18 ديسمبر، 2024 5:48 م

مدينة الهيثم الغريبة والغارقة في الفوضى

مدينة الهيثم الغريبة والغارقة في الفوضى

غريب أمر هذه المدينة الكبيرة ، لأنها لاتحب أبنائها مثلما يحبها ابنائها ، وعلى حد قول احد أصدقائي فقد كانت أشبه بعاهرة !، ولاشيء يستحق ان نحبه اكثر مما ينبغي ، وعلى حد قوله ايضا اينما تكون فهذا شيء مفروض عليك ويجب عليك التعايش معه ، لاان تحبه ولا ان تكرهه!!.
وعليه فان هذه المدينة التي عاشت منذ اكثر من الف سنة تقريبا وعاش فيها الصعاليك والامراء واللصوص والشعراء والعاهرات والفلاسفة والمماليك والجن وحدثت فيها الكثير من الاحداث السعيدة والمؤلمة والعجيبة فلقد استوطن السحرة والمتآمرين على السلطة في بقاعها حتى اضطر النهر الى تغيير مجراه مرارا عديدة وبقى امرها غريبا مستغربا اذ ان اسمها لم يتغير على مدى الزمان وبقى مرتبطا بالسحر فهي بغداد او مدينتي الغريبة والغارقة في الفوضى.
عاش فيها العيارون و الشاطر حسن الذي امتهن السحر واشار الى النجم القطبي ولم يكن يعني السويد طبعا وكلما كان يحلم هذا الشاطر حسن تزداد الجنية اقتناعا بأن تفسير احلامه يقف امام العقل والمنطق فلابد ان تفسر على اساس غير عقلي وغير منطقي ، والجنية التي رافقها لم تستطع ان تمنحه الامان في هذه المدينة الكبيرة لانها تشعر بالغربة، فهي غريبة في مدينة غريبة ولم تستطع منع الشر مع كل مالديها من القوة والمعرفة!.
شر يجري مثل النهر ويغير مجراه في كل لحظة وفي الظاهر الذي اولع البعض في تفسيره كان العبث اللامتناهي مسيطرا على مجريات الامور وفي الباطن كان ابو المغيث ابو الحسين بن المنصور الحلاج البغدادي يصرخ بأعلى صوته ( معنى الحقيقة حيرة ، معنى الحقيقة شيء لاتغيب عنه الظواهر والبواطن ولاتقبل الاشكال فان اردت فهم مااشرت عليك فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك لان الحق لايطير ) والشر من الاسرار والسحر من الاسرار والغيبة من الاسرار والناس يزدادون اقتناعا بان لحظاتهم محشوة باسرار كثيرة وانواع عديدة من الاسرار فهم يعيشون بمدينة كبيرة تكتنفها الغرابة وغارقة في الاسرار!.
لعل الجنية اشارت الى قرة العين ان تذهب الى بغداد لكي تلتقي خوزيه الاكوادوري وماركيز والحلاج وسارتر والهيثم ولم يزعجها ان ترى الطيور تصاب بالاعياء وتسقط على الارض وراقبت باندهاش بالغ رصاص منهمر وغزير رغم ان الجو كان حارا في تلك اللحظة الا أن خوزيه الذي كان مطرقا براسه الى الارض شعر بان الحلاج يمكن ان يقتل في اية لحظة يشائها بينوشيه ، هذه اللحظة التي غابت عن ذهن سارتر حينما عقد صفقة مع الهيثم اشارا فيها وبوضوح الى ان هذه المدينة بحاجة الى معجزة من الرب لكي تنسى حزنها المفجع !.
وبمرارة رفع الهيثم يده الى السماء ودعى الله بارتباك واظنه كان يقول في سره ان الله سيفهم مايريد وخشعت الجنية حتى قيل ان المدينة كلها قد اصابها الخشوع في تللك اللحظة النقية والبيضاء وقطع ماركيز كل هذا الخشوع عندما قال : انا اشعر بالخوف والعطش اسقوني خمرا ، وصاح الحلاج في السوق الكبيرة بين الناس الذين تجمعوا مذهولين لكي يشاهدوا ماسيحصل ( ياأهل الاسلام اغيثوني فليس يتركني ونفسي فآنس بها وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها وهذا دلال لااطيقه )
ازداد اقتناع الهيثم باحلامه التي يمكن ان تكون مخيفة للاخرين ، انها تخيف حتى الحيوانات وصدّقته قرة العين وقالت هناك مدن كثيرة ففي باريس مثلا يمكنك ان تسير دون ان يفتشوا احلامك او بروكسل ، لماذا لاتحمل احلامك وتذهب الى بروكسل ؟ واندلع جدال عنيف بين الهيثم والحلاج واعدّ سارتر عربة تجرها ستة جياد اصيلة وقال انها ستواصل طريقها الى المدن التي تريد وبأمكانك ان تحمل معك الآف الاحلام ، ورفض الحلاج ولم تتحرك الجياد خطوة واحدة الى الامام وتسمرت في مكانها فقال الهيثم : أشفق علي ّفأنا أفتش عن مأوى لاحلامي ومدينتي لاتجد مأوى لنفسها ، اشفق عليّ ، واغلق ماركيز الباب وشتم المدينة وقال انها مدينة غريبة وشحب وجه قرة العين واحمرّت عيناها وقالت لاتكن سخيفا واغلقت بابا كبيرا جدا كان مفتوحا على مصراعيه فقال سارتر للجنية بتذمر : خذي معك هذا الرجل الاكوادوري المسمى خوزيه وارميه في قعر المحيط لان لايحمل سنتا واحدا في جيبه وهذه مدينة غريبة فأجابه الحلاج ( من فرّق بين الكفر والايمان فقد كفر ومن لم يفرق بين الكافر والمؤمن فقد كفر).
في هذه الغرفة المضاءة توجد مائدة واحدة واربع كراسي وكانوا يرقصون ، فالذين رايتهم كانوا اربعة في هذه المدينة التي غرقت في فوضى معتمة فيما تأمل قرة العين ان تلبس ملابس بيضاء مع حذاء جلد ابيض ووافقها الجميع باستثناء ماركيز فقال الهيثم : ان مدينتي لاتفهم الان غير العنف لانها تدفع ثمن بقائها ، وأنهمر الرصاص فجأة رغم أن الجو كان حارا في تلك اللحظة وسال الدم غزيرا فقالت قرة العين برعب وهي تخاطب سارتر : استخدم نفوذك لدى الحكومة لكي نغادر المدينة فورا، فهدأ سارتر من روعها وهو يتحدث بالفرنسية ودون ان ينظر اليها قائلا : يجب ان نغادر فعلا!.
بقى الهيثم في الغرفة وحيدا مع ظل منطفىء قيل انه كان الحلاج الذي رقص حتى ارتفعت قدماه عن الارض وهو يقول : من اطلعوه على سر فباح به
لم يأمنوه على الاسرار ماعاشا
وعاقبوه على ما كان من زلل
وابدلوه مكان الانس استيحاشا.

من مجموعتي القصصية #احيانا وبلا معنى الصادرة عن دار الشؤون الثقافية 2017