في مركز إحدى المدن الكبيرة كانت تنتصب شامخة (مدرسة العدل)، وكان يعمل فيها مدرساً للغة العربية أحد المدرسين المتميزين المستقيمين الحريصين على أداء واجبهم المقدس على أكمل وجه، فهو يجتهد بتحسين واقع الطلبة وتدريسهم بأسهل الطرق وأنجحها وأنجعها وإلهامهم فرص النجاح لبناء مستقبلٍ أفضل رغم الظروف الصعبة في المدرسة التي تعد من أفضل المدراس في المدينة حيث قلة الخدمات فيها وعدم وجود دورة مياه لائقة وعدم وجود صف دراسي منظم حيث الأعداد كبيرة داخل الصف الواحد بل كبيرة جداً والرحلات الدراسية غير كافية وغير مريحة والمدرسة تفتقر لأغلب متطلبات المدرسة الحديثة الواجب توفرها من لوازم تدريسية ووسائل إيضاح ونظافة تليق بمدرسة تخرج أجيال المستقبل وكذلك عدم وجود حديقة وقاعة رياضية وكافتريا ومختبرات وساحات وقاعات ومعارض وغيرها من متطلبات المدرسة الحديثة.
كان المدرس هذا على خلاف مع مدير المدرسة الذي يريد أن يطبق ما تشتهيه نفسه فهو يجامل أولياء أمور الطلبة من معارفه ويتلاعب بدرجات بعض الطلبة ويميز معارفه عن غيرهم ولو كانو أغبياء وبغض النظر عن الاعتبارات الأخرى كمستوى الطلبة ومستقبلهم وواقع التعليم، فكان مدرس اللغة العربية هذا يقف نداً لهذا المدير الظالم (الأعوج) ويعارضه في خططه، حيث لعنة الكرسي تطارد كل من إمتطاه، بغض النظر عن نوع هذا الكرسي الذي يُسمى كرسي الأدارة، سواء كان كرسي الحكم والوزارة والأدارة العامة أم كرسي إدارة مدرسة.
ولأنه مدير فصوته مسموعٌ أكثر في مديرية التربية فمعارفه هناك أكثر، وأما مدرس اللغة العربية هذا فهو مدرس بسيط يؤدي واجبه بمدرسة وذلك مدير وتلك مديرية، فذهب المدير للمديرية لمقابلة المدير العام يشكو من سوء سلوك وتجاوزات مدرس اللغة العربية وأتهمه باتهامات أخرى حتى لا يبقى مجال للدفاع، فالتهمة وحدها لا تكفي وإنما ينبغي إضافة بعض البهارات عليها كي تصبح طبخة مقنعة.
طبعاً المدرس لا يعلم بذلك، فهو باقٍ بالمدرسة يؤدي واجبه.
على الفور كتب المدير العام على المطالعة التي قدمها مدير المدرسة شاكياً فيها قلة أدب المدرس وتجاوزه عليه، ومن دون إستدعاء المدرس المتهم، حيث تضمنت كتابته أمراً بنقل مدرس اللغة العربية لمنطقة نائية، هي منطقة (الأعيوج) حيث مدرسة (الأعيوج) والتي تبعد عشرات الكيلو مترات عن مركز المدينة التي فيها مدرسة (العدل).
عاد مدير مدرسة (العدل) لمدرسته متبختراً مبتهجاً نافخاً صدره مُدلياً بطنه كاشفاً عن كرشٍ مترهلٍ عريض، ومفرجاً في مشيه بين فخذيه علّ الغازات تخرج من بينهما فيطير فرحاً…!!
قد تحقق له ما أراده بأن يسحق رأس المدرس الذي يعانده فها هو فرِحٌ بتحقيق خططه متحدياً كتاب الله الذي علقه على رف الكتب من خلفه كزينة معلقة كما يفعل الكثيرون، حيث في الاية (37-39) من سورة الأسراء قوله تعالى:
(ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها * ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).
ومعناها أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً، كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال فلا يحصل على شيء، فهو أدب نفسي واجتماعي بضرورة التواضع وترك التكبر جانباً فالتكبر والعُجب والخيلاء سمة فارغ العقل صغير القلب وقليل الاهتمامات، يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته, ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه، وفي الحديث: (من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير).
يواضب على هذا التباهي والتكبر الكثيرون ممن يعلقون ايات وصور ورموز دينية وسياسية في محال عملهم ولكن أدائهم لواجباتهم وأعمالهم ووظائفهم يخالف كل ما علقوه فهي مجرد زخرف ورياء ونفاق.
وعودةً على ذي بدء، فقد أعطى مدير المدرسة المدرس المسكين الورقة التي فيها مطالعته وفي هامشها أمر المدير العام بنقل مدرس اللغة العربية من مدرسة (العدل) إلى مدرسة (الإعيوج)، وكان نص أمر المدير العام:
(يُنقل إلى الأعيوج كي يستقيم)…!!
وكلمة (الأعيوج) في العامية تصغير لكلمة (أعوج).
أخذ المدرس الورقة وضحك من تهميش المدير العام (يُنقل إلى الإعيوج كي يستقيم)، ضحك على حاله ومآله وما آل اليه الوضع والقانون والأخلاق والمسلك الوظيفي، فكتب تحت تهميش المدير العام بيتاً من الشعر ساخراً من مدير المدرسة والمدير العام والمديرية ووزارة التربية، فكتب يقول:
وفي (العدل) سنينٌ ما إستقمنا…فكيف بـ(الإعيوج) نستقيمُ
أي إذا بـ(العدل) لم تُستَحصَل الأستقامة والعدالة فأستقيم فكيف بـ(الأعيوج) (الأعوج) تأتي الأستقامة والعدالة.
أعطى المدرس المسكين الورقة لمدير المدرسة (الأعوج) وطلب منه أن يبعث بها للمدير العام ويبلغه تحياته وإنصياعه للأمر الأداري، فهو يؤدي واجبه حيثما كان ومهما كان.
القصة رمزية وكل لبيب بالأشارة يفهمُ، والتلميح أبلغ من التصريح.