اليهودي يعقوب كوهين آخر يهودي غادر الناصرية بعد أن ظل ملتصقا بطين الفرات القريب بأمتار من الخان الذي يملكه . مقابل خان التمر الذي كان يملكه المرحوم كاظم مخيفي والمرحوم الحاج جمعة فليح ، وكذلك محلات المرحوم يوسف النصر الله.و يعقوب كوهين الذي سكن الناصرية وربما ولد فيها منذ أن اصبحت حاضرة مدينة حين اسسها الوالي العثماني مدحت باشا ، واقام فيها متصرفها ناصر باشا السعدون أول حكومة مدنية ، يعقوب كوهين والمعروف بـ(أبو مير) ترك خلفه ما عرف بـ(خان النيدي) حيث كان يتاجر ببيع وشراء الصوف ولديه علاوة على ذلك (بودقة التيزاب) التي يجهز من خلالها صاغة الذهب من الصابئة المندائيين بمادة التيزاب (حمض الأسيد أو ماء النار) وتستخدم في جليّْ الذهب. وتنظيفه من الشوائب.
كنا صغارا في نهاية ستينيات القرن الماضي ، وكان اليهودي يعقوب كوهين يجلس أمام الخان عندما نمر أمامه بعد انتهاء عروض الافلام في سينما الاندلس حيث يقع الخان منتصف الطريق بين السينما وقيصرية القماش ، وكان يجلس على كرسيه بوجه متجهم ونظرات من شيخوخة قاسية ويبدو أنه كان يعيش وحيدا ، ومن اسرار حياته الشخصية أنه كان في اشتياقه لمن يؤنس ليله بشوق رجل لأنثى يسافر الى البصرة ويقضي بعضا من حاجة مع يهودية تعمل نادلة في واحد من ملاهي البصرة ، وفي الآخر ربما قرر ان يقضي اخر ايام شيخوخته وترك الناصرية وهاجر الى البصرة ليموت هناك قرب التي كانت تؤنس فيه وحده في ذلك الخان المظلم .لم تكن تعجب الاطفال تلك النظرة المتجهمة ، وكنا ننظر اليه بخوف ونحن محملين ببعض اساطير الخوف من اليهود والتي كنا نسمعها في درس التربية الوطنية من انهم قساة وسلبوا فلسطين ، ولم يتجرأ أي معلم ليقص لنا حقيقة وجودهم المؤثر في حياة المدينة ودورهم في بناء المدينة وصنع ذاكرتها الحضارية الاولى ، بالرغم أن معلم الوطنية كان معلمه يهوديا وهو ( سلمان كوهين ) وهو من اهدى اليه اول كتابا تنويريا ليقرأه وكان الكتاب للاديب والفيلسوف المصري سلامة موسى.أتذكر يعقوب كوهين بأنفه المعقوف وسدارته السوداء ، وكنا نشبهه بسدارة نوري السعيد وكان الفتيان الكبار منا ينادون عليه : نوري السعيد طار ، وانت بعدك حاط .
وكان يرمقهم بنظرات حادة وصامته وربما اراد ان يذكرهم أن كانوا يفقهون أن اليهود اتى بهم نبوخذنصر الى بابل قبل ان يولدونَ وأبائهم.
يجلس كوهين على كرسي من الخيزران ، ولايقوم منه ، وعندما يأتي احدهم لشتري فحما او تيزايا كان يقبض الثمن ويوميء لعامل لديه من الحمالين ليجهز المشتري ويبقى طوال الوقت يتفحص بعينيه المادة المباعة ليتأكد ان لا يجهزه الحمال بكمية اكبر مما دفع ثمنه.
غرابة جلسة يعقوب كوهين أن الذي فوق رأسه هو جدارية من الجبس بطول متر بمتر هي للمشير عبد الكريم قاسم وفيها موضوعة ثورية عن انبثاق ثورة تموز 1958 . وقد تم تخريبها بحكها بشفرة من الحديد خلال احداث شباط 1963 .لكن ملامح الجدارية وشيئا من بدلة الزعيم العسكرية بقي منها ، وكنت اظن ان جلوس كوهين تحت جدارية للزعيم لم تأثر في مزاجه من شيء ، اذ لم يكن لثورة تموز موقفا عدائيا وان التهجير تم في اغلبه في عهد الحكم الملكي.
بين سدارة الزعيم وسدارة يعقوب كوهين آخر يهودي غادر مدينة الناصرية يحفر الزمن تواريخ فيها الكثير من اللذة والغموض والاسرار ، غير ان حقيقة واحدة بقيت تتعلق تحت رموش المدينة ، أنها كانت عشا دافئا لكل البشر والاقليات والقوميات من العربي الى الفارسي والتركي واليهودي والافغاني والكردي والمسيحي واليزيدي .
كلهم عاشوا هنا … وبقيت فاصلة الزمن البعيد تؤشر لأجمل ذكرياتنا معهم…….!