كانت مدينتي ميسان ( 365كم جنوب شرق بغداد ) ذات تنوع قومي وديني ومذهبي فهي مركز لجميع القوميات والأديان , هناك الصابئة المندائيون واليهود والمسلمون بجميع فرقهم والأرمن والأكراد والعرب والإيرانيون الذين نزحوا من الأهواز ودزفول طلبا للعيش فيها , حتى أنها ضمت مقبرة رفات الانكليز والهنود الواقعة في – بستان جاني – حينما دخلت قوات الاحتلال البريطاني المدينة عام1914 .
لقد تبخر هذا التنوع الجميل وهاجر من هاجر منهم خارج العراق ومن أجبر على التهجير والنزوح من دياره بسبب التطرف القومي والديني والمذهبي الذي عاشه العراق منذ عام 1968 حتى ألان .. اليوم في عصر الانترنت تغير كل شيء في بلدي .. رجل في الخمسين يراهق , وشاب في العشرين يلحد , وشابة متسولة نازحة تبكي من ظلم داعش , والبعض من الأصدقاء ينصحني بعدم الوفاء لان الجميع يريدني حسب حاجتهم .. إما إنا أتمنى إن أموت قبل الوصول إلى نقطة التفتيش مثلما مات صديقي وهو نائم في هدوء وسلام على العكس من ركاب الحافلة التي كان يقودها سائق متهور وهم يصرخون من الرعب , لأني سوف أرى قناني الخمر يلقى القبض عليها في السيطرة الحكومية بينما الحبوب المخدرة تعبر الحدود الدولية لتباع على الشباب في الأسواق المحلية .
هكذا تسير عجلة الحياة بنا من حزن إلى حزن ومن حرب إلى حرب بعد إن تحولت السياسة إلى تجارة , والدين إلى حزن وبكاء على الماضي , والتنمية والبناء إلى فساد مالي , والانكفاء على الذات والانقياد الأعمى إلى بعض رجال الدين عبادة.
ونحن نرى الظلم والجور يستعر في أوساط المجتمع ويهدد النسيج الاجتماعي بالسقوط والدمار , والحاكمين يدوسون حقوق عموم الناس بأرجلهم وينهبون أموال الشعب بكل ما لهم من قوة , وقادة الدين في بلدي انبح صوتهم من كثرة الكلام والوعظ والإرشاد , لأنهم يعدون الظلم والفساد ذنبا لا يغتفر , والإنسان خلق اجتماعيا بطبعه وتربيته العائلية والمجتمعية .
الطقوس الدينية :
حينما ذهبنا لأداء صلاة الجمعة خلف الشهيد الثاني السيد محمد محمد صادق الصدر( 1943-1999 ) عام 1999م إنا وصديقي وصفي في مسجد الكوفة لا لكوننا من جماعة الإخوان المسلمين الشيعة أو ممن يؤمن بالفكر السياسي الديني كنظام حكم للبلاد والعباد , وإنما من باب المعارضة الوطنية المستضعفة التي تبحث عن مُّخلص عراقي الأصل عربي الجذور وطني التوجه لا يفرق بين قوميات العراق وطوائفه المتعددة .
ولكن هذا المُّخلص الذي بعثته السماء للعراق لم يستمر طويلاً , لقد قتلته زمرة البعث ألصدامي يوم 19/ فبراير / 1999بدم بارد دون معرفة التفاصيل… حينها وكعادتنا إنا وصديقي وصفي ذهبنا يوم الجمعة لأداء صلاة الجماعة في جامع حي الحسين وسط مدينة العمارة / محافظة ميسان, لكن هذه المرة وجدنا جنود يرتدون بزاة عسكرية ووجوهم غير عربية كأنهم من بلاد القوقاز.. اعتقدت في البداية أنهم من أخوتنا الكرد لكن زميلي صحح لي وقال هؤلاء من الإخوة الايزيدين جندهم صدام لقتلنا وليس بقلوبهم رحمة, عندئذ عدنا إلى بيوتنا بعد سماع دوي أطلاقات نار بين بعض الشباب المعترضين على إلغاء صلاة الجمعة الجماعية وبين قوات الأمن العراقية راح ضحيتها العشرات من أبناء المحافظة الإبطال.
وفي أيامنا هذه المواطن العراقي مشغول أيضاً بالطقوس الدينية………. الدين الذي لا علاقة له بالكتب السماوية إنما هو مجرد أداء طقوس متعارف عليها بين أفراد المذهب الواحد تتقبلها الأكثرية المطلقة منهم بكافة سلبياتها وايجابياتها حتى الذين يأخذون الرشوة من الآخرين لا يهمهم دخول النار التي وعد الله بها المرتشين لان المهم عندهم أداء الصلوات الخمسة سواء كانت مقبولة من الله أو غير مقبولة , لكن في الحقيقة إن ما يميز المجتمع الشيعي خصوصاً عن بقية المجتمعات الإسلامية هو أن أجيال المجتمع الشيعي قد تربت وكبرت مع حادثة عاشوراء , المهم عندهم البكاء واللطم وبقية الشعائر المتداولة وهم يسيرون من محافظات الوسط والجنوب إلى كربلاء الحسين سيرا على الإقدام , ما دام هو يأكل ويشرب وينام مجاناً ويذهب عند الانتخابات البرلمانية والمحلية لينتخب السياسي من أبناء جلدته لأنهم شجعوهم على هكذا طقوس ورفعوا معنوياتهم الدينية غير أبهين بما سرقه بعض هؤلاء من أموال .
لقمة العيش :
جعلت أفراد المجتمع يعانون من مشاعر الخوف واليأس والقلق والغربة , وهي ما يفكر بها الجميع بعيداً عن السياسة سواء جاءت بالحلال أو الحرام المهم أن يقوم رب الأسرة بتربية أطفاله ومن ثم الذهاب إلى بيت الله ليغفر الله ذنوبه كما يعتقد وهو لا يعرف إن الدين يحكم العقل والقلب والعواطف الدينية تقلل من طموحات الإنسان المادية وتجعل بينه وبين الرذائل سدا منيعا .
الأعراف القبلية :
اليوم أكثر تأثيرا من مفعول الدين على المجتمع العراقي فهي : تجمع أبناء القبيلة الواحدة على الشر أولا ثم الخير أن وجد وتؤصل فيهم الغلو والإفراط والتفريط بحقوق الآخرين والتمرد على الدولة التي تطلق النار فوق الرؤوس عند حدوث نزاعات عشائرية بعد أن ترسل قوات رمزية لحل تلك النزاعات المتجذره في نفوس وعقول بعض شيوخ العشائر من الأميين والمتخلفين ثقافيا واجتماعيا .
ما بعد التغيير :
لقد نجحت القوى السياسية في العراق بعد عام 2003 في سنّ قوانين برلمانية عدة، اعتُبرت مشاريع سياسية خاصة فُصّلت على قياس هذه الأحزاب ومصالحها، وفي الوقت نفسه اتُهمت بتأسيسها لطبقات داخل المجتمع العراقي، تمتاز بحقوق مالية وقانونية ومدنية أعلى من باقي العراقيين.
ويتمتع عشرات آلاف العراقيين وأسرهم بامتيازات لا تتوفر لدى باقي العراقيين، وهي امتيازات مالية عبارة عن مرتبات شهرية والمفاضلة في التعليم والتوظيف الحكومي وحتى جوازات السفر التي بالعادة تكون “دبلوماسية” أو “خاصة.
لنعلم أننا لسنا آلات صماء أو حيوانات عجما , وإنما الإنسان مخلوق ادمي له وجدان وشعور وحياة وعقلية أو سمها أذا شئت نفسية آو روحية , وهي قوة مستترة غير منظورة وينبغي أن نحافظ عليها .
وأخيرا المهم أن نستعيد شبابنا في العراق الجديد والأجدى أن نحتفظ به فتطول مرحلته .. ولكي يطول عمرك فكر في التخلص من الحاكم الظالم الذي جاء به الأجنبي ودول الجوار كي يحكمك رغم الانتخابات والديمقراطية المزيفة كهواية وقتية تشغلك وتقلب وقتك المتبقي إلى نار وشرار بدلاً من أن تحوله إلى بهجةً وسروراً ونشاطاً .