( الحلقة الرابعة )
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكون للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف.
رحلةُ الفتى السَماوي بدأت فِي ثنايا أزقةِ طرف الغربي، الَّذِي تفوحُ مِنْ حيطانِ أغلبِ بيوتِ أزقته – وَالَّتِي رُبَّما جرى بناءُ بعضِها مِما أُتيح مِن الحجارةِ المتهالكة – رائحةُ الفقرِ وَالحرمانِ والجوع، مَا زاد معاناةَ ساكنيها معاناةً أخرى، إلا أَنَّ المنبعثَ مِنْ أريجِ تأريخ تلك المدينة الحالمة، مَا يَزال بوسعِه ملء أنف مَنْ يحاول دخول أروقة تلك المنازل أو مَا تحول مِنْ بيوتها إلى أطلالٍ بعبقِ مَا كان ينبعثُ مِنْ البخورِ أو الحرملِ المشتعل فِي أوعيةٍ معدنية عتيقة أو محارق فخارية مزينة بألوانٍ زاهية، وَالَّذِي اعتادت رباتُ المنازلِ آنذاك عَلَى إيقادِهما أو أحدِهما عند مغيبِ شمسِ كُلِّ يوم؛ سعياً مِنهُنَ للبحثِ عَمَا مِنْ شأنِه إشاعةُ الأملِ بمواصلةِ الحياة، بعد أنْ جُبلنَ عَلَى العيشِ وسطَ دوامةِ الحياة، وَهُنَ يَحمِلْنَ مِنْ جراحِ الزمانِ وآهاته، مَا قد لا يتحمَّلُ أبسطهُ سكانُ اليوم؛ إذ يعتقدُ الكثيرُ مِن الناس – حتى يومنا هَذَا – بفعاليةِ تلك الأبخرةِ فِي طردِ الشياطينِ والأرواحِ الشريرة، وإبعادها الحسدَ وَأثرَ العين، بالإضافةِ إلى مباركتِها المكانَ وَجلبِها البرَكَة.
حديثَ قدميَّ مع الأرصفة
وأنا أتسكعُ فِي بغدادَ
مُتعكِّزاً أضلاعي
حاملاً على ظهري
صُرَّة السماوة؟
فِيْ رَحمِ تلك المنازل – وَالَّتِي كانت تصاميمها تعكس ملامح العمارة المعتمدة فِي المدينةِ آنذاك، فضلاً عَنْ طبيعةِ العلاقات الاجتماعية السائدة فِيها – بدأ السماوي الحبو وَالركض فِيمَا أُتيح له مِنْ أروقتِها محدودة المساحة، بالإضافةِ إلى ( درابينِها ) الضيقة الَّتِي لا تمت لتصاميمِ المدنِ الحالية وَمبانيها الخرسانية، إلى جانبِ الشاهقِ مِنْ بناياتها بأيِّ صلة، وَمِنْ طينِها صنعَ أول دمية، وكأنهُ – وَدونمَا قصدٍ أو دراية – يعودُ بالزمنِ إلى عصورٍ غائرة فِي التأريخ؛ ليبلغَ وقتاً مبكرا مِن الألفيةِ الثانية قبل الميلاد؛ سعياً فِي البحثِ عَنْ تأريخِ كتابة الألواح الطينية، متأملاً بزوغ الحضارة السومرية وعَبَق تأريخها الحافل بسجلاتٍ عظيمة؛ إذ توثق عصورها الذهبية الزاهية المليئة بأروعِ منجزات الحضارة العراقية القديمة، بوصفِها أقدم الحضارات الإنسانيَّة المعروفة عَلَى الأَرْض، وَالَّتِي خيل إليه استحالة إستعادة بريقها وَفوحان أَريجها مرة أخرى فِي بلادِه الَّتِي مَا زالت ترزح تحت وطأة الألم وَالمعاناة؛ بفعلِ مَا يحدث مَا بَيْنَ أهلها مِنْ خلافات، وَرؤاهم مِنْ شتات، بالإضافةِ إلى تغليبِ المصالح الشخصية عَلَى مصالحِ البلاد العليا، وَالَّتِي تشهد عليها أوجاع المعوزين فِي وطنِ الغنى وَتعدد الثروات، فضلاً عِنْ دموعِ الإغتراب فِي المنافيِّ البعيدة، فلا يكَادُ يندملُ جرحاً حتى تتفتح جراحات.
دَخَـلـتُـهُ وأنـا مُـنـتـصِـبٌ مـثـل عـلامـةِ تـعـجُّـب ..
تـجَـوَّلـتُ فـيـهِ وأنـا مُـنـحـنـي الـظـهـر مـثـل عـلامـةِ اسـتـفـهـام ..
فـغـادَرْتـُـهُ وأنـا ضـئـيـلٌ كـالـفـارزةِ
خـشـيـةَ أنْ أنـتـهـي فـيـهِ مُـجَـرَّدَ نـقـطـةٍ فـي
صـنـدوقٍ خـشـبـيّ !
ليسَ خافياً أنَّ الحياةَ اليومية لأغلب الأهالي فِي البلاد، كانت تقوم حينئذ عَلَى البساطةِ فِي المعيشةِ والجهد ؛لِغرض الحصولِ عَلَى القُوتِ ، الَّذِي لا يتجاوز – ربما – فِي أحسنِ الأحوالِ مؤنة نهار واحد، بالإضافةِ إلى تحملِ المرأة أعباء ثقيلة تضاف إلى واجباتِها المَنْزِلِيَّة المعتادة، وَأهمها الحرص عَلَى جلبِ الماء الصالح للشرب مِن الأنهار، مَعَ العرض أَنَّ السقائينَ كانوا – فِي مراحلٍ زمنية سابقة ، أو فِي بعضِ مناطقِ البلاد الأخرى – يؤدون هَذِه المهمة بواسطةِ قربهم المحملة عَلَى ظهورِ مطاياهم.
ليَ الآنَ
سـَبَبٌ آخر يمنعني من خيانةِ وطني :
لحافُ ترابِهِ السـميك
الذي تـَـدَثـَّرَتْ به أمي
في قبرها أمس !
***
وحدُهُ فأسُ الموتِ
يقتلعُ الأشجارَ من جذورها
بضربةٍ واحدة
***
قبل فراقها
كنتُ حيّاً محكوماً بالموتِ ..
بعد فراقها
صرتُ مَـيْتاً محكوماً بالحياة
***
لماذا رحلتِ
قبل أنْ تلديني يا أمي ؟
أما من سلالمَ أخرى غير الموتِ
للصعود نحو الملكوت ؟
***
في أسواق ” أديلايد ”
وَجَـدَ أصدقائي الطيبون
كل مستلزمات مجلس العزاء :
قماش أسود .. آيات قرآنية للجدران ..
قهوة عربية .. دِلالٌ وفناجين ..
بخورٌ ومِـسْـكٌ ..
باستثناء شيءٍ واحدٍ :
كوبٌ من الدمع ـ حتى ولو بالإيجار
أعيد به الرطوبةَ
إلى طين عينيَّ الموشكتين علىَ الجَـفاف !
***
كيفَ أغفو ؟
سَــوادُ الليلِ يُـذكـِّرُني بعباءتها ..
وبياض النهارِ يـُذكـِّرني بالكفن ..
يا للحياة من تابوتٍ مفتوح !
أحياناً
أعتقدُ أنَّ الحَـيَّ ميتٌ يتنفـَّسُ..
والمـَيْتَ حيٌّ لا يتنفـَّس..
بعد أنْ كبرَ السماوي قليلاً صارَ يطلقُ لقدميِه العنان، وكانه يتبارى فِي الركضِ مَعَ أصدقائه؛ إذ لا يبدد سعادته غير تحذيرات أمه -رحمها الله – عند ذهابه مَعَها إلى نهرِ الفرات؛ ليعودا منه حاملين أواني الماء عَلَى رأسيِهما ؛ لقرب محلته مِنْ النهر، فضلاً عَنْ إفتقارِها فِي تلك الأيام – مثل الكثير غيرها مِنْ المحلاتِ المجاورة – إلى شبكاتِ الإسالة، وهو الأمر الَّذِي فرض عَلَى الغالبيةِ العظمى مِن النساءِ تبنى تلك المهمة؛ لأجلِ تغطية إحتياجات العائلة مِن المياه .
مِنْ هُنَا فإننا لا نبعد عَنْ الحقيقةِ إذا مَا قُلْنَا إنَّ لنهر الفرات تأثيراً فِي حياةِ السُكّان، وَسُّبُل عيشهم بمدينةِ السَماوة، فضلاً عَنْ علاقتِه التاريخية مَعَ النُمُوّ الحضري؛ إذ لا يخفى عَلَى أحدٍ قيام الحَضارات الأولى، بالإضافةِ إلى مَا تلاها مِنْ حَضاراتٍ عَلَى ضفافِ الأنهار.
أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أنَّ نهرَ الفرات كان رئة المناطق الَّتِي تجاوره، بالإضافةِ إلى مَا أُقيمَ مِنْهَا عَلَى ضفافِه؛ إذ عُرف هَذَا النهر المبارك منذ عقود طويلة بوفرةِ خيراته المتمثلة بِمَا يجلبه مِن الماءِ العذب الَّذِي يروي ظمأ السكان المحليين، فضلاً عَنْ اِسْتِفادةِ المزارعين مِن الرواسبِ الطينية الَّتِي يحملها فِي المُسَاهَمَةِ بزيادةِ خصوبة أرضهم، وَانتعاشِ شبكات الصيّادين المنصوبة فِي مجرى النهر. وَأَدْهَى مِنْ ذلك أنَّ مواسمَ غضبه الَّتِي شهدتها بعض مناطق البلاد الجنوبية مرتين فِي زَمنِ الجوعِ وَالإضطهاد ( عامي 1968م و 1989م )، اقتصر حدوثها عَلَى ضفةِ نهر الفرات المحاذية لمنطقةِ الجزيرة الَّتِي يخترقها حالياً خط المرور السريع الرابط ما بين بغداد والبصرة؛ نظرا لعدمِ تحصينها بسدةٍ ترابية، مثلما هو حاصل فِي ضفةِ النهر الأخرى الَّتِي يشارُ إليها محلياً باسْمِ صوبِ الشامية، الأمر الَّذِي جعل فيضان نهر الفرات فِي تلك المناطق، لا يَعُدُو أنْ يَكُونَ بمثابةِ غيمة عابرة؛ إذ سرعان مَا تنجلي خشية الناس مِنْ خطورةِ طغيانه، بالإضافةِ إلى إزدهارِ الأراضي الَّتِي تتعرض للأغمار، وإخضرارها أيام إرتفاع مناسيبه.
لعلَّ خير مصداق عَلَى مَا تقدم هو مَا نشاهده فِي الوقتِ الحَاضر مِنْ زيادةٍ فِي تكرارِ وَكثافة العواصف الترابية وَالرملية وَالغبارية المؤدية إلى حجبِ الرؤية – فِي عزِ النهار – بمنطقةِ (الكَطيعة) النَّفْطية الَّتِي موقعها غربي محافظة ذي قار مقابل ناحية البطحاء فِي صوبِ الجزيرة ، وَامتداد تلك الآثار المُنَاخيَّة إلى بعضِ مناطق محافظة المثنى؛ نتيجة تسبب قلة مناسيب مياه نهر الفرات فِي غيابِ الغطاء النَبَاتِيّ الَّذِي يفضي إلى تفاقمِ مخاطر الزحف الصحراوي عَلَى المستوطناتِ البَشَريَّة.
في يدي ورْدٌ .. وفي روحيَ جُرْحُ فـالـنقيـضـانِ أنا : لـيـلٌ وصُـبْحُ
والصَّديقانِ أنـــــا : شـمـسٌ وظِـلٌّ والـعَـدُوّانِ أنــــــا : ثأرٌ وصَـفـْحُ
لا أنـــا الصّاحي فأغـْفو عن أسىً أو أنـــــــا النائمُ جـذلانَ فـأصْحـو
لمْ تـــــزلْ صفحةُ عـمري زَبَداً: تكتبُ الأحلامُ … والأقـدارُ تمحو