18 ديسمبر، 2024 11:59 م

مذكرات حلم (4) : خارج نطاق الصلاحيات !

مذكرات حلم (4) : خارج نطاق الصلاحيات !

ليس الجميع يحب الإصلاح والتطور والنزاهة والنجاح فهناك من يضع العصي بالعجلة ويحاول دائما عرقلة النجاح وتأخيره بشتى الذرائع ولكن دائماً هناك أشراقات تتحدى الفساد والتخلف وتتطلع للنهضة والإرتقاء .
كنت أسعى جاهداً أن أنمي شعور الإنتماء للعمل وللشركة بدلاً من روح الوظيفية المجردة وكان من الضروري لجميع العاملين في الشركة أن يشعروا بأحساس العائلة الواحدة والتضامن الأسري خصوصاً والشركة (حالها كحال العراق)تمر بظروف صعبة تحتاج الى شعور وطني بالانتماء ؛ وفيما كنت أهيأ نفسي ذات صباح للسفر إلى محافظة البصرة دخلت مكتبي أحدى الموظفات باكية مستنجدة خجلة منكسرة!.
ـــ أستاذ جئتك كأخت لك وليس كموظفة معك … اليوم وبعد ساعة سأدخل المستشفى لأجراء عملية جراحية لي … وأحتاج إلى سلفة مالية قدرها 250 الف دينار كي أتمكن من إجرائها ولم يتبقى لي معين غيرك!فأنظر ماذا ترى؟!
حاولت طمئنتها وتسكين روعها وإيقاف دموعها ثم طلبت حضور المدير المالي بسرعة وعرضت الأمر عليه فأخبرني أني لا أمتلك صلاحية إعطاء سلفة مالية خاصة للموظفين وخصوصاً بهذا المبلغ الضخم !. إلا أني طلبت من السيدة تقديم طلب رسمي لي وأشرت على طلبها تمنح السلفة خارج نطاق الصلاحيات والضوابط !
أستلمت السيدة المبلغ وسافرتُ إلى فرع الشركة في البصرة وبعد يومين تماماً وانا لازلت في فرع الشركة أتصل بي مدير مكتبي ليبلغني بإعتراض (المفتش العام في الوزارة) على منحي سلفة خارج نطاق الصلاحية و(بأسلوب شديد) تبسمت بإرتياح وطلبت منه تعليق صورة من الكتاب في لوحة الإعلانات وطلبت تعميمه على جميع الموظفين ثم سألته هل أستلمتم الرواتب فأجابني بالإيجاب فقلت له خذ من راتبي وسدد به السلفة .
وبعد رجوعي من البصرة وباجتماع لهيئة المديرين أقترحت تأسيس صندوق تطوعي يساهم فيه من يريد من الموظفين بأي مبلغ كان و تخصص مبالغه لتقديمها للحالات الإنسانية الطارئة التي لا يمكن إسعافها ضمن نطاق الصلاحيات المالية . فكانت أشراقة جميلة ساهم فيها الكثير من الموظفين وتأسيس (الصندوق الإنساني) يشعر من له حاجة فعلية أن هناك من يمد له يده ليساعده ويقف معه في محنته وهكذا تجاوزنا معضلة الصلاحيات بالإنسانيات .
إلا أن قصة الصلاحيات عادت من جديد وبشكل أكبر لتعرقل عمل الشركة من جديد بإعتراضات شكلية تقف بوجه التطور ففي عام 2005م أنتشرت ظاهرة تبليط أرصفة الشوارع بالحجر(البلوك) المقرنص الملون وبصفتي مدير عام الشركة العامة لتجارة المواد الإنشائية فكرت في إستيرادها بمواصفات راقية لغرض بيعها وتسويقها في السوق المحلية العراقية وفي ذات الوقت كان هناك مخزن كبير جداً للحديد قمت بمناقلة خزينه وتصفيره وكان هناك المئات من العاطلين عن العمل من منتسبي المجمع المخزني ومن موظفي الشركة وكانت هناك دعوات لتقليص العاملين في الشركة وتسريح قسم منهم وبمجرد عودتي من أحدى زياراتي للمجمع طلبت من القسم الهندسي إعداد دراسة علمية تفصيلة مع دراسة جدوى أمكانية إنتاج هذا النوع من (البلوك المقرنص) بمواصفات عالية جداً وبسعر تسويقي مناسب .
وخلال فترة معقولة جداً قدم القسم الهندسي دراسته الرائعة وكانت خلاصة تلك الدراسة أن (البلوك المقرنص) الموجود في السوق المحلي غير مطابقة تماماً للمواصفة الدولية المعتمدة . وبامكاننا إنتاج نوع راقي من (البلوك المقرنص) وبمواصفات عالية جداً وبسعر كلفة لا يتجاوز 80 ديناراً عراقياً للبلوكة الواحدة (سعر الموجود في السوق في حينه 250ديناراً) ! وإن المصانع التي يمكنها إنتاج هذا النوع وبمواصفات و بضغط عالي جداً متوفرة ويمكن إستيرادها وأن كلفة الخط الإنتاجي الواحد المتكامل وبطاقة إنتاجية عالية لا يتجاوز الثلاثمائة الف دولار أو أقل من ذلك ويمكن أن يشغل بحدود الخمسين موظف للخط الإنتاجي الواحد وإن المخزن الفارغ مناسب تماماً لنصب أكثر من عشرة خطوط إنتاجية تغطي أكثر من 30% من حاجة السوق المحلية و بإمكاننا أن نبيع البلوكة الواحدة بسعر لا يقل عن 150 ديناراً عراقياً وبنسبة ربح تزيد عن 90% من سعر الكلفة وسيكون مرغوباً لدى المستهلك أكثر من المستورد ويمكنه أن يكون حافزاً للمستوردين على إستيراد مواصفات أفضل وبسعر أقل وقبل كل هذا فأنه دعم لإقتصاد البلد ! .
أسرعت بتقديم هذه الدراسة إلى الوزارة مع مقترح إنشاء مصنع صغير لإنتاج البلوك المقرنص بمواصفات عالية لإستغلال الموارد البشرية العاطلة في الشركة وإستثمار المساحات الغير مستغلة في المجمع المخزني الفارغ على أن تخصص 50% من أرباح المشروع للعاملين فيه كحافز على الإنتاج ونقضي على جزء من البطالة المقنعة ونوفر موارد إضافية للشركة ونخدم إقتصاد البلد!.
وعاد (المفتش العام) من جديد للسعي في رفض هذا المقترح و وأد الحلم من جديد حيث أن (نظام عمل الشركة) لا يسمح بتصنيع المواد التي تتعامل بها الشركة وأن ذلك خارج نطاق صلاحيات عمل الشركة . و واجهني معالي الوزير بهذا الإعتراض القانوني .
فأجبت معالي الوزير أن (نظام عمل الشركة) نحن من وضعناه وأتاح لنا نظام العمل هذا تعديله باجتماع مجلس إدارة الشركة بما يتناسب مع مصلحة الشركة وأنا سأدعوا لإجتماع مجلس الإدارة غداً لمناقشة وتعديل نظام عمل الشركة بما يتيح لنا إستثمار الموارد المتاحة لنا.
وفعلاً عقدنا إجتماع مجلس الإدارة في اليوم التالي وبمعرفة المستشار القانوني والدائرة القانونية تم تقديم مقترح تعديل نظام عمل الشركة بما يتيح للشركة فتح هذا المصنع ؛ وتمت مناقشة المقترح قانونياً وعملياً ودراسة الجدوى ومناقشة مدير القسم الهندسي الذي أعرب عن أسستعداده لتصميم مثل هذا المصنع وبعشرة خطوط قابلة للزيادة إلى أن تصل إلى مئة خط إنتاجي متكامل ! وبالفعل تم التصويت على التعديل المقترح بإجماع مجلس الإدارة وتم دفع المقترح إلى الوزارة لإقراره بموجب القانون .
أستبشر الموظفين خيراً وأن مثل هذا المشروع سيساهم في زيادة أرباح الشركة والعاملين فيها وبالخصوص الموظفين الذين وجدوا أنفسهم عالة على الشركة .
وتناقل التعديل في أروقة الوزارة حتى أختفى في درج (أحدهم) وتم إغتيال الحلم من جديد ولم يسعفني الوقت لإستخراج التعديل وبعثه إلى الحياة وإنقاذه من العقل المتخلف الجامد ومات الحلم! .