( الحلقة السابعة عشرة )
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
بعد أنْ أنهى السَماوي المرحلة الثانوية مِنْ دراستِه فِي مدينةِ الديوانية، كانَ لِزامًا أنْ يودع أهاليها الودودين، وَمقاهيها الشعبية المشبعة بعبقِ مَا تهالك مِن “الحصران” المفروشة عَلَى الأرائكِ الخشبية، فضلاً عَمَا أستطيبه مِنْ رحابِها المليئة بالإنسانيَّةِ وَالطيبة وَالتراثِ قاصداُ بوابةِ المُسْتَقْبَل المنشود فِي بَغْدَاد العاصِمة؛ لأجلِ إتمام رحلة أحلامه الَّتِي بدأت فصولها – فِي وقتٍ مبكر – مِنْ أزقةِ صوب الغربي فِي جنتِه الأرضية، وَمَا برحت تُراود نومه، فَلا ريب أنَّ مَا تَحَمَلَهُ وَحَمَلَ أسرته الكثير مِنْ أجلِه، مَا كان ليمنحه فرصة التفكير بالوقوفِ فِي منتصفِ الطريق، وَإنْ بدت بعض مسالكه المتشعبة وَعرة، وَبعضها الآخر أكثر مشقة. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ تلك المدينة الَّتِي تتوضأ صباحاتها بمياه فرعٍ مِنْ نهرِ الفرات يشار إليه باسْمِ ” شط الديوانية “، أحبها السَماوي بشغفٍ لا حدود له، فلطالما كانت أمكنتها – بفرحِ أيامها ومَا تخللها حيناً مِنْ وجعٍ – حاضرة فِي ذاكرته وهو يحث خطاه فِي هذه الحياة مَعَ العابرين، فالأشياء الجميلة كما فِي الحكمةِ الَّتِي سمعتها ذات يوم مِنْ معلمِ يساري الهوى صيرته سلطة الاستبداد مجنوناً يفترش أرصفة مدينتي ” لا تموت “.
قد يظن بعض القراء أنَّ هناكَ اختلافات كبيرة فِي طبيعةِ الحياة أو فِي أساليب المعيشة، تميز مُجْتَمَع مدينة الديوانية عَنْ بيئةِ مُجْتَمَع القضاء الَّذِي ولد ونشأ فِيه السَماوي، وَالَّتِي مِنْ شأنِها المُسَاهَمَة فِي إحداثِ فجوةٍ ثقافيَّة وَحضارية مَا بَيْنَ المدينتين، فالواقع يشير إلى تشابه ظروفهما مِنْ حيث قساوة الظروف الاجْتِماعِيَّة وَالحرمان مِنْ أبسطِ متطلبات الحياة بفعلِ انخفاضِ الدخل وَندرة الخدمات البَلَديَّة وَالاجْتِماعِيَّة وَشيوع الفقر المريع مَا بَيْنَ الأهالي فِي كليهما، بَيْدَ أنَّ الشيءَ الوحيد المميز فِي تلك الحقبة مِنْ حياةِ السَماوي يتمثل بالفسحةِ غير القليلة مِن الحريةِ الَّتِي منحها إياه وجوده فِي مدينةِ الديوانية؛ إذ أضحى بمقدورِه السهر وَارتياد المقاهي مَعَ نخبةٍ مِن الأصدقاء ” أدباء وَزملاء دراسة “، فضلاً عَنْ قدرته عَلَى السفرِ إلى بغداد وَكربلاء وَالمسيب وَالحلة مِنْ دُونِ الحاجة لاستئذانِ أبيه.
أفـرَغْـتُ قــلــبـي مـن ســواكَ حـبــيــبـي
فاطـفِـئْ بـمــــــاءِ رضـاكَ جـمـرَ ذنـوبـي
أطْـمَـعْـتَــنـي بـالـعـفـو مـنـكَ فــلـيـتــنـي
بــدءَ الــشـروقِ عـرفــتُ حَـتْـمَ غـروبـي
لـو كـنـتُ ذا لُـبٍّ : جَـنـحـتُ بـمـركـبـي
عـنْ جُـرفِ صــهــبــاءٍ ومــوجَــةِ كُـوبِ
دائـي عـــصِــيٌّ لا شِـــفــاءَ لِـــبُـــرئِــهِ
إلآ رضــاكَ فــمـا سِــواكَ طـــبـــيـــبـي
***
لَعَلَّنا لا نبعد عَنْ الواقعِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ بواكيرَ تجربته الإبداعية أزهرت فِي أرضِها الطيبة وتمخضت عَنْ إصدارِ أول دواوينه الشعرية الموسوم ” عيناك دنيا “، وَالَّذِي لَمْ يحزّ رضاه لاحقاً؛ إذ أَنَّه بحسبِه ” بدا مِنْ خلالِه ظلاً باهتاً للشاعرِ الراحل نزار قباني “، لكني أكاد أجزم أَنَّ ديواناً شعرياً أفرزه إبداع السَماوي، وَكتب مقدمته الدكتور حاكم مالك الزيادي ” رحمه الله “، وَحظي باهتمامِ شاعر كبير هو المرحوم محمد علي الخفاجي الَّذِي كتب كلمة غلافه، إلى جانبِ رسم لوحة غلافه مِنْ قبلِ الفنان رسمي كاظم الخفاجي، لا يمكن أنْ يكون مِنْ حيث مستوى الأداء الحسي مثلما وصفه صاحبه – فِي مرحلةِ نضجه الأدبي – بعباراتِ عدم الرضا، حتى وإنْ كانت مشاعر فترة المراهقة وَعواطفها الجياشة تخيم عَلَى ” ثيمة ” قصائد المجموعة الشعرية برمتِها، بَيْدَ أنَّ أحدَ صفات الإنسان الجميلة المتمثلة بمظاهرِ التواضع الَّتِي يتحلّى بها السَماوي، تُعَدّ مِنْ وجهةِ نظرٍ شخصية السبب فِيما وصف بِه مجموعته الشعرية البكر، وَلعلَّ خير مصداقٍ عَلَى مَا تقدم ذكره هو مَا يردده عَلَى الدوامِ مِنْ ” إنَّه مجرّد كلمة تحاول أنْ تكون جملة مفيدة فِي كتابِ الشعر العربي وَالإنساني … بل : مجرّد حرف يُحاول أنْ يكون كلمة ذات معنى “، وَلكن افتراض السَماوي القائم عَلَى التمسكِ بصفةِ التواضع وَهو يجهد فِي تشكيلِ لوحاته الشعرية الَّتِي تحاكي هموم الإنسان وَتنحاز بامتيازٍ لقضاياه العادلة – بمعزلٍ عَنْ الحاجةِ إلى النجوميةِ كغريزةٍ بشرية مشروعة – شيء آخر، فالواقع يشير إلى مَا لا يقبل الشك، وَبحكم مَا اتفق عَلَيه كبار النقاد وَالكتاب وَالباحثين مِنْ أَنَّ منجزه الإبداعي عَبّرَ منذ بواكير نشأته الأدبية الأولى عَنْ مشروعِ شاعرٍ واعد يتمتع بلغةٍ شعرية رفيعة المستوى، فضلاً عَنْ غناها بالبلاغةِ وَالفصاحة، وَالجميل مِنْ صورِ التعبير عِنْ الأفكارِ المناهضة لصناعةِ الخوف وَالاستبداد، وَمَا مِنْ شأنِه تشويه صورة الإنسان وَالحب وَالجمال، فالسماويّ مثلما وَصفه يوسف جزراوي – الأب: ” غرسَ الأثر بعد أن عرفَ كيف ينقش أسمه بالحجر والبشر “، وَهو أيضاً ” الينبوع الذي يفيض بالشعر والاحساس ” بحسبِ الشاعر سلام محمد البناي، فِيما يشير الشاعر وَالأكاديمي سعد الحجّي إليه بقوله: ” السماوي شيخنا، شعراً ولغةً، هو شيخنا وهو المجدد بشباب روحه لشباب الشعر “. وَالسَماوي يحيى مِنْ وجهةِ نظر الشاعر جواد الحطاب: ” هو الغزل نفسه، أو هو مَن يلوذ الغزل باكتار مضيفه العامر بالعواطف ليرتاح هنيهة “. ولعلّ مِن المناسبِ الإشارة هُنَا إلى مَا كتبه قبل سنوات الشاعر وَالباحث الحلي صباح محسن جاسم عِنْ السَماوي يحيى، وَالَّذِي نصه: ” مذ عرفته عام 1968 فِي الديوانية، كان عاشقا .. حتى غمز عشقه باكورة اشتغاله الشعري ديوانه – عيناك دنيا – بأرضيةٍ بيضاء وكلمتين بلون الكرز “. وثمة شهادة – مِنْ بَيْنَ مَا تيسر للباحثِ مِنْ شهادات – كتبها القاص حمودي الكناني يقول فِيها: ” السماوي احد ابرز الشعراء العراقيين الذين رسموا شموخ النخل على ضفاف الفراتين بلوحات لا تسعها المتاحف “. وَمَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ مَا سجلته آنفاً مِنْ آراءٍ أو شهادات، يُعَدّ غيضاً مِنْ فيضِ مَا قيل عَنْ أدبِ السَماوي يحيى، الباذخ بثرائِه اللغوي وَالمائز بصورِه الشعرية الساحرة.
***
لـيْ حُـلـمـانْ ..
الأولُ : أنْ أجـمـعَ بـيـن جـذوري والأغـصـانْ
الـثـانـي : ألآ يـسـرقـنـا الـبـيـدرَ والأعـنـابَ
نـواطـيـرُ الـبـسـتـانْ !
***
لـيْ أمَـلانْ :
أنْ يـُولـدَ فـي كـلِّ مـديـنـةِ قـهـرٍ ” جـيـفـارا ”
لـيـدكَّ بـفـأس الـعـدلِ الآلـهـةَ الأوثـانْ
والـثـانـي :
أنْ أحـضـرَ آخـرَ مــشـهــدِ قـتـلٍ
يُـقـتـلُ فـيـهِ : الـفـقـرُ .. الـقـهـرُ .. الـظـلـمُ .. الـرعـبُ ..
وكلُّ عـدوٍّ لـلإنـسـانْ
***
عودٌ عَلَى بدء، كان السَماوي يحيى قد حظي خلال أقامته فِي مدينةِ الديوانية بصداقاتٍ رائعة مَعَ نخبةٍ مِنْ أبرزِ أدباء المدينة وَمثقفيها، وَالَّذين أصبح لهم بعد سنوات مِنْ تلك الأيام شأن فِي الْمُجْتَمَع، إلى جانبِ مثابرتهم عَلَى المُسَاهَمَةِ فِي تفعيلِ المشهد الثَّقَافي المَحَلّيّ وَإدامته. وَلعلَّ مِنْ بَيْنَ أبرزِ تلك الشخصيات الاجْتِماعِيَّة القاص زعيم الطائي، الناقد وَالشاعر عذاب الركابي، الروائي سعدي السماوي، الناقد رحيم صالح، الشاعر صالح الموسوي، عزيز الحلي، عزيز داخل، زيد غانم الجصّان، القاص صباح محسن جاسم ، القاص الراحل جاسم الشويلي، وَالشعراء الشعبيون الراحل عزيز السماوي ( 1948 -2001 ) الَّذِي قال عَنه الأستاذ الدكتور عبد الإله الصائغ بعد مماته بعيداً عَنْ أرضه وَأهله ” ولد عزيز السماوي 1948 ولم يمت حتى الآن “، الدكتور كامل سرمك حسن، الراحل كامل العامري ( 1944 – 2008 ) صاحب القصيدة الخالدة الموسومة ” إلى شهيد ” الَّتِي كتبها بحقِ المناضل الشيوعي الشهيد ” محمد الخضري ” الَّذِي اغتالته قوى الظلام فِي مطلعِ العقد السابع مِن القرنِ الماضي، وَضمنها ديوانه الوحيد ” كلمات على وجوه الريح “، الراحل جبار سمير وَالراحل علي الشباني ( 1946 – 2011 ) الَّذِي كتب عَنه الكاتب ثامر الحاج امين قائلاً: ” واجه جراء مواقفه السياسية الثابتة الكثير من الملاحقة والسجن الذي دخله وهو في السادسة عشرة من عمره فكان أصغر سجين سياسي عرفته السجون العراقية أبان ستينيات القرن الماضي، ورغم كل العسف والظلم الذي لاقاه الاّ انه ظل مخلصا لأفكاره، متوردا بالأمل واليقين من صواب مسيرته وقناعاته، وقد جسد ذلك في معظم منجزه الشعري”. كذلك غدت للسَماويِّ صداقات مَعَ بعضِ أساتذته فِي الثانوية. وَأَدْهَى مِنْ ذلك أَنَّ الديوانيةَ – الَّتِي أصابته لعنة التدخين فِي أيامِها – مَا تَزَال حاضرة بعبقِ ذكرياتها فِي وجدانِه؛ إذ أَنَّ طِيبَ الإقامة فِيهَا يؤرِّقُه للآنِ شَوقاً لثانويةِ التحرير، حي رفعت، حي المتقاعدين، حي نواب الضباط، مطعم حمد الأعرج مقابل فندق النصر، لبن عاشور وحتى ” مركز شرطة حي رفعت “. فلا عَجَبٌ أَنْ تبكيه قصيدة للشاعرِ سعد جاسم قرأها ذات يوم عَنْ مدينةِ الديوانية.
***
تـائِــبـاً جــئـتـكِ مـن يـومي وأمــسـي
فـامـلـئـي مـنـكِ بـمـاءِ الـعـفـوِ كأسـي
لَــبـِــسَ الــلـــيـــلُ صَــبـاحـي فــأنــا
بـيـن دَيـجـورَيـنِ فـي حـزني وأُنـسي
ويْـحَ غـرسي مـن حـصادي ما الـذي
ســوف أجـنـيـهِ إذا الأوهـامُ غَـرْســي ؟
بـادَلـــتْ جَــمــراً بـــمــاءٍ شــفــتـي
ودجـىً ـ بـادَلَـتِ الـعـيـنُ ـ بـشـمـسِ
***
عيناهُ شاخصتان ترمقان الأفق مِنْ خلالِ الزجاجة الأمامية للحافلةِ المتجهة إلى بَغْدَاد الَّتِي استقلها ذات فجرٍ مِنْ مرآبِ بَغْدَاد فِي السَماوة، وَهمَا فِي حالةِ توائمٍ وَانسجام تام مَعَ مَا يتوقف مِنْ كلماتٍ فِي ذهنِه بفعلِ زحمة الأفكار الَّتِي تُجمعت فِي رأسِه حول مَا يمكن فعله بفضاءاتِ رحلته الجديدة فِي العاصمةِ بَغْدَاد، وَالَّتِي يَبْدُو أَنَّ صعوبةَ تحقيق بعض الأنشطة الخاصة فيِها يجعلها فِي مصافِ الألغازِ الشائكة، فالسَماوي متيقن تماماً مِنْ أَنَّ محاولةَ إرتياد مَا يتمني مِنْ مرتقى فِي القادمِ مِن الأيام أمرٌ شاق، ورُبَّما يكون محفوفاً بكثيرٍ مِن المزالق، فالوصول إلى مبتغاه يتطلب الكثير مِن الوقتِ وَالجهد وَالصبر وَالحذر أيضاً. وَمِنْ المؤكّـدِ أنْ يكتنفَ سويعات صمته – فِي أثناء مسير الحافلة – حضور لبعضِ مَا تخفيه تلك الأفكار مِنْ ذكرياتٍ كمحاولةٍ لافتعالِ تعاطف مَعَ الماضي القريب أو رُبَّما تحت تأثير ” مؤقت ” لسطوةِ الحنينِ إلى الماضي ” النوستالجيا ” فِي محاولةٍ لاسْتِشْرَافِ المُسْتَقْبَل، فليس بمستغربٍ مصاحبة نفث دخان سيجارته المتسرب عبر النافذة الجانبية للحافلة تطلعات تحمل فِي ثناياها ملامح الآمال المرتجاة مِنْ رحلته، وَالَّتِي فِي المُقدَّمة مِنها النجاح فِي كليته قصد الانتقال إلى التدريسِ فِي ربوعِ مدينته وَخدمة أجيالها القادمة، مثلما جهد فِي أيامِ دراسته الاستاذ شمخي جبر وَرفقته بمختلفِ مراحل الدراسة. وَليس بالأمرِ المفاجئ أنْ تبددَ ابتسامة خفيفة تواتر تلك الحزمة مِن الأفكار المتداخلة، حين تتراءى له صورة المفوض أبو حاتم ” غفر الله له ” وهو يصفه وزميليه أيام الدراسة فِي ثانويةِ السَماوة – الشهيد خليل كريم جبر وَالزميل مسلم مطر – بعبارةٍ تعكس سذاجة الشرطي أبو حاتم ومحدودية وعيه الوطني، وَالَّتِي يقول فِيها باللهجةِ الدارجة ” طلاب مَا بيهم خير “.
نَـعِـمْـتُ وهـلْ كـنـعـمـى الـعـشـقِ نُـعْـمـى ؟
وأبــهــى مــنــهُ فـي الــدنــيــا وأســمـى ؟
وهـــلْ كــجَـــنــاحِ نــشـــوَتِــهِ جَـــنـــاحٌ
يَــزورُ بــهِ نــزيــلُ الــبــئــرِ نــجْـــمــا ؟
وهــلْ كـالـعِــشــقِ مَـغْــنــمَــةٌ لِـــقــلــبٍ
غــريـبِ الــنــبــضِ والأشــجـانِ مُـدْمـى ؟
يُـصـارعُ غُــربَــتــيــهِ … فــلا نــخــيــلٌ
يَــلـــوذُ بـــظِـــلِّــهِ لـــو ضــاقَ هَـــمّـــا
إذا مَــرَّ ” الــفــراتُ ” عــلــيــهِ طَــيــفــاً
يــرى الإصْــبــاحَ لـــيـــلاً مُــدلَــهِـــمّـــا
شــربــتُ سُــلافــةً .. فــازدَدْتُ حـزنــاً
كــأنـي قــد شـــربـــتُ قــذىً وسُـــمّـــا
وربَّ هــوىً يُــضــيءُ ظــلامَ كــهـــفٍ
ويُــشــفـي مـن عـلـيـلِ الـروحِ سُــقــمــا
وربَّ لــذاذةٍ ـ فـي الـــربــحِ ـ خُـــسْـــرٌ
وربَّ خـــســــارةٍ ربــحٌ لِـــنــعــــمــى
عـشــقــتُ الـســومـريـةَ عــشـقَ قــلـبـي
لـكـوثــرِ نــبــضِــهِ صــحــواً وحُــلــمــا
لــهــا شَــرفُ الـنـخــيــلِ أخــاً وأُخــتــاً
وأخــلاقُ ” الـــفـــراتِ ” أبــاً … وأُمّــا
تـفـرَّدَ عـشـقُـهــا عـن عـشـقِ ” لـيـلـى
وعــن ” دعْــدٍ ولــمــيــاءٍ و ســـلــمـى ”
وكــان هِـــلالُ عــمـــري فــي مــحــاقٍ
فـَــصَـــيَّـــرَهُ الـــهـــوى بَــدراً أتَـــمَّــــا
تُــســاقـــيـــنـي نــمــيــراً مــن هــديــلٍ
يُــرَقِّــصُ لــحــنُــهُ الـصَّـخـرَ الأصَــمّــا
وقــد كُـــنّـــا كــمــا لـــيـــلٌ وصـــبـــحٌ
فـصِـرنـا في الـهـوى قـوســاً وسَــهْــمــا
أرادَ لــنــا الـــفــراقَ ” ســفــيــهُ طــبــعٍ ”
فَــزدْنـا فـي تـمــاهـي الـعـشــقِ عَــزْمــا
ولــو عَــلِــمَ الــعَــذولُ أنِ الــتــمــاهــي
يُـــزادُ بِـــعَــــذلــــهِ مـــا ازدادَ لُـــؤْمـــا
تَــمــاهَـــيـــنــا فــمــا أدري : أصَــحْــوٌ
يُــعـانـقُ مُــقــلــتِـي ؟ أمْ كـان حُــلــمــا ؟
أنـامُ … فــأســتــفــيــقُ عــلــى هــديــلٍ
يُــحِــيــلُ وســادتي عُـشــبــاً وغَــيْــمــا
وتُـوقِـظـهــا ـ إذا اسْــتـشــرى نُــعــاسٌ
وخـاطَ جــفــونَـهــا ـ شـــفــتـايَ لَــثْــمــا
لــهـــا ـ مِــثــلـي ـ جــبــالٌ مـن هــمــومٍ
ومــثــلُ مَــرامِـهــا لـيْ نــهــرُ مَــرمـى
ومـثـلـي لا تــرى لـلــعــيــشِ مــعــنــىً
إذا خــبــزُ الــعــراقِ يــســوءُ طــعــمــا
ومــثــلــي لا تــرى الـــفـــردوسَ إلآ :
عــراقــاً هــانــئــاً عــيــشــاً وسِـــلـــمــا
***
السَماوي القادم مِنْ بيئةٍ جغرافية جُبلت منذ عقودٍ طويلة عَلَى ” الآه ” بسببِ مكابدة أهلها مِنْ شدةِ المعاناة الناجمة عَنْ إهمالِ ولاة الأمر وَسوء أداء مَا تعاقب مِنْ الإداراتِ الحكومية، تحققت أمنيته الَّتِي خالف بِها – فِيما مضى – رغبة والديه ” طيب الله ثراهما “، وَأصبح طالباً جامعياً بعد دخوله قسم اللغة العربية بكليةِ الآداب فِي الجامعةِ المستنصرية. وَعَلَى الرغمِ مِنْ إدراكِ الفتى أَنَّ الطرقاتِ لَمْ تكن وردية أمامه، لكن المثير للاهتمامِ أَنَّ حجمَ المعاناة الَّتِي عاشها وَكانت مدينته البائسة تعيشها، وَالَّتِي تمظهرت بأبشعِ صور الفقرِ وَالجهل وَالمرض، لَمْ تفت فِي عضدِه، وَلَمْ تفضِ إلى نتيجةٍ تجعله ينظر إلى الحياةِ بوصفِها باردة وَكئيبة، وكأنه يتناصص مَعَ مَا ضمنه المؤلف الايرلندي الشهير جورج برنارد شو فِي قولِه: “طالما لدي طموح فلدي سبب للحياة “؛ إذ أَنَّ مَا حفرته الأيام فِي دمه مِنْ ألمٍ ممض، لَمْ يكن قادراً عَلَى إشعارِه بموجباتِ ركوب موجة الخيبة أو الخذلان ” لا قدر الله “، وَلَمْ يكن بوسعِه جعل السَماوي يحيد عَنْ تمسكِه ببذلِ قصارى الجهد فِي التعلمِ وَتطوير القدرات مِنْ أجلِ الاطمئنان عَلَى مُسْتَقْبَله، فالأمل يحدوه فِي أنْ تتاحَ له الفرصة كاملة لإبرازِ مَا يمتلكه مِنْ إمكانياتٍ وَمواهب، وَهو مَا جعله أكثر إصراراً عَلَى النجاحِ وَالتميز وَالإبداع بالحصولِ عَلَى مَا متاح مِن المواردِ التعليمية، فالوصولِ لمبتغاه – الَّذِي مِنْ شأنِه تشريف أسرته وَرفع اسْم مدينته وَخدمة بلده – يبقى ارتهان النهل مِن العلومِ وَمواصلة سُّبُل المعرفة. وتحضرني هُنَا مقولة الشاعر البحريني قاسم حداد، وَالَّتِي مفادها: ” كيف تريد أن تكتب وأنت لم تعد تقرأ؟ ولا تحسن الإصغاء، ولا تحاول فك أبجدية المعرفة، القراءة زيت قنديلك، أيها القابع في عتمة الثقة “.
ليس خافياً أنَّ الانتقالَ مِنْ مقاعدِ الدراسة الثانوية إلى الوسطِ الجامعي، يُعَدّ بكافةِ المقاييس فعالية ممتعة، فالجامعة تُعَدُّ بحسبِ علماء الاجتماع وَالمُتَخَصِّصين فرصة ذهبية لإقامةِ شبكة علاقات اجْتِماعِيَّة بمقدورِها المُسَاهَمَة فِي سلامةِ بناءِ مُسْتَقْبَل الطالب المهني، العِلْمِيّ والاجْتِمَاعِيّ، إلا أنَّ دخولَ الطالب هَذَا العالم الجديد قد يجعلها مخيفة بعض الشيء، وَأكثر صعوبة فِي الوقتِ ذاته بسببِ جهله الكثير عَنها، فالطالب الجامعي الَّذِي يواجه بدايةً مَا تمليه عَلَيه مسؤوليته الكاملة عَنْ كُلِّ مَا لَه شأن بحياتِه وَخصوصياته، ملزم بالتأقلمِ مَعَ محيطه الجديد الَّذِي جُل مفاصله مِن الغرباء، إلى جانبِ مَا تفرضه عليه تلك الحياة مَنْ ضرورةِ تكوين صداقات – بعيداً عَنْ أسرته وَقدامى أصدقائه – مَعَ زملاء لا يعرف الكثير عَنْ عاداتِهم وَأطباعهم، مَا يتطلب السرعة فِي إدراكِ الحاجات الَّتِي بوسعِها تعزيز عملية التأقلم فِي الحياةِ بصفحتِها الجديدة الغنية بالصداقاتِ الحديثة، فضلاً عَما تمنحه بيئة الجامعة مَنْ فرصةٍ مناسبة لتغييرِ مَا يرغب بتغييره الطالب مَنْ عاداته القديمة. كذلك يفرض المحيط الجديد الحرصِ عَلى حسنِ التصرف، وَالسعي لتصحيحِ الأخطاء حال الشعور بِها، إلى جانبِ الجهد فِي إيجادِ مَا تقتضي مشكلاته مِنْ معالجاتٍ وَحلول سليمة.
مثلما تقول الحكمة الصينية ” الإنسان الَّذِي لا يتعلم، شأنه شأن الأَرْض الجرداء الَّتِي لا تنبت شيئا “، كان السَماوي عند انتقاله للدراسةِ فِي العاصمةِ حريصاً عَلَى عملِ كُلِّ مَا بوسعِه تدعيم ثقته بنفسه، وَالمساعدة عَلَى تَّنْمِيَةِ حصيلته اللغويّة، فأمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أنَّ الثَّقَافَةَ وَالمعرفة نتاج القراءة، وَالَّتِي أوضحت الدراسات أهميتها فِي ترويضِ النفس وَالفكر، وَتَّنْمِيَة قدرة الفرد عَلَى مواجهةِ أعباء الحياة، فضلاً عَنْ دورِها فِي المُسَاهَمَةِ بزيادةِ مستوى ذكاء الفرد وَتَّنْمِيَة اتّجاهاته مِنْ أجلِ خدمة المُجْتَمَع؛ لذلك ظل السَماوي مصراً على أنْ يملأ عبق ورق الكتب وَالمطبوعات زوايا مَا أتيح لَه مَنْ مستقرٍ فِي بغداد، بالإضافةِ إلى كُلِّ فضاءٍ غير مشغول بمنزلِ أسرته فِي السَماوة. ولعلَّ مِن المُناسِبِ الإشارة هُنَا إلى ومضةٍ سجلها السَماوي يحيى فِي صفحته بأحدِ مواقع التواصل الاجْتِمَاعِيّ ” موقع فيس بوك ” بعد مَا يقرب مِنْ خمسةِ عقودٍ مَنْ تاريخ دخوله الجامعة ، وَالَّتِي يقول فِيها:
مـنـذ أنْ غـرقَ زورقُ رجـولـتـي فـي بـحـرِ أنـوثـتـكِ
وأنـا مـتـشـبِّـثٌ بـطـوقِ عـشـقـك !
***
يَبْدُو أنَّ بوابةَ الحياة الجامعية وَتحقيق الرغبة فِي الانتظامِ بقسمِ اللغة العربية – كلية الآداب، جلبت للسَماويِّ الإلهام وَالمتعة، مثلما يؤكدها بقوله: ” لو سُئِلتُ عَن أجملِ سنوات عمري، لمَا ترددتُ فِي القولِ إنها سنوات مرحلة دراستي الجامعية “؛ إذ لَمْ تمضِ غير بضعة شهور عَلَى دراسته حتى وجد نفسه يقضي وقتاً فِي حدائقِ الكلية أكثر مما يقضيه داخل الصف، مَعَ العرضِ أَنَّ حدائق الكلية لَمْ تكن تحفل بالزهور، وَأشجارها لا تعرف الثمر، بَيْدَ أنَّ تلك الحدائق كانت تشبه سجّادة فارسية مطرّزة بالطالباتِ الجميلات. وَالمثيرُ للاهتمامِ أَنَّ السَماويِّ كان طالباً متميزا فِي موادِ النحو وَالبلاغة وَالنقد الأدبي، لكنه كان يحرص عَلَى حضورِ محاضرات أساتذة بعينهم : الدكتور علي جواد الطاهر، الدكتور عناد غزوان، الدكتور هادي الحمداني، الدكتور جلال خياط، الدكتور كمال نشأت – مصري الجنسية – أضحى صديقه وقد اختار نصاً مِنْ نصوصِه لكتابِه الموسوم ” الشعر وَالثورة ” الَّذِي أصدرته وزارة الأعلام آنذاك، الدكتور نمير العاني، الدكتور عبد الحسين الفتلي وَالأستاذ علي عباس علوان الَّذِي لَمْ يكن وقتذاك يحمل شهادة الدكتوراه. وَمِنَ الْمُفِيدِ الإشارة هُنَا إلى أَنَّ السَماويَّ يحيى أصدرَ ديوانه الثاني الموسوم ” قصائد فِي زَمَنِ السبيِّ وَالبكاء ” يوم كان طالبًا فِي كلّيةِ الآداب عام 1971م.
خـرجـتُ مـن ثـيـابـكـم مـقـبـرةِ الأحـيـاءْ
مُـقـاتـلاً .. ســيـفـي دمـي
جـيـوشـيَ الـعـشـاقُ والأطـفـالُ والـنـسـاءْ
خـرجـتُ لـلـفـضـاءْ
أبـحـثُ عـن جـزيـرةٍ جـديـدةٍ
أبـحـثُ عـن ســمـاءْ
غـيـر الـتـي كـان أبـي يـعـبـدهـا
فـقـد رفـضـتُ الـيـومَ أنْ أعـانـق الـمـوتـى وأنْ أقـلّـد الأشـيـاءْ
أنـا هـو الـنـهـرُ الـذي جَـفَّ … أريـدُ الـمـاءْ
أنـا هـي الأرضُ الـتـي تـبـحـثُ عـن سـمـاءْ
***
بعد انتهاء فعاليات مهرجان النور الثامن للإبداع – دورة الشاعر الكبير يحيى السماوي – الَّذِي عقد فِي شهر كانونِ الأول مَنْ العام المنصرم 2017م بمدينةِ ” مالمو ” السويدية، احتفى تيار الديمقراطيين العراقيين فِي العاصمةِ الدنماركية كوبنهاكن بالشاعرِ يحيى السماوي فِي أمسيةٍ شعرية أقيمت بقاعةِ ” بيت النخلة ” فِي منتصفِ ذات الشهر مَنْ العامِ نفسه، وكان مِنْ بَيْنَ الحضور ابن الديوانية القاص وَالروائي سلام إبراهيم المغترب فِي الدنمارك وهو لَمَا يزل يحملُ عطباً كبيراً فِي رئتيه لحق بِه بسببِ القصف بالأسلحةِ الكيمياوية عَلَى مقراتِ الحزب الشيوعي العراقي فِي منطقةِ زيوه عام 1987م. وَقد تحدث ابراهيم عَنْ حضوره الأمسية بقوله: ” وصلت إلى مكانِ الأمسية قبيل بدئها، سلمت على مديرها الشاعر هاتف بشبوش، فالتفت نحو ” يحيى ” الذي كان منشغلاً في إخراج أوراق أشعاره قائلا: سلام إبراهيم، وهو لا يعرف علاقتنا وجذورها، فترك السماوي اوراقه وعانقني بشدة طويلاً وكأنه ذلك الشاب المتحمس الثوري بشعره الطويل المتدلي حتى كتفه والمتهدج الصوت حينما يمس الحديث فكرة الظلم والفقر، وجدته هو.. هو.. عانقني وألتفتَ إلى الحضور قائلا: واحد وأربعين عاما من السماوة حتى كوبنهاكن، ومن عشرينيات عمرنا وحتى ستينياتها “، مضيفاً: ” توادعنا ونحن في مقتبل الوطن، والتقينا وقد بلغنا من الغربة عتيّا “. وَيَبْدُو أنَّ لقاءَ سلام إبراهيم بصديقِ الأيام الخوالي كان محفزاً لإعادةِ بعض مَا تبقى مِنْ ذاكرةِ الزمن فِي ظلِ رحلةِ التيه العراقي المشبعة بمكابداتِ الاستبداد وَمعاناة الأهوال وَعذابات السجون وَالتشرد مَا بَيْنَ معسكرات اللجوء الَّتِي دفع ثمنها أبناء بلد مرت عليه حضارات عدة عبر تاريخه الطويل، حيث انبرى إبراهيم بتسجيلِ بعضٍ مِمَا يحضره مِنْ الحكايا الراكدة فِي قاعِ السنين، وَالَّتِي مِنْ جملتها قوله: ” انتقلت إلى بغداد لإكمال دراستي الجامعية، وكان يحيى أيضاً هناك، وكنا من وسط واحد اليسار الاشتراكي، لمست من خلال أشعاره التي أستنكرها أصدقائي رقة فتصورته شخصاً عاطفياً رقيقاً، يبكي لأبسط الأسباب، لم يخب ظني فحينما التقيت به في بغداد في جلسات معدودة كان مندفعا متحمساً ودودا، يشعرك بالألفة منذ اللحظة الأولى فتحس بأن لا حاجز مع هذا الكائن الذي لا يكف عن الكلام وإبداء الرأي بتفاصيل الحياة السياسية، ثم يبدأ بإنشاد أشعاره غزلاً بالمرأة ودفاعاً عن الفقراء والكادحين”. ويضيف أيضاً: ” كان طويل القامة رشيقا جدا بشعره الطويل المنسدل على كتفيه وقميصه الأبيض الضيق. وباختصار كان شديد الأناقة والوسامة. عرفت من خلال تلك الجلسات أنه يعمل متطوعاً في جريدة الحزب الشيوعي العراقي العلنية طريق الشعب “.
لأهميةِ هذه المرحلة فِي حياة السماويِّ، وجدت مِنَ الْمُهِمِّ تأمين اتصال بالناقد البارع والأكاديمي الألمعي الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ؛ لأجلِ استلال مَا متاح مِنْ دفترِ الذكريات، حيث رجوته التفضل – بما يسمح بِه وَقته – فِي معاونتي بتدوينِ شهادته قصد تعزيزِ البحث. وَقد كان الرجل لطيفاً ومهذباً؛ إذ أكرمني بمدادِ قلمه عَلَى الرغمِ مِنْ عدمِ استقرار وَضعه الصِحي بشهادةٍ وَسمها بـ ” للصحبةِ ذكرياتٌ – شهادتي في السماويِّ يحيى بنِ عبّاس “، وهو الأمر الَّذِي فرض عليَّ أنْ أصوغَ لأستاذنا الكبير الدكتور عبد الرضـا عليّ الشكر بمدادِ الامتنان.
يبدأ الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ شهادته بالقول : ” كان قسمُ اللغةِ العربيّة في آداب الجامعةِ المستنصريّةِ – نهاية الستينيّات – يمورُ بمجموعة من الطلبةِ اليساريين المثقّفين الذين أصرّوا على الجمع بين العملِ والتعلّمِ، وكان أساتذةُ هذا القسمِ – تحديداً – من الرموزِ العلميّة، والمعرفيّة، وأساطين الثقافةِ الرصينة التي أسّست للشأن الثقافيّ، والتأليفِ العلميّ الجاد تأسيساً لا يختلف فيه منصفان، وهم الخالدون: مهدي المخزومي، وعليّ جواد الطاهر، وحسين عليّ محفوظ، وباقر عبد الغني، وهادي الحمداني، وابراهيم الوائلي، و محمود غنّاوي الزهيري، و يوسف عزّ الدين، وجلال الخيّاط، وعناد غزوان، ومحسن غياض، وكامل مصطفى الشيبي، وعليّ عباس علوان، وغيرهم ممّن شكّل وجوده في الجامعة أثراً في بناء ثقافةِ المجتمع، وإشاعة قيم الحريّة في أوساطهِ “.
وبصدد نشاطات قسم اللغة العربيّة يشير الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ إلى ما مبين تالياً : ” كانَ هذا القسمُ يُقيمُ أُمسيتينِ شعريّتينِ على مدار العام الجامعيّ الواحد : الأولى في منتصفِ العامِ الدراسيّ، والثانية في نهايتهِ يُشارك فيها شعراءُ القسم، وبعضُ الضيوفِ من شعراءِ العراقِ المبرّزين، وتكون تلك الأماسي برعايةٍ رمزٍ ثقافيّ، أو شاعرٍ معروف، كالجواهري، أو شفيق الكمالي، أو لميعة عباس عمارة، أو غيرهم، مع حرصٍ شديد من لدن أساتذة القسم على حضورها تقييماً لتحكيم تلك النصوص، وتقويماً للتي تحتاجُ إلى تقويم يُجرى في أيامٍ تاليات “.
وحول المساهمين فِي الأماسي المذكورة آنفاً يقول الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ : ” لعلّ أبرزَ من شارك في تلك الأماسي شاعراً، أو عريفاً مقدّماً، أو داعماً : عبد الوهاب كريم، وحسين الرفاعي، وصبري مسلم، وعليّ جعفر العلاق، وعلوان الياسري – الذي غيّر اسمه من علوان إلى عليّ الياسري بأمرٍ قضائي – وحسين العلاق، وحميد سعيد، وطارق عبد عون الجنابي، ومحسن أطيمش، وكاتب هذه السطور، وغيرهم ممّن لمن تعد الذاكرة تتذكّرهم للأسف “.
أَمْرٌ شَدِيدُ الأَهَمِّيَّةِ بالنسبةِ للبحثِ الحالي أشار إليه الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ بقوله: ” في منتصفِ العام الأخير من دراستنا، وتحديداً في العام الجامعي – 1970 -1971م – صعد إلى منصّةِ الإلقاءِ في قاعة ساطع الحَصريِّ – في المبنى القديم لكليّة التربية – شابٌ وسيمٌ، ذو وجهٍ صبوح، و قوامٍ رشيق، وشعرٍ ذهبيّ، كأنّه رمحٌ سمهريٌّ نقيٌّ، يزيّنُ عارضي وجهه عِذارانِ خُطّا على نحوٍ جميل، فقرأَ قصيدةً دلَّ بها على أنّ الله قد حباهُ موهبةً فطريّةً عظيمة، أو طبعاً (( استكملتْ به نفسه فهم أسرارِ الكلام)) واكتساباً معرفيّاً واسعاً، فألهبَ القاعةَ إعجاباً، فصفّقنا له كثيراً، واستعدنا بعض أبيات قصيدتهِ تلك منتشين، وحين سألنا عنه علمنا أنّه من طلبةِ المرحلةِ الأولى “.
يضيف الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ قائلاً: ” لم يمضِ يومانِ، أو ثلاثةُ أيّامٍ على المهرجانِ الشعريّ إلا وقرأنا مقالةً أدبيّة لأستاذِنا العلامةِ الدكتور عليّ جواد الطاهر- أستاذ النقد الحديث آنذاك – يُبشّرُ فيها بولادةِ شاعرٍ واعدٍ هو الطالب يحيى عبّاس السماوي “. وينهي الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ ” أدامه الله وبارك جهده ” شهادته بحدودِ موضوع هذه الحلقة مِنْ الدراسةِ بتقريضٍ ليس بوسعِ إمكانياتي الأدبية المتواضعة تقويم عذوبته وجمال تعابيره:
وما جـــــادَ الزَّمانُ بمـثلِ يحـيى
وليــــسَ بمـثلِهِ أبـــــــــداً يجودُ
رعـى اللهُ السماوةَ كـــــــلَّ حينٍ
ففي يحيى ابنــها سمقَ القصيدُ
فإنْ سألـتْ عــــن التجديدِ يوماً
أقولُ لها:(( القديمُ هو الجديدُ))
الوفاءُ خصلة اجتماعية خلقية، حضّ ديننا الإسلامي عَلَى التحلي بها؛ إذ أَنَّها مِنْ مكارمِ الأخلاق، وَإحدى صفات النفوس الأبيّة الَّتِي حين يبلغها الإنسان بمشاعرِه وَمحسوساته فإنَّه يصل لأحدِ مراحل بلوغ النفس البَشَريَّة لفضائلِها. وَفِي واحدةٍ مِنْ جملةِ مداخلاتِ السَماوي يحيى المعروفة بعذوبتها وجمال سبكها، وَالَّتِي خص بِها الأديبِ البصري وَأستاذ النقد ألأدبي الحديث الأستاذ الدكتور ضياء الثامري، يشيرُ أبو الشيماء إلى المبرراتِ المَوْضُوعِيَّة الَّتِي ألزمته كتابة إحدى قصائده قائلاً: ” لَنْ أستحي من اعترافي لك بأنني كتبت قصيدتي هذه وفاءً لوالدي وعملا بنصيحته … فقد قال لي والدي – طيب الله ثراه – قبل أن يتدثر بالتراب : إذا لم تكن لك فضيلة يتذكّرك بها الناس ، فاذكر أنت فضائل ذوي الفضل عليك، لأن الإعتراف بفضل ذوي الفضل فضيلة يا ولدي ..
أشهد الله أن لأخي وصديقي الأستاذ الدكتور عبد الرضا عليّ فضلا كبيرا ليس أقلّ من فضل الريح على المزمار، أو الوتر على الربابة … بارك الله به نخلة غدت بمفردها بستانا، وبارك مَنْ أحبه، وتبارك من دخل خيمته المعرفية متأبطا الدفتر والقلم…ومدّ في ظلال واحات عمره لنزداد انتهالاً من معينه.
شكرا لك أخي الأستاذ الدكتور ضياء الثامري ، وشكرا لكل مَنْ وضع زهرة محبة في مزهرية قلب أستاذنا الناقد العربي العلم “.
طوَتْـكَ المسـافاتُ عاماً فـعاما غـريباً ذبيحَ الخُطى مُـسْـتـضامـا
ولم تطوِ عن دجلةِ الخيرِ ليلاً كما الشمسُ تطوي الدّجى والظلاما
فحـيـنـاً تـلومُ عـثارَ الـطـريـقِ وحـيـنـاً تكونُ الطـريـقَ الـمُـلامـا
” أبا رافِـدٍ ” والـفـراديـسُ بـيْــدٌ إذا الحُـرُّ فـيـهـا غـريـبٌ مُـقـامـا
عـرَفـتُـكَ تُـرجى ولا تـرتـجيهـمْ وإنْ جَـرَّدَ الـمارقـونَ الـحُـسـامـا
شَــبَـبْـتَ على لـبَـنِ الـمـكـرُمـاتِ فكانت لك الـمُـبـتـغى والـمَـرامـا
وأبْـدَلـتَ بالـتـبـرِ خُـبـزَ الكفافِ وبالكوثـر الـمُـسـتطـابِ الـضّـرامـا
عجَنتَ بماءِ الجـبـيـن الـطحيـنَ وصـيّرْتَ مـن لـفـح جمـرٍ مُـدامـا
***
بدأتُ الأماني فـكنتَ الخِـتـامـا ويَـمَّـمْـتُ قـلـبي فكـنـتَ الإمـامـا
” أبا رافدٍ ” ماعـذيـري وصوتي خفيضٌ أضاع الصّدى والكلاما ؟
متى تُضحِـكُ النخلَ شـمـسُ الأمانِ فـنطوي عـذاباتِـنـا والخِيـامـا ؟
أضاقَ العـراقُ على عـاشـقـيـهِ وأفـسَـح لـلـمـارقـيـن الـكِـمـامـا ؟
كأنَ الحَـلالَ من الـموبـقـاتِ وأنَّ الـمـروءاتِ أضـحـتْ حَــرامـا !
وهل مثلُ بغـدادَ كـحْـلٌ لِعَـيـنٍ إذا صاهـرتْ بالـرَّغـيـفِ الوئاما ؟
**
نسَـجْـتُ الندى بُردةً والغماما وشاحاً موشّىً بعطـرِ الخُـزامى
سكنتَ فـؤاديَ والمـقـلـتـيـنِ فعُدتُ المغـني وكـنـتُ الحُـطـامــا
جليسـايَ وجهُـك والرافـدانِ ..وأهـلُ الهوى والطيورُ الـنُّـدامى
سـلامٌ على حُـرّةٍ أرضعـتـكَ طيوبـاً.. وحُـرٍّ أبى أنْ يُـضـامـا
فيا توأمَ الـقصْدِ بئس الـقـصيـدُ إذا لم يُـمـسّـدْ وجوهَ الـيـتـامى
ولم يغـرسِ الـوردَ لـلعـاشـقـيـن ولم يقـتحمْ بالـضياءِ الظلامــا
ويا سادنَ الحرفِ والياسـمـيـن تقـبّـلْ من الأصغـرين الســلامـا
وعـذراً إذا خاطَ صوتي السكوتُ فإنّ الذهـولَ أضاعَ الكلامـا
لئنْ كرّمَـتْـكَ قـلوبُ الكِرامِ فـقـد كرّمَـتْ نفـسَـهــا والـكِــرامــا
**