلب القدماء وَالمحدثين، بوصفِها أحد العناصر البنائيًّة المهمة فِي بنيةِ النَص الشعْريّ. وَضمن هَذَا الإطار مِن الْمُفِيدِ التنويه هُنَا إلى أَنَّ عبارةَ ” شوي الماء ” الواردة فِي مضمونِ النص الشْعري آنفاً، تُشكلُ تعبيراً بلاغياً استخدمه السَمَاويّ بحنكة؛ لأجلِ التعبيرِ بصيغةٍ مجازية عَنْ واقعٍ يوميٍّ عاشته دهوراً أمه، فضلاً عَنْ كلِّ الأمهات العراقيات الفقيرات، وَهُن يجهدنَ فِي محاولةِ فتح قفل باب المستحيل بخصوصِ طرد شبح الجوع عَنْ صغارهن؛ إذ يستذكر السَماويّ ضمن المنحى ذاته تناوله ألذ ” مثرودة ” فِي حياتِه، وَالَّتِي ما يزال طعم مذاقها للآن فِي فمه، مَعَ العرض أَنَّ الفقرَ ألزم والدته – رحمها الله – اللجوء إلى إعداد ذلك الصنف مِن الطعامِ بواسطةِ خلط الماء وَالكركم وَالبصل وتسخينه عَلَى النار ليصبح حساء. وَالمذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ تلك القصة لَمْ يكن حضورها مقتصراً عَلَى مائدةِ أسرة المرحوم عباس السَمَاويِ؛ إذ أَنَّها كانت – وَمَا تزال – لا تبارح بيوت الفقراء مِنْ أهلِ العراق الَّذِي حبا الله تبارك وَتعالى أرضه بالنفطِ وغيره مِما تباين مِن الثروات. وَمِنَ الْمُفِيدِ أنْ نشير هُنَا إلى بعضِ مَا كتبه الناقد السوري الدكتور صالح الرزوق حَوْلَ أثر الحياة الشخصية عَلَى تكوينِ العقل فِي حياةِ الشاعر السَماويّ؛ إذ يتوافق الرزوق – المطلع بشكلٍ دائم عَلَى النتاجِ الشعْريّ للشاعرِ يحيى السَماويِّ – مَعَ مَا أشرنا إلَيه فِيما تقدم حين يقول إنَّ ” الرفاهيةَ ليست مرضاً لكنها غير متوفرة لكثيرين مِنْ أبناءِ بلادنا – يقصد البلدان العربية – بسببِ الفقر العام والفقر الشخصي، فالتخلف بحد ذاته مثلبة وضعف. وأعتقد أنه مِنْ هُنَا نجمت صور حبه – يعني السَمَاويّ – للكادحين والإكثار مِن مفرداتٍ كالمنجل والتنور والمطرقة “.
ألقيت بين أحبتي مرساتي
فالآن..تبدأ – ياحياة – حياتي
الآن ابتدئ الصبا ولو أنني
جاوزت خمسينا من السنوات
الآن اختتم البكاء بضحكة
تمتد من قلبي إلى حدقاتي
الآن ينتقم الحبور من الأسى
ومن اصطباري ظامئا كاساتي
أن في السماوة.. لن أكذب مقلتي
فالنهر والجسر الحديد هداتي
وهنا جوار الجسر كانت قلعة
حجرية مكشوفة الحجرات
هذا هو السجن القديم..وخلفة
جهة الرميثة ساح اعدامات
وهناك بيت أبي..ولكن لم يعد
لأبي به ظل على الشرفات
لا يخطئ القلب التراب..شممته
فتعطرته بطيوبه نبضاتي
وهناك بستان الإمامي والذي
عشقت نعومة طينه خطواتي
النخل نفس النخل..إلا انه
مستوحش الأعذاق والسعفات
لكأن سعف النخل حبل مشيمة
شدت به روحي لطين فرات