22 ديسمبر، 2024 10:43 م

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

( الحلقة الحادية عشرة )

يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.

مِنِ البديهي أنْ يكونَ لبعضِ الأحداث – وَلاسيَّما فِي مرحلتي الطُفُولة وَالصِبا – مساهمة متباينة الأثر في بناءِ شخصية الإنْسَان وَإنضاجها، وَلعلَّ مِنْ بَيْن أهداف الباحث فِي محاولةِ الغوص بِما أتيح لَهُ مِنْ ثنايا طُفُولةِ الشاعر السَمَاويِّ وَصِباه هو السعي لاستخلاصِ العبر مِمَا يدور فِي الذاكرة الوَطَنيّة مِن الوقائعِ وَالفعاليات الَّتِي حجبها غبارُ الزمن الصديء، وَساهمت محن سنواته فِي تغييبِ أغلب ملامحها وتضييع أصالتها، وَالَّتِي قد لَا يجد الباحث عَنْ حكاياتها سبيلاً لأبوابِها العتيقة المؤصدة بعد أنْ طالَها النسيان عَلَى الرغمِ مِن الحاجة إلى بعضٍ مَا استنبت بأيامِها مِنْ أنْشِطَةٍ فِي حياتِنا الحَاضرَة.

لا يخفى عَلَى أحدٍ بأنَّ مَا ظهرَ مِنْ ألعابٍ شَعْبِيٍّة فِي بلادِنا، كانت تُشكل فِيمَا مضى مِن الأيامِ أحد أهم البيئات المَحَلِّيَّة الجاذبة للأطفالِ وَالصبية؛ بالنظرِ لبساطتِها المتوائمة مَعَ تواضعِ مدخولات الأسر المَاليَّة حينئذ، وَالَّذِي أفضى إلى ميلِ الأهالي لتصنيعِها مِن سعفِ النخيل وَمَا يؤدي الغرض مِن المُخَلَّفَاتِ المنزلية، بَيْدَ أنَّ المذهلَ فِي الأمرِ هو اتضاح تفوق آثار الألعاب الشَعْبِيٍّة القديمة مِنْ ناحيةِ سلامة البناء التَرْبَوِيّ عَلَى الشائعِ مِنْ أغلبِ ألعاب الطُفُولة الَّتِي تمارس حالياً؛ بالنظرِ لِمُسَاهَمَتها فِي إضفاءِ صبغةٍ تَّعْلِيميَّة وَتثقيفيَّة وَصِحِّيَّة عَلَى المبكرِ مِن المراحل العمرية، إلى جانبِ المرتجى مِنْ طبيعتِها الترفيهية؛ إذ بوسعِها المعاونة فِي تَّنْمِيَةِ الذهن وَإنضاج المهارات وَصقل القدرات الإبداعية بفعلِ ارتكازها عَلَى مقوماتٍ جسمانية وَعضلية تتطلب قدرة بدنية عالية، إلى جانبِ مَا يعززها مِنْ صفاتٍ ساندة للنجاحِ فِي تأديةِ أغلب تلك الألعاب كالقوةِ وَالرشاقة الَّتِي مِنْ شأنِها إكساب الطَفُل أو الصبي خفة الحركة، وَإمكانية المناورة. يُضافُ إلى ذلك مَا تفرضه طبيعة الألعاب القديمة مِنْ ضروراتٍ تقضي بإلزامِ اللاعب – وَلو مِنْ دُونِ وعيٍّ – تعزيز مهاراته العقلية وَالذهنية؛ لحاجتِه إليها فِي تدعيمِ مهاراته بميدانِ اللعب، وَالَّتِي مِنْ أبرزِها خاصية سرعة اتخاذ القرار بالوقتِ المناسب، وَموجباتها المتعلقة بالتفكيرِ وَالذكاء وَالدقة وَالملاحظة. وَالمتوجبُ إدراكه أيضاً هو أنَّ خلوَ أغلب مدننا مِنْ المتنزهاتِ وَغيرها مِنْ أماكنِ الترفيه العامة فِي الماضي، لَمْ يقلل مِنْ فاعليةِ الألعاب الشَعْبِيٍّة القديمة – الَّتِي كانت تُعَدّ التسلية الوحيدة للأطفالِ والصبية يومذاك – فِي المُسَاهَمَةِ بتقويةِ أواصر العلاقات الاجْتِماعِيَّة مِنْ خلالِ إيجابية أثرها فِي إشاعةِ روح التفاؤل وَالدعابة وَالمحبة وَالألفة، وَمَا مِنْ شأنِه ترسيخ وَشائج التسامح وَنبذِ الانعزال وَالكراهية، وَالتشجيع عَلَى ابتكارِ الأساليب التَرْبَوِيَّة الَّتِي بمقدورِها بثِ روح التعاون وَإثارة محركاتَ الوعي عَلَى ممارسةِ العَمَل الجماعي مَا بَيْنَ أطفال المحلة أو الزقاق، إلى جانبِ نشر الفكر التشاركي فِي أروقةِ المُجْتَمَع، وَالَّذِي يُعَد الإساس للإندماج فِي أنْشِطَةِ مَا يشارُ إليه اليوم باسْمِ العَمَل التَطَوُّعي الَّذِي يتبنى الكثير مِن الفعالياتِ الَّتِي بوسعِها التخفيف مِن المُشْكِلاتِ الَّتِي يعاني مِنْها المُجْتَمَع، وَلاسيَّما الفقر، الإعاقة، التَلَوَّث البيْئَي، الأمية وَغيرها، فضلاً عَنْ تقديمِ ما يحتاجه المُجْتَمَع مِنْ خدمات، وَتأمين المساعدات الإنسانيَّة فِي المناطقِ الَّتِي تعاني مِن التخلفِ وَالفقر المدقع. وَغنيٌ عَنْ القولِ أَنَّ التحولاتَ البنيوية الَّتِي شهدها المُجْتَمَع العراقي خلال العقود الماضية، ساهمت فِي إجهاضِ نَفْسِيَّة الطَفُل وَدفنها وَهي حية بعد أنْ قدّر له عيش حياة انطوائية مغلقة مَا بَيْنَ أربعة جدران بخلافِ الألعاب التراثية، وَالَّتِي عَلَى الرغمِ مِنْ بساطتِها وسهولة تأديتها، إلا أَنَّها كانت تحمل فِي أحشائِها مَا يفضي إلى بثِ روح الحماسة وَالمنافسة وَالتسلية وَالمرَح لمؤديِها.

فِي طُفولتِه الَّتِي كانت غنيةٌ بالفقرِ وَالجمال، لَمْ تكن للسَماويِّ يحيى هوايات محددة، فإحساسه بظروفِ أسرته المعيشية لَمْ يكن يسمح له بممارسةِ مَا هو سائد يومذاك مِن الهوايات، حيث عمد إلى الاستمتاعِ بمعطياتِ الحياة كما هي، ترافقه عَلَى الدوامِ كلمات ثناء والده وَابتسامة وَالدته وَدعواتها الكريمة الطيبة ” طيب الله ثراهما “. وَالْمُلْفِتُ أَنَّه استبدل مطالعة الكتب بممارسةِ اللعب مع أترابه فِي أزقةِ المحلةِ “وَدرابينها” الضيقة بعرباتِ الأطفال المصنوعة مِن الصفيحِ وَالعلب الفارغة وَبقايا أعمال نجارة الخشب وَغيرها مِن الألعابِ الَّتِي كانت فِي مجملِها ملائمة للظروفِ الحياتية حينئذ، حيث انكب بشغفٍ عَلَى قراءةِ الكتب القليلة الموجودة عند ابيه وَهو فِي أواخرِ مرحلة الدراسة الإبتدائية، وَأَدْهَى مِنْ ذلك أَنَّه غدا بمثابةِ جزءٍ مِنْ أثاثِ المكتبة العامة حين دخل المرحلة المتوسطة. وَمَا أظننا نغلو فِي القولِ أَنّ نباهةَ السَماوي لِمَا أحاط بِه مِنْ ظروفٍ أرشدته إلى طرقِ سُبُلِ الحياة الأدبية عوضاً عَنْ ملاعبِ الصبا وَعذب سحرها؛ إذ علمته قساوة ظروف المعيشة كيفية استثمار الفقر فِي سنواتٍ مبكرة مِنْ حياته بقراءةِ مَا يتاح لَه مِن الكتب، وَهو الأمر الَّذِي يجعل المتلقي يقرُ بتميزِ تجربته الإنسانيَّة وَالإبداعية، وَالَّتِي عكست السطور القليلة المذكورة آنفاً ضوءً متوهجاً عَلَى قليلٍ مِنْ معطياتِ مرحلةٍ عمرية، لا رَيْبَ فِي مشاطرةِ القارئ لكريم إياي فِيمَا أعتقد جازماً أنَّه مهمٌ لخصوبةِ مسيرته الإبداعية فِي عوالمِ القوافي وَالتَّرْبِيَة وَالمواقف الوَطَنيّة وَالإنسانيَّة.

دعيني مـــــن أماسيكِ العِـذاب

فما أبقى التشردُ مـــــن شبابي

قَلبْتُ موائــدي ورميتُ كأسي

وشيَّعْتُ الهوى ورَتجْتُ بابي

خبَرْتُ لذائذ الدنيا فكانت

أمرَّ عليَّ من سمٍّ وصاب

وجدْتُ حلاوة الإيمان أشهى

وأبقى من لُماكِ ومن إهابي

إذا يبُسَ الفؤادُ فليس يُجدي

ندى شفة مُطيَّبةِ الرضابِ

أنا جرحٌ يسير على دروبٍ

يتوه بها المصيبُ عن الصوابِ

سُلبْتُ مسرَّتي واسْتفردتنــــــي

بدار الغُرْبتينِ مِــــدى ارتيابي

وحاصَرَتِ الكهولــة بعد وهْنٍ

يَدُ النكباتِ جائعــــــة الحِرابِ

وما أبقتْ لــــــــــي الأيامُ إلاّ

حُثالتــــــــــها بإبريقٍ خَرابِ

ترَشَّفْتُ اللظى حين اصطباحي

وأكملتُ اغتباقي بالضبابِ

أُطلُّ على غدي بعيونِ أمسي

فما شرَفي إذا خنْتُ انتسابي؟

تُحرِّضُني على جرحي طيوفٌ

فأنْبشُهُ بسكيني ونابي

وربَّ لذاذةٍ أوْدَتْ بنفسٍ

وحرمانٍ يقودُ إلى الطلاب

لَعلّ مِن المناسبِ الإشارة هُنَا إلى أَنَّ أبيه ” رحمه الله ” زاد مِنْ مصروفِه اليومي فِي مرحلةِ الدراسة المتوسطة؛ لأجلِ مساعدته فِي مهمةِ شراء الكتب الَّتِي كان يتنامى شغفه باقتنائِها. يُضافُ إلى ذلك شروع أبي يحيى خلال العطلة الصيفية بشراءِ خضرواتٍ أو فاكهة وَايداعها إلى أبنه مِنْ أجلِ بيعِها عَلَى الرصيفِ قرب محل بقالته وَترك أرباحها إلى يحيى الَّذِي لَمْ يركن إلى تسخيرِ مَا يجمعه مِن النقودِ الَّتِي يحصل عَلَيها مِن تلك الفعالية التِجاريّة الموسمية فِي لذائذِ الحياة الَّتِي كان بعضها طوع بنانه؛ إذ لَمْ يتوانَ بإنفاقِها فِي شراءِ الكتب الَّتِي كانت بمثابةِ بلسمٍ لِمَا يشعر بِه مِنْ فقرٍ طُفُولتِه، فضلاً عَنْ دورِها فِي إغناءِ مسيرته الحافلة بالعطاءِ الإنساني وَالإبداع الأدبي، وَالَّتِي حظي خلالها باحترامِ الناس وَحاز عَلَى محبتهم الَّتِي أثبتت الأيام أنْ لا شيء يضاهيها مهما غلا ثمنه، حيث كان السَمَاويُّ – وَمَا يَزال – أنموذجاً للشخصيةِ الإنسانيَّة المؤمنة بقيمةِ الكلمة وأهمية تأثيرها فِي الرأيِّ العام. وَلا أدلُ عَلَى ذلك مِنْ طوافِه عواصم بلدان العالم وَمدنها وعبوره القارات وَمحيطاتها وَبحارها وهو لا يحمل فِي حقيبتِه سوى رغيف الأدب المعجون بعذاباتِ ليالي الغربة فِي وطنٍ مكلوم، وَوحشة المنافي، وَعمق جراحات الهجرة الَّتِي مَا يَزال عبقها فِي رمالِ بادية السَماوة يحكي للأجيالِ – بعواطفٍ صادقة وأحلام حبيسة منذ أمدٍ بعيد – وَاحدة مِنْ أروعِ فصولِ قصة المواجهة فِي العراق مِنْ أجلِ الإنعتاق وَأكثرها دهشة.

أظلُّ العاشقَ البدويَّ.. أهفو

إلى شمسٍ وللأرضِ الرَغابِ

أنا البدويُّ لا يُغري نِياقي

رخامُ رُبىً.. وناطحةُ السحابِ

أنا البدويُّ.. لا يُغوى صُداحي

سوى عزف السواني والرَّبابِ

ودلَّةُ قهوةٍ ووجاقُ جمرٍ

تَحَلَّقَ حوله ليلاً صحابي

وبيْ شوقٌ إلى خبزٍ وتمرٍ

كما شوق البصيرِ إلى شِهابِ

وَلِلَبَنِ الشنينِ وماءِ كوزٍ

وظلِ حصيرةٍ في حَرِّ آبِ

فُطِرْنا قانعينَ بفقرِ حالٍ

قناعةَ ثغرِ زِقٍّ بالحَبابِ

أبٌ صلَّى وصامَ وحَجَّ خمساً

وأمٌ لا تقومُ عن «الكتابِ»

ألا ياأمس أين اليوم مني

صباحاتٌ مُشَعْشعةُ القِبابِ؟

وفانوسٌ خجولُ الضوءِ تخبو

ذؤابتُهُ فَيُسْرِجُها عتابي؟

وأين شقاوتي طفلاً عنيداً

أبى إلاّ انتهالاً من سرابِ؟

أُشاكِسُ رفقتي زهْواً بريئاً

ومن خَيْشٍ و«جُنْفاصٍ» ثيابي!

ألوذُ بحضنِ أمي خوفَ ذئبٍ

عوى ليلاً وخوفاً من عُقابِ!

لَعَلَّنا لا نبعدُ عَن الواقعِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ لا شيء يحمله السَمَاوي مِنْ ذكرياتِ طُفُولته الأولى فِي السَماوةِ أعذب مِنْ نهرِ الفرات الَّذِي لَمْ يُشكل ارتياده بشكلٍ دائم صعوبة له بسببِ قرب بيت جده لأمه المولود فيه كثيراً مِن النهر، فضلاً عَنْ جمالِ إيقاع اصطفاف نخيله، فعَلَى شاطئه المتآلف منذ زمان بعيد مَعَ طيبةِ وَبساطة وَفطرة جواره مِن البشر، تبلورت أبجدية ذاكرته الأولى فِي طُفُولته الغضة وَهو يمرح متأملاً شموخ نخل السماوة الَّذِي يخيل إليه استحالة انكساره أمام أعتى العواصف. وَعَلَى الرغمِ مِنْ أَنَّ شاطئَ الفرات – الَّذِي ارتبط اسمه بذاكرةِ الإنسانيَّة وَالعراقيين عَلَى وجه الخصوص بأكثرِ وَقائعِ التأريخ حزناً وَبشاعةً وَمظلومية – كان مستقراً آمناً للهوِ يحيى وأترابه وَمتسعاً للعبِ البريء، غَيْرَ أَنَّه كان فِي الوقتِ ذاته مكاناً للموتِ وَمصدراً للحزنِ وَالأسى، فكثر مَا ابتلعت أعماق النهر الخالد وَغياهبه أرواحاً غضة مِنْ رفاقِ الطفولة، وَالَّذين لَمْ يتسنَ لأحدٍ مِنهم العودة إلى شاطئ النهر عَلَى الرغمِ مِنْ طولِ انتظار أهليهم وأحبتهم. وَلا رَيْبَ أَنَّ قرابينَ البشر السنوية لنهرِ الفرات وَغيره مِنْ أنهارِ البلاد وَروافدها، تفرض عَلَى أهلِ المسؤولية السعي الحثيث لإيجادِ الآليات الَّتِي مِنْ شأنِها المُسَاهَمَة فِي درء حالات الغرق؛ إذ أَنَّ إحصائياتِ الجهات الرسمية الخاصة بحوادثِ الغرق فِي المسطحاتِ المائية، مَا تَزال تشكل هاجساً يؤرق الأهالي الَّذين ما فتِؤوا يتناسلون فِي الوقوعِ بفواجعِ الغرق، وكأنهم مرغمين عَلَى إحياءِ إحدى العادات القديمة الَّتِي فرضها الحس الديني لدى بعض الشعوب القديمة والمتمثلة بتقديمِ القربان البشري للآلهة، مَعَ العرضِ أنَّ تلك الطقوس اختفت عند بعضِ الأقوام وَاستمرت عند أخرى؛ لأسبابٍ تتعلق بالتطورِ وانتقال المجتمعات مِن العصورِ الحجرية إلى عصورِ النهضة وَالانفتاح. وَالْمُلْفِت أَنَّ فكرةَ تقديم القرابين لإله البحر عادة متأصلة فِي حياةِ الشعوب الافريقية، وَلعلَّ خيرَ مصداقٍ عَلَى مَا تقدم هو قرابين النيل الَّتِي كانت تقدمها القبائل فِي جنوبي السودان.

مِنْ هُنَا فإنَّنَا لا نبعد عَنْ الحقيقةِ إذا مَا قلنا إنَّ الأمرَ الَّذِي ألزمَ والد يحيى تعليم ابنه السباحة بنفسِه، هو الخشية عَلَيه مِن الغرق، حيث أرغمه عَلَى ذاك المنحى وَهو لَمْ يَزل طفلاً صغيراً بعد أَنْ اكتشفَ ممارسة يحيى السباحة فِي الفراتِ مستغلاٍ قرب بيتهم مِن النهر، حيث كان يستأجر مِن ” المرحوم محمد دنيّف ” أنبوب مطاطي منفوخ – يُستخدم مَعَ إطارِ السيارة وَالَّذِي يشار إليه محلياً باسْمِ ” جوب ” – ليعبر به النهر مجازفاً بحياته. وإلى جانبِ تعلقه الكبير بالسباحةِ التي اعتاد عَلَى قضاءِ وقتٍ طويل بممارستِها فِي كُلِّ يوم، كان فِي طفولتِه يتسلق السياج الطيني لبُستانِ ” الإمامي ” – الَّذِي ورد اسمه فِي أحدِ نصوصِه الشعرية – مَعَ بعضِ رفقته مِن أبناءِ الجيران؛ لأجلِ أنْ يأكلوا رمانة أو رمانتين، إضافة إلى قطفِ عنقود عنب غير ناضج، وَالَّذِي يطلق عليه العامة اصطلاح ” الحصرم “. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ السَمَاويَّ كان شغوفاً بتسلقِ النخل العالي، وَحدث ذات مرة أنَّ خالَه رسول ” رحمه الله ” أخذه إلى السينما لمشاهدةِ – فلم طرزان ـ وَهي المرة الأولى الَّتِي يدخل فيها السينما، وبعد مشاهدته الفلم، استثمر قرب بيت جده مِن البُستان، وَعمدَ إلى خلعِ دشداشته ليمثل دور طرزان، وَجعل شقيقه محمد يمثل دور القرد ” شيتا “، وَحين تسلق النخلة سعياً فِي محاولةِ القفز مِنْ سعفةٍ إلى سعفة أخرى، لَمْ يحالفه الحظ، حيث أخفق فِي جعلِ قدمه تجد لها مستقراً عَلَى السعفةِ الأخرى، مَا أفضى إلى ارتطامِ جسمه بجذعِ النخلة وَسقوطه مِنْ أعلَى الشجرة إلى الأَرْض وَقد امتلأ صدره بالخدوش، فركض شقيقه هارباً نحو البيت، وَالَّذِي يفترض به مساعدته بوصفه يمثل دور القرد شيتا، إلا أَنَّه فوجئ بخروجِ خاله ” رحمه الله ” ليس بقصدِ إعانته، بل مِنْ أجل إشباعه ضرباً.

كبرتُ ولايزال الخوفُ طفلاً

وقد صار «الرفاقُ» إلى ذئابِ!

تطاردُ مقلتي منهم طيوفٌ

فعزَّ عليَّ يا أمي إيابي

وعزَ على يديك تَمَسُّ وجهي

لتمسحَ عنه وَحْلَ الاغترابِ!

وعزَّ .. وعَزَّ.. حتى أنَّ عِزّي

غدا ذُلاً فيا لي من مُصابِ!

وعاقبني الزمان وهل كنأيٍ

بعيدٍ عن بلادي من عِقابِ؟

تقاسَمَتِ المنافي بعض صحبي

وبعضٌ آثَرَتْهُ يدُ الغيابِ

ولولا خشيتي من سوءِ فهمٍ

وما سيقالُ عن فقدي صَوابي

لَقلتُ: أَحِنُّ يا بغداد حتى

ولو لصدى طنينٍ من ذُبابِ!

لِوَحْلٍ في العراقِ وضُنْكِ عيشٍ

جِوارَ أبي المُدَثَّرِ بالترابِ

جوارَ أُخيَّةٍ وأخٍ وأمٍ

وأحبابٍ يُعَذِّبُهم عذابي!

أبا الحرف البليغ وهل جوابٌ

كصمتي حين أعجزني جَوابي؟

بلى.. لم ألقَ مثل عرارِ نجدٍ

ولا كرحابِ مكةَ من رحابِ

ولا كعشيركم أهلاً وصحباً

ولا كحصونكم دِرْعاً لما بي

عشقتُ ديارَ ليلى قبل ليلى

فَمِنْ رَحمِ الصِّبا وُلِدَ التصابي

ولكن شاءتِ الأيامُ مني

وشاءَ جنونُ طيشي من لُبابي

ولستُ بِمُبْدلٍ كأساً بكوزٍ

ولا لهواً بِعِفَّةِ «ذي نِقابِ»

أنا البَدويَّ.. في قلبي عِقالٌ

و(َيَشْماغٌ) ولستُ بِمَنْ يُحابي

إذا كان العراقُ رغيفَ روحي

فإنَّ عَرارَ واديكم شرابي