23 ديسمبر، 2024 1:01 ص

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

( الحلقة السادسة عشرة )

يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
مَا قَدْ لا يَعْرِفُهُ الكثير مِنْ القراء، أنَّ مدينةَ السَماوة الَّتِي أنجبت العَديد مِن الشعراءِ وَالأدباء وَالفنانين وَغيرهم مِن المبدعين فِي مجالاتِ الحياة الأخرى، كانت إلى عهدٍ قريب قضاء تابعاً لمتصرفيةِ – محافظة – الديوانية، قبل أنْ يرفعَ مستواها الإداري – فِي اليومِ السادس وَالعشرين مِنْ شهرِ حزيران عام 1969م – بقرارٍ حكومي الى درجةِ لواء، ثم مَا لبث أنْ أصبحت ثاني أكبر محافظة فِي العراق مِنْ حيث المساحة وَالأقل مِنْ ناحيةِ السكان عَلَى خلفيةِ تطبيق ” قانون المحافظات ” فِي الأولِ مِنْ شهرِ تشرين الأول عام 1969م، وَالَّذِي أفضى أيضاً إلى تغييرِ اسْمها إلى محافظةِ ” المثنى ” نسبة إلى اسْمِ القائد الإسلامي المثنى بن حارثة الشيباني.
بالاستنادِ إلى مَا تقدم ذكره آنفاً، فإنَّ تحقيقَ الحلمِ الَّذِي كانت تعول عليه عائلة السَماوي يحيى، والمتمثل بانتظامِ ابنها فِي ” دارِ المعلمين الإبتدائية “، لا يمكن حدوثه إلا عن طريق التواجد فِي مدينةِ الديوانية الَّتِي كانت تشكل يومذاك مركز ذلك اللواء، مَا يعني تنعمها بالحصةِ الأكبر مِن الدوائر الرسمية قبالة شحتها أو عدم توفر بعضها فِي المدنِ الأخرى وإنْ كانت مناظرة لها مِنْ حيث الدرجة الإدارية، حيث أنَّ المعاهدَ وَالمدارس الرسمية كانت قليلة وقتذاك، فضلاً عَنْ تركزِها فِي مراكزِ الألوية والمدن الحضرية، وهو الأمر الَّذِي يقضي بضرورةِ سفره إلى مدينةِ الديوانية؛ جراء تيسر المعهدِ المذكور آنفاً، وَالَّذِي يتيح له إكمال دراسته، لكن المذهل فِي الأمرِ أَنَّ السَماويَ حين اجتاز مرحلة الدراسة المتوسطة بنجاح، استبدل رغبته بتطلعاتِ والديه، حيث ذهب إلى إدارةِ ثانوية السَماوة مِنْ أجلِ مواصلة دراسته فيها بدلاً مِنْ السفرِ لمدينةِ الديواني لتقديمِ أوراقه إلى دارِ المعلمين الإبتدائية.
تَـعِـبـتُ مـن الــغِــراسِ بـلا حَـصـادِ
ومـن جـرحٍ يـعــزُّ عـلـى الــضِّــمـادِ
لــئِــنْ عـانـدتُ أوجـاعـي فــعــذري
حــبــيــبٌ لا يــمــلُّ مــن الــعِـــنــادِ
شــربــتُ زفــيــرَهُ خـمـراً فــأحــيــا
بِــلــذَّتِـهِ الــهــشــيــمَ مــن الـــرمــادِ
مَـلـكـتُ مـن الـطـبـاقِ الـسـبـعِ خـمـسـاً
بـهِ والـــمُــسـتــحــيــلَ مــن الـــمُــرادِ
لـهُ نـســجَ الــفــؤادُ الــنــبــضَ ثــوبــاً
وأضـحـى كـالــشــغــافِ مـن الــفــؤادِ
بـلــغــتُ بـهِ الــهــيــامَ فــلــيــتَ أنـي
جـنحـتُ الى الـجـنـونِ عـن الــرَّشــادِ
أتـانـي والـــرُّقــادُ الــى شــــروقٍ ..
وغـادرَ والـــشـــروقُ الــى رُقــادِ ..
ومـا خـوفـي عــلـى عــيــنـيَّ لــكــنْ
أخـافُ عـلـى الـلـيـالـي مـن سُــهـادي
***
أَمْرٌ شَدِيدُ الأَهَمِّيَّةِ أنَّ عزوفَ السَماوي عَنْ الإقدامِ عَلَى الدراسةِ فِي دارِ المعلمين الإبتدائية بمدينةِ الديوانية، لَمْ تَكُن دوافعه فِي واقعِها الموضوعي مرتبطة بظرفٍ قاهر كالتفكير بالأعباءِ الاقتصادية الَّتِي تترتب عَلَيها رحلته المفترضة إلى الديوانيةِ فِي ظلِ تواضعِ مدخولات عائلته، فوالده كان مستعداً للتضحيةِ بكُلِّ شيء فِي سبيلِ مَا يراه مصلحة لابنِه، وَالَّذِي لا يتعدى – بحسبِ مَا تواضع مِنْ أحلامه – أكثر مِن حصوله عَلَى شهادةِ دار المعلمين الإبتدائية، ووالدته كانت تمني النفس بتكحيلِ عينيها فِي مشاهدةِ وليدها معلماً؛ لأجل أنْ يكون محط أنظار المحلة وَتقدير الأهالي وَاهتمامهم مثلما هو حال خاله عَلَي ” رحمه الله “. كذلك لَمْ تَكُن لتلك الدوافع علاقة بحساباتٍ أخرى، وَلاسيَّما مَا يعود مِنْها إلى انفعالاتٍ مردها إلى تأثيرٍ عاطفي قد يفرض عَلَيه ضرورة البقاء فِي مدينتِه.
المتوجبُ إدراكه أنَّ السببَ الحقيقي وراء قيام السَماوي فِي اتخاذِ قراره بمواصلةِ الدراسة فِي المرحلةِ الثانوية، وَالَّذِي ترتب عَلَيه غضب والدته الحميم ” طيب الله ثراها ” وَحزنها، يرجع إلى طموحِه بدخولِ ” الجامعة ” لكي يصبح مدرساً للغةِ العربية؛ نتيجة تأثره بابن مدينته وَأستاذه مدرس مادة ” اللغة العربية ” فِي المرحلةِ المتوسطة الأستاذ شمخي جبر، وَالَّذِي كان لطول قامته وَرشاقته وأناقته، فضلاً عَنْ كونِه ضليعاً فِي اللغةِ العربية دورٌ كبيرٌ فِي تمتعه بـ ” كاريزما ” جميلة، حيث كان مهاباً وَمحبوباً مِن الطلبةِ وَالمدرسين عَلَى حدٍ سواء، مَعَ العرضِ أنَّه تسنم فيما بعد منصب مدير عام التربية فِي محافظةِ بابل. وَأكاد أجزم أنَّ الأستاذَ شمخي جبر الَّذِي جعله يقرأ قصيدته الأولى فِي غرفةِ المدرسين، بالإضافةِ إلى نشره قصيدته الثانية فِي مجلةِ المدرسة كما أسلفنا، كان الشخص الثاني الذي تأثر به السَماوي يحيى بعد والده الَّذِي كان معلمه الأول ومثله الأعلى.
داويـتُ جُـرحـي ـ والـزّمانُ طـبـيـبُ ـ
بـالـصّـبــرِ أطـحـنُ صـخـرَهُ وأذِيـبُ

لا أدّعـي جَـلَـداً .. ولـكـنْ لـلـهــوى
حُـكْـمٌ يُـطـاعُ بـشـرْعِـهِ الـمـحـبـوبُ

أسْــلـمْــتُـهُ أمـري … وأعْـلـمُ أنـنـي
حَـطـبٌ … وأمّـا دربُـهُ فـلـهــيــبُ

طـاوَعْـتُـهُ رُغْــمــاً عـلـيَّ … لأنـهُ
كُـلّـي : صِــبـاً وفـتـوَّةٌ ومَــشِــيـبُ

جَـرَّبْـتُ أنْ لا أسْـتـجـيـبَ فـعـابَـنـي
شَـرَفي وهـدَّدَ بالـخِـصـامِ نـســيـبُ

هو من غصوني طيـنُهـا وجذورُهـا
هـل للغـصونِ من الـجـذورِ هُـروبُ ؟

حـيـناً يُـنيـبُ ضُحايَ عن ديـجـورِهِ
قـسْـراً وحـيـنـاً عن ضُـحـاهُ أنـوبُ

ورأيـتُ أنّ الأصـغـريـن تـعـاضـدا
ضِـدّي وشــدَّ إلى الـبـعـيـدِ قـريـبُ

كُـتِـبَ الـوفـاءُ عـلـيَّ دون إرادتـي
فـالـلـوحُ قـبـل ولادتـي مـكـتـوبُ

أجـفـو نـعـيـمَ الـمـارقـيـن وإنْ سعى
ليْ مـنهُ صـحـنٌ بالـرحـيـقِ خضيبُ

ثُــلـثـا دمي مـاءُ الـفـراتِ وثـلـثـهُ
طـيـنٌ بـدمـعِ الـمُـتْـعَـبـيـن مَـذوبُ

**
ما أظننا نغلو فِي القولِ إنَّ تلكَ الواقعة – الَّتِي حالت دُون بلوغ المرامي العائلية المتعلّقة ببوصلةِ التوجهات المُسْتَقْبَليَّة لابنِهم – تُعَدّ انعطافاً حقيقياً فِي مسارِ حياة السَماوي، حيث أفضى إلى إحداثِ تغييراتٍ جوهرية فِي نمطِ حياته نحو مَا متاح مِن الآلياتِ الَّتِي مِنْ شأنِها زيادة مخزونه الثقافي وَالفكري؛ لأنَّها كانت تعبيراً عَنْ رغبتهِ فِي بناءِ شخصيته، وَالعمل عَلَى إنضاجِها قصد تكاملها بالاستنادِ إلى مَا يحقق تطلعاته وَأهدافها الطموحة.
حزنُ أمه ” رحمها الله ” بسببِ صرفه النظر عَنْ الدراسةِ فِي دارِ المعلمين الإبتدائية، قابله فِي الجانبِ الآخر موقف أبيه ” رحمه الله ” المتمثل بتركِ حرية الإختيار لابنه فِيما يبغي، وَهو الأمر الَّذِي ساهم فِي جعلِه أكثر قوة وَكفاءة وَثقة بالنفس. وَفِي ظلِ تلك الظروف الَّتِي أصبحت مِنْ شظايا العمر، انتظم ” الفتى المتمرد ” فِي الدراسةِ بثانويةِ السَماوة وَهو يشعر بسعادةٍ وَنشوة نفسية مستمدة مِنْ تحليقه فِي عوالمِ أحلامه، وَالَّتِي قد يبدو القليل مِنْها لِمَنْ هو بمثلِ سنه صعب التحقق، وَلاسيَّما مَنْ يحيا فِي وطنٍ تكبل شعبه جدائل الليل وَتتضح ملامح البؤس فِي وجوه أبنائه. وَلَعَلَّنا لا نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ أحلامَ السَماوي لَمْ تكن رهينة التحليق فِي عوالمٍ مجهولة، فثمة ما يجعله مؤمناً بإمكانيةِ تحقيقها وهو ” الحب ” الذي أبى أنْ يفارقَ قلب السَماوي، وَلَمْ يختزل مداده يوماً، عَلَى الرغمِ مِما أَحَاقَ برحلته فِي الحياةِ مِنْ مواجهةٍ دائمة مَعَ أعاصيرِ الطغيان وَعسس الاستبداد، مَا جعل حياته محفوفة عَلَى الدوامِ بالمخاطرِ أكثر مِمَا ينبغي. وَالمتوجبُ إدراكه أيضاً هو أَنَّ السَماويَ حتى فِي منفاه كان متميزاً، إن لَمْ يكن متفرداً بعد أنْ ساقته الأقدار إلى الاستقرارِ فِي أبعدِ شبرٍ مِنْ سطحِ كوكبنا، فكان أنْ عاشَ الغربة مرتين، بَيْدَ أنَّه لَمْ يترجل عَنْ صهوةِ الشعر، وَلَمْ يتوقف بوحه عَن الوطنِ – الَّذِي تغنى بعذوبةِ فراته وَهام بكُلِّ ذرّةٍ مِنْ ترابِه – وَلا عَنْ قضايا الإنْسَان. وَلعلَّ فِي إحدى دراسات الشاعر المصري الدكتور حسن فتح الباب حسن النقدية مَا يؤكد هذه الرؤية، وَالَّتِي يقول فِيها: ” .. وما أكثر المثقفين العراقيين وفي طليعتهم الشعراء مثل محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري الذين عانوا مرارة الإضطهاد في وطنهم وقسوة الشعور بالإغتراب، فحطوا رحالهم في المنافي لينجوا من القتل أو السجن، ولكن هذه المنافي كانت بلدانا عربية أو دولا مثل إنجلترا تقيم بها جالية عربية وإسلامية كبيرة فلم يشعروا بالغربة إلآ قليلا . أما يحيى السماوي فلم يجد ملجأ يأوي إليه إلا هناك في أبعد بقعة من الكرة الأرضية، ومن ثم تضاعفت مأساته الوجودية. ومن هذه البقعة النائية جاءتنا قصائده التي تصور عشقه للوطن والحرية وتوقه الى الخلاص من أعدائها، واشتدّ حزنه وألمه حين تحرر العراق من الطاغية السفاح ليقع في قبضة الغزاة الأمريكان الذين يتشدقون بحقوق الإنسان وفي مقدمتها الحق في الحياة والحرية والعدالة وهم أعدى عُداتها “.
قـدْ ثـابَ لـو أنَّ الـجـنـونَ يَـثـوبُ
وأجـابَ لـو أنَّ الـقـتـيـلَ يُــجـيـبُ !

صَـبٌّ ولا كالـعـاشـقـيـن : ضـلوعُـهُ
نـخـلٌ .. وأمّـا قــلــبُــهُ فـشـعـوبُ !

قـد كان أقـسَـمَ أنْ يموتَ على هوىً
وإنِ اسْـتهـانَ بـعـشـقِـهِ الـمحـبـوبُ

ضـاقـتْ بـهِ قـبـلَ الـدِّيـارِ صَـبـابـةً
وتــقــاذَفَــتْـهُ مـلاجـئٌ .. ودروبُ

مـا إنْ يُـكـحِّـل بالـشـروقِ جـفـونـهُ
حـتى يُـخـيـطَ الـمـقـلـتـيـن غـروبُ !

يمـشـي بهِ الوَجَعُ الجـلـيـلُ ويـرتعي
دمَـهُ اشــتــيـاقٌ : أنْ يُـطِـلَّ حـبـيـبُ

تـلـهـو بـزورقِـهِ الـرّيـاحُ وتـسْـتـبـي
أيامَـهُ ـ فـي الـغـربـتـيـنِ ـ خـطـوبُ !

“ليلاهُ” في حُضـنِ الغريبِ سـبـيـئةٌ
أمّـا الـعــشــيـرُ : فـبـائِـعٌ ولـغــوبُ !

أجَـلِ الـبـلادُ نـجـيـبـةٌ يـا صـاحـبـي
والـنهــرُ والـنـخــلُ الجـريحُ نـجـيـبُ

لكنّ ” بعضَ ” رؤوسِــنا ياصـاحـبي
جُـبِـلـتُ عـلى فَـسَــدٍ فـلـيـسَ تـثـوبُ !

غـرسـوا بـنـا سُـلَّ الـشّـقـاقِ فـلـيـلُـنـا
مُــتـأبِّــدٌ … ونـهـارُنـا مـعــصــوبُ !

بِـتْــنـا لـفـأسِ الـطـائـفـيّـةِ مَـحْـطـبـاً
فـلـكـلِّ حـقـلٍ ” مـالِـكٌ ” و ” نـقـيـبُ ” !

عِـلَـلُ الـعـراقِ كـثـيـرةٌ .. وأضـرُّهـا
أنّ الـجـهـادَ : الـذَّبـحُ والـتـســلـيـبُ !

وطـنٌ ولـكـنْ لـلـفـجـيـعـةِ … مـاؤهُ
قــيـحٌ … وأمّــا خـبـزُهُ فــنـحــيــبُ

مـســلـولـةٌ أنـهـارُهُ … ومـهـيـضــةٌ
أطــيـارُهُ .. ونـخــيــلُـهُ مـصـلــوبُ !

” قومي هـمو قـتلـوا أميمَ أخي ” ولا
ذنـبٌ ســوى أنّ الـقــتـيــلَ لـبـيــبُ !

أكـذوبـةٌ تـحـريـرُنـا يـا صــاحـبـي
والــشّـاهـدانِ : الـقـتـلُ والـتـعـذيـبُ

أكــذوبـةٌ حُــريّـةُ الإنــســان فـي
وطـنٍ يـسـوسُ بـهِ الـبـلادَ غـريـبُ

مُـدُنٌ تُـبـادُ بـزعْــمِ أنَّ مُـخَـرِّبـاً
فـيهـا وطـبعُ “محرري” الـتخـريبُ !

وحْـشــيَّـةٌ تـنـدى لـقـســوةِ نـابِـهـا
خَـجَـلاً : ضـبـاعُ بـلادهِ والـذِّيـبُ !

أكـذوبـةٌ أنْ يــسـتـحـيـلَ غــزالـةً
ذئـبٌ وبـيـتـاً لـلأمـانِ حـروبُ

**
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ ثانويةَ السَماوة لَمْ تكن غريبة عَلَى السَماوي، فقد كانت البناية هي ذات بناية مدرسته المتوسطة، فضلاً عَنْ أَنَّ أغلبَ المدرسين هم نفسهم فِي المرحلتينِ الدراسيتين، وَأصبح ” الفتى ” المهووس بنظمِ الشعر سعيداً فِي الصفِ الرابع الثانوي، بالإضافةِ إلى تميزِه عَنْ بقيةِ أقرانه بالتفوّقِ فِي درسِ اللغة العربية حتى أَنَّ المدرسَ المرشد اختاره ” فارس الصف ” أكثر مِنْ أسبوع، حيث كان مرشدو الصفوف يختارون طالباً مَا بَيْنَ فترة وَأخرى ليُكتب اسمه فِي لوحةٍ معلقة فوق السبورة تحمل عنوان فارس الصف.
الْمُلْفِتُ أَنَّ اجتيازَ السَماوي الصف الرابع عام، فرضَ عَلَيه بعد نجاحه اختيار أحد الفرعين : العلمي أو الأدبي لمواصلةِ دراسة الصفين الخامس وَالسادس، لكن شاءت الظروف أنْ يكون عدد الطلاب الراغبين فِي الفرعِ الأدبي قليلاً، فَلَمْ يُفتح لهم صفٌّ فِي الدراسةِ الصباحية واقتصرت دراستهم فِي الثانويةِ المسائية، وَالَّتِي لَمْ يكن راغباً بها لأسبابٍ قد يكون مِنْ بَيْنَها أَنَّ الطريقَ الموصل لَهَا لايمرّ عَلَى الجسرِ وَشارع النهر فِي الصباحاتِ الجميلة، ورُبَّما لأَنَّ النظرةَ الشائعة آنذاك تفضي إلى أَنَّ طلبةَ الدراسات المسائية هم مِمَنْ فشلوا فِي الدراسةِ الصباحية ورسبوا سنتين متتاليتين، فَلَمْ يَعُد بمقدورِهم عَلَى وفقِ لوائح إدارة التَّرْبِيَة مواصلة الدراسة الصباحية. وَفِيمَا يتعلق بميله للدراسةِ فِي الفرعِ الأدبي، لا مناص مِنْ القولِ أَنَّ واقعَ الحال يؤكد أَنَّ السَماويَ جدد لعبة الجري وراء مَا بوسعِه المُسَاهَمَة فِي تحقيقِ مَا يصبو إليه مِنْ أهدافٍ وَتطلّعات؛ إذ يمكن القول إنَّ أمراً واحداً جعله يزدادُ إصراراً عَلَى اختيارِ الفرع الأدبي، وَهو أَنَّه كان أذكى الطلاب فِي درسِ اللغة العربية، وَفِي الوقت ذاته كان أقلهم ذكاء فِي درسِ الرياضيات والجبر والهندسة؛ لذا اختمرت فِي ذهنِه فكرة السفر إلى مدينةِ الديوانية مِنْ أجلِ إكمال دراسته فِي مدارسِها، تعبيراً عَنْ الأبجديةِ التربوية المؤكدة عَلَى أَنَّ الطّموحَ يُعَدّ مِنْ أهمِّ الحوافز الَّتِي تشجّع الإنسان وَتحثّه عَلَى تحقيقِ غاياته وَتطلعاته، فكان لزاماً عَلَى الفتى – الشغوف بالشعرِ وَالمتطلع إلى رسمِ معالم مستقبله وَالوقوفِ عَلَى قدميِه فِي أروقةِ الجامعة المفعمة بالحياةِ وَالجمال – مغادرة مدينته السماوة الَّتِي جعلتها الأقدار لاحقاً ” جنته وجحيمه معاً “، وَسافرَ تغمره نشوة التأسيس لغِده المشرق إلى مدينةِ الديوانية، لينتظم بالدراسةِ فِي ثانويةِ الجمهورية عام 1968م.
ما لـيْ أبـثُّـكَ يـانـديـمَ قـريـحـتـي
شـجَني وفـيـكَ من الهموم سـهـوبُ ؟

هــل نحـنُ إلآ أمّـةٌ مــغـلـوبـةٌ
رأتِ الـمـشـورةَ مـا يقولُ مُـريبُ ؟

مـا نـفـعُ تـوحـيـدِ الـلـســانِ لأمّـةٍ
إنْ لـم تُـوحَّـدْ أذرعٌ وقــلــوبُ ؟

هيَ أمَّـةٌ أعـداؤهـا مـنها… مـتـى
طارَ الجـناحُ وبـعْـضُهُ معـطـوبُ ؟

مِن أيـن نـرفـلُ بالـنعـيـمِ وبـيـنـنـا
لـصُّ الـرّغـيـفِ ومارقٌ وكـذوبُ ؟

ومُـدجَّـجٌ بالـحـقــدِ يـنـخـرُ قـلـبَـهُ
ضَـغَـنٌ لـه نحـو الـدِّمـاءِ دبـيـبُ ؟

أعـمى الـبصـيـرةِ فيهِ من أحـقـادِهِ
مَـسٌّ ومن صـدإِ الظنونِ رسـيـبُ ؟

“لا يسلمُ الشرف الرفيع من الأذى ”
حتى يُـعـيـدَ طـريـفَـهُ الـمـسـلـوبُ

***
لا مناص مِن القولِ إنَّ الإنتقالَ إلى مدينةِ الديوانية، يُعَدُّ حدثاً شَدِيد الأَهَمِّيَّة بالنسبةِ للسَماوي وَلأسرته؛ إذ منحه الواقع الجديد فضاء حرية أوسع ممَا كان عليه فِي مسقطِ رأسه مدينة السَماوة، فقد أصبح بمقدورِه السفر إلى بَغْدَاد العاصِمة مَا بَيْنَ وقت وآخر لاقتناءِ مَا بحاجته مِن الكتب وَالمطبوعات، والى مدينةِ كربلاء أيضاً حيث كان يعمل مُدرّساً مَنْ كان قدوة له فِي الشعرِ، وهو الشاعر الكبير محمد علي الخفاجي ” طيب الله ثراه “، إلا أَنَّ السَماويَ الَّذِي جُبل عَلَى حياةٍ لا تخلو مِن التحدّي مذ أنْ تفتحت عيناه عَلَى ضجيجِ الحياة فِي صوبِ الغربي، وَبدأ بفخرِ الطين وَتسلق الباسق مِن النخيل وَعبور نهر الفرات سباحة لأكثرِ مَنْ مرةٍ فِي اليوم، فضلاً عَنْ سهره فِي بعضِ الأحيان الليل بطولِه إلى أنْ تطلَ شمس الصباح فِي محاولةِ نظم قصيدة، لَمْ تكن دراسته فِي الديوانيةِ تجري بصورةٍ أو بأخرى فِي معزلٍ عَنْ الصعوبات، فقد تحمّل والده رحمه الله عبئاً كبيراً فِي توفيرِ مصاريف الدراسة عَلَى صعيدِ إيجار الفندق وَالطعام، وَمِنْ ثم إيجار البيت الَّذِي استأجره فِي حي المتقاعدين مَعَ زميلينِ صديقين مِن أهالي السماوة، وَلاسيَّما بعد طرده مِن القسمِ الداخلي بسببِ اكتشاف الإدارة انتمائه لاتحاد الطلبة. وَمَعَ اشتدادِ المضايقات عَلَى الفتى المفتون بسحرِ الأدب وَالشغوف بجزالةِ اللغة، وَالمتحفز لإنضاجٍ مرتكزات البِيئَة الَّتِي تمكنه مستقبلاً مِن الوصولِ إلى مراده وَتحقيق طموحاته وَأهدافه بعيدة المدى، يتضحُ جلياً أَنَّ الثوابتَ وَمثل السياسة الَّتِي آمن بِهمَا السَماوي جعلته – عَلَى الرغمِ مِنْ صغرِ سنه – يَبدُو فِي ظلِ تلك الظروف العصيبة كَمَنْ هضم جيداً مضمون العبارة التالية: ” إذا خَلت الحياةُ مِن الصعوبةِ لَمَا استشعرنا بجمالِها “، فلا عجب أنْ ينفتحَ صهيل الروحِ بوهجِ الحرف وَأناقة الأداء، بالإضافةِ إلَى مَا مِنْ شأنه المُسَاهَمَة فِي ترسيخِ القيم الإنسانيَّة.

خـرجـتُ مـن ثـيـابـكـم مـقـبـرةِ الأحـيـاءْ
مُـقـاتـلاً .. ســيـفـي دمـي
جـيـوشـيَ الـعـشـاقُ والأطـفـالُ والـنـسـاءْ
خـرجـتُ لـلـفـضـاءْ
أبـحـثُ عـن جـزيـرةٍ جـديـدةٍ
أبـحـثُ عـن ســمـاءْ
غـيـر الـتـي كـان أبـي يـعـبـدهـا
فـقـد رفـضـتُ الـيـومَ أنْ أعـانـق الـمـوتـى وأنْ أقـلّـد الأشـيـاءْ
أنـا هـو الـنـهـرُ الـذي جَـفَّ … أريـدُ الـمـاءْ
أنـا هـي الأرضُ الـتـي تـبـحـثُ عـن سـمـاءْ
***
قبل أنْ يسدلَ الستار عَلَى فصولِ دراسته فِي مدينةِ الديوانية، اعتزم عاشق السَماوة أواخر أعوام العقد السادس مِن القرنِ الماضي – وَهو لَمْا يَزل منتظماً بالدراسةِ فِي ثانويةِ الجمهورية – إصدار أول مجموعة شعرية له، وَالَّتِي وسمها باسْمِ ” عيناك دنيا “، الأمر الَّذِي ألزمه إستعطاف أبيه ” رحمه الله ” أنْ يتدبّر لَهُ مبلغَ خمسين ديناراً مِنْ أجلِ طبع مجموعته الشعرية البكر، وَالَّتِي كانت بحسبِ السَماوي يحيى المعروف بتواضعه ” لا تعدو كونها غزلاً ساذجاً لمراهقٍ فِي مقتبلِ العشق “، مَعَ العرضِ أَنَّ مبلغَ الخمسين ديناراَ كان كبيراً جداً يومذاك بالنسبةِ لبقّالٍ فقير، فساعدته الطيبة أمه بأنْ باعت حجلها الفضي وَسوارها الذهبي الوحيد وَمحبسها الذهب، وَرُبَّما يكون خاله رسول ” رحمه الله ” قد تبرّع أيضاً ببضعةِ دنانير. يُضافُ إلى ذلك أنَّ ” عيناك دنيا “، الَّتِي تُعَدّ باكورة أعمال السَمَاوي الشعرية الإبداعية كان قد رسم لوحة غلافها مدرّس مَادة التربية الفنية – المقيم فِي إيطاليا حالياً – ” الفنان رسمي كاظم الخفاجي “، وَكتب مقدمتها مدرّس مَادة اللغة العربية الدكتور حاكم مالك الزيادي ” رحمه الله “، فِيما انبرى الشاعر الكبير محمد علي الخفاجي ” رحمه الله ” لكتابةِ كلمة الغلاف. وَمِن الْمُفِيدِ الإشارة هُنَا إلى أَنَّ للشاعرَ الخفاجي كبير الفضل عَلَى الشاعر يحيى السَمَاوي، فهو الَّذِي تعهّده بالرعايةِ والتوجيه، فضلاً عَنْ إشرافِه بنفسه عَلَى طباعةِ مجموعته الشعرية المذكورة آنفاً بمطبعةِ النعمان فِي مدينةِ النجف الأشرف. وَفِي هَذَا السياق يشير السَمَاوي إلى الشاعرِ الراحل محمد علي الخفاجي بقولِه: ” إنَّه أستاذي وَأخي وَصديقي وَحبيبي، وَهو أول نافذة ضوئية فِي ليلِ عمري “.
أراني ملزماً أمام حالة تكاتف أساتذة السَماوي بثانويةِ الجمهورية فِي مهمةِ إنجاز طباعة مجموعته الشعرية ” عيناك دنيا “، القول إنَّه إذا كان مِن المسلَّم به أَنَّ فِي وسعِ المعلمين والمدرسين إكساب تلامذتهما وَطلبتهما المعرفة والعلوم وَمَا مِنْ شأنِه ترسيخ الفضائل الإنسانيَّة، إلى جانبِ غرس القيم الأخلاقية، فالمتوجب إدراكه أيضاً هو إلزامية ” نزع القبعات ” تحية لأساتذةِ السَمَاوي وَغيرهم مِن أجيالِ المعلمين وَالمدرسين الَّذين نذروا أنفسهم فِي سبيلِ نفضِ غبار الجهل عَمَا تعاقب مِنْ أجيالِ الدارسين، وَتفانوا مِنْ أجلِ تكريس المبادئ وَالقيم السامية الَّتِي تكفل علو مكانة المعلم فِي المدرسةِ وَالمجتمع؛ إذ لَمْ يفسحوا المجال أمام مَا هو مخجل وَمذل مِنْ السجايا وَالصفات السيئة، وَالَّتِي أفضت فِي زمانِنا إلى دفنِ التعليم فِي جنازةٍ رسمية يتقدمها المفسدون وَالطارئون عَلَى إدارةِ التَّرْبِيَة، فضلاً عَنْ أولياءِ أمور الكسالى مِن الطلبة. يُضافُ إلى ذلك حرصهم عَلَى إخمادِ فورة مَا مِنْ شأنِه إضفاء شرعية عَلَى مَا هو متداول الآن مِنْ سلوكياتٍ غير منسجمة مَعَ نظامِ مفهوم أخلاقيات المهنية فِي المجالِ التربوي مثل عدم احترام الوقت وَاعتماد سبل خبيثة لإجبارِ الطلبة عَلَى التدريسِ الخصوصي وَتقبل الهدايا، بالإضافةِ إلَى التعاملِ بالرَشَاوَى وَالانغماس بسلوكياتٍ يَنْدَى لها الجبين كسرقةِ مَا متَاح مِنْ موجوداتِ المدرسة، وَهو الأمر الَّذِي أساء لأقدمِ مهنة عرفها البشر بفضلِ تعليم أبينا آدم ” عليه السلام ” الملائكة مَا لَمْ يعلموه، فلا غرابَة فِي أنْ يتجرأ بعض الجهلة بمشاركةِ ” الجاحظ ” فِي السخريةِ مِن المعلمِ وَالسعي للانتقاصِ مِنْ شأنِه، حتى وصل الأمر فِي أيامنا إلى أهانته وَالتلذذ بالاعتداءِ عَلَيه. وَمِنْ وجهةِ نظرٍ شخصية متواضعة: أكادُ أجزم أنَّ مَا ظهر مِنْ معاييرٍ لاختيارِ المعلم فِي زمَاننا يزيدني يقيناً بأنَّ مَا قدمه أساتذة السَمَاوي فِي ثانويةِ الجمهورية مِنْ جهدٍ طيب حيال معاونته فِي إنجازِ مؤلفه البكر، يسمو بهم إلى درجةِ القديسين؛ لأنَّهم تعاملوا مَعَ مهنةِ التعليم بوصفِها رسالة إنسانيَّة يرتكز نجاحها عَلَى التضحيةِ وَالتجرُّد.
أفـرَغْـتُ قــلــبـي مـن ســواكَ حـبــيــبـي
فاطـفِـئْ بـمــاءِ رضـاكَ جـمـرَ ذنـوبـي
أطْـمَـعْـتَــنـي بـالـعـفـو مـنـكَ فــلـيـتــنـي
بــدءَ الــشـروقِ عـرفــتُ حَـتْـمَ غـروبـي
لـو كـنـتُ ذا لُـبٍّ : جَـنـحـتُ بـمـركـبـي
عـنْ جُـرفِ صــهــبــاءٍ ومــوجَــةِ كُـوبِ
دائـي عـــصِــيٌّ لا شِـــفــاءَ لِـــبُـــرئِــهِ
إلآ رضــاكَ فــمـا سِــواكَ طـــبـــيـــبـي
مِنْ المؤكّـدِ أنَّ قليلاً مِن التأملِ فِي ذاكرةِ بعضٍ مِنْ معاصري السَمَاوي كفيل ببلورةِ صورة واقعية عَنْ نشاطِه الأدبي أيام دراسته فِي مدينةِ الديوانية، فثمة بعض الحكاياتَ الَّتِي يتداولها أصحابها أحياناً فِي مجلسٍ خاص أو عام بوسعِها المُسَاهَمَة فِي إغناء مباحث الدراسة وَتقريب محتواها إلى المتلقي، ولعلَّ مِنْ بَيْنَها مَا سجله القاص والروائي سلام ابراهيم فِي صفحته عَلَى قناةِ التواصل الاجتماعي، وَالَّذِي نصه : ” في عام 1970 إنتشر يحيى السماوي في مدينة الديوانية مثل بركان. وقتها كان طالبا يدرس في ثانوية الجمهورية وأصدر ديوانه الغزلي الأول ” عيناك دنيا “، غزل بالأنثى شديد العذوبة سيمّيز شعره حتى الآن. كان يكبرني بعدة سنوات، يسكن بيتاً مستأجرا فهو قادم من السماوة لغرض الدراسة وكانت قضاء صغيراً تابعاً للديوانية “. ويضيف قائلاً : ” وكنت وقتها دخلت الوسط الأدبي لتوي، أحببت أشعاره بالرغم من ترّفع أصدقائي الشعراء عن مثل هذه الأشعار وكانوا لتوهم قد أطلق سراحهم من السجون وكتبوا أشعاراً عامية جددت بالقصيدة العراقية، حينما أبديت أعجابي بها أمامهم وكنت طيرا في الأدب لم ينبت جناحه بعد، لخصّوه بأنه يقلد ” نزار قباني “.
المذهلُ فِي الأمرِ أَنَّه حين صدرت الذاكرة الوجدانية فِي رحلةِ السَماوي يحيى بن عباس ” مجموعته الشعرية عيناك دنيا “، فوجئ أبوه ” رحمه الله ” أَنَّه قد اختار لقب ” السماوي ” وليس اسم العشيرة ” الحسناوي “، وَحين عاتبه بتوبيخٍ حميم، أجابه : ” أنت ستموت، وأنا سأموت، والعشيرة ستندثر، أمّا السَماوة فستبقى أبد الدهر، ومَا بقيت السماء “. وَضمن هَذَا المعنى حدثني السَماوي ذات صباح بغداي قائلاً: ” لصديقي الأديب عباس حويجي العوفي قول مَا زلت أحفظهُ عَنْ ظهرِ حب قاله قبل أكثر مِنْ أربعين عاماً نصّه ( الجنة تبدأ من وطني ). وَقد استعرت هَذَا القول مِنه أو تناصصت مَعَه. العراق بالنسبةِ لي هو السماء الثامنة، وأما السماء التاسعة فهي السَماوة “.
وأنا ‘‘السماوة‘‘ حيثُ نَخلتُها
سَعَفٌ وعِذقٌ غيرُ منتَضِدِ
والمستجيرُ ببِئرِ غربته
هلاّ مدَدتِ إليه من مَسَدِ
إن قد عُدمتِ الحبلَ يُنقِذهُ
مُدّي له طوقا من الرَّشّدِ
هل تسألينَ الآن كيفَ أنا؟
أنا في الهوى: بَدَدُ على بدَدِ!