23 ديسمبر، 2024 6:11 م

مدى استقلالية القضاء العراقي .. تساؤلات وحقوق مشروعة

مدى استقلالية القضاء العراقي .. تساؤلات وحقوق مشروعة

تعقيبا على ما اوردته وكالات الانباء ووسائل الاعلام والمواقع الالكترونية مؤخرا حول التشكييك بنزاهة القضاء العراقي بدءا من مراحل التقاضي الى صدور الاحكام القضائية وكيفية تنفيذها مرورا بمدى استقلالية القضاة انفسهم  وحياديتهم في اصدار القرارات الامر الذي ادى الى اتخاذ الانتربول الدولي قراره بوقف تعامله مع القضاء العراقي . واختلاف وجهات نظر الكتاب والقانونيين وانقسامهم ما بين مؤيد ورافض لهذا التصنيف للقضاء العراقي  .واعاد الى ذهني وانا اتصفح تلك المواضيع واتمعن قراءة مابين السطور ذلك السؤال الملح ترى الى اي مدى السلطة القضائية مستقلة في العراق ؟
ان المتابع للشان القضائي العراقي يلاحظ التسييس ومدى التخبط وعدم الوضوح في اصدار القرارات والاحكام القضائية وانا هنا لا اقصد القضايا الشخصية والمدنية وتلك التي لا تتعدى حدود طرفي التقاضي , انما تلك القضايا التي تتعدى حدودها طرفي النزاع الى المساس بنظام المجتمع وبامنه واقتصاده كقضايا الارهاب والابادة الجماعية من قتل وتهديد واختطاف وتهجير وقضايا الاقتصاد والخدمات والفساد الاداري والمالي وطريقة التعاطي مع تلك القضايا بدءا من كيفية اصدار اوامر القاء القبض ومراحل التحقيق الاولى الى كيفية تنفيذ الاحكام القضائية  وانواع الضغوط والانحياز الواضح لجهات سياسية وحزبية مهيمنة على حساب جهات اخرى وكثرة المعتقلين في السجون والمعتقلات العراقية دون محاكمة او تحقيق لفترات طويلة وهروب الجناة وافلاتهم من قبضة العدالة وتركهم احرار طلقاء مع توفر الادلة والبراهين ,  فلم نر في اغلب تلك النزاعات ادانة قضائية التي غالبا ما تجيير لمصالح سياسية وحزبية .. وغيرها من الامور التي اصبحت تسيء الى نزاهة السلطة القضائية واستقلاليتها وتصفها بعدم الحيادية و غلبة الجانب السياسي على الجانب القانوني والشواهد والامثلة كثيرة .
اما الحديث عن استقلالية القضاة وحياديتهم فقد اصبح كمن يتحدث بسذاجة او لا يفقه حقيقة الواقع الذي يعكس حقيقة المصالح السياسية التي اصبحت فوق كل اعتبار . فهل نتحدث عن عجز القضاة عن حسم الخلافات والصراعات والنزاعات واسترجاع الحقوق الذي لم يعد مساره ساحات القضاء بل انجرف الى ديوان الوجهاء ورؤساء العشائر ام نتحدث عن الضغوط التي يتعرض لها اغلب القضاة المستقلين والتهديد المباشر لهم بانفسهم وبممتلكاتهم والتي راح العديد منهم ضحايا الارهاب والاعتداءات ام نتحدث عن زعزعة الثقة باغلب الاحكام والقرارات لغلبة الجانب السياسي وتسييس القضاء ؟؟؟
هذا الامر حفزني لان اطرح ظاهرة استقلال السلطة القضائية للنقاش وبالتحديد مدى استقلالية مجلس القضاء الاعلى سواء في حكومة المركز في بغداد ام في اقليم كردستان في اربيل في اختيار القضاة وتعيينهم من اجل تشخيص مواضع الخلل ونقاط السلب والعمل على تجاوزها الى مستوى وضوح الرؤيا التنظيمية .
لا يخفى ان القضاء من اقدس المهن وانبلها وهي عماد الدولة وهي السلطة الثالثة فيها لما لها من دور خطير في واجباتها  . وتحرص جميع الدساتير على استقلال القضاء لضمان نزاهته وعدالته , فالمادة 19 من الدستور العراقي النافذ لعام 2005  تنص على ان  ” القضاء مستقل لا سلطان عليه غير القانون ” لان القضاء سلطة مستقلة بذاتها و ان المادة 98 من الدستور منعت كل من القاضي وعضو الادعاء العام من  الجمع بين السلطة القضائية والتشريعية او التنفيذية او اي عمل اخر او الانتماء الى اي حزب سياسي لضمان حياديتهم وابعاد القضاء عن التسييس او التدخل السياسي والوقوف على مسافة واحدة من اطراف التقاضي .
ففي السابق وقبل تشكيل المعهد القضائي , كان التعيين بصفة قاضي  يتم لمن كانت له ممارسة في العمل القضائي سواء بصفة موظف حقوقي في احدى الدوائر العدلية او من كان محاميا مدة لا تقل عن 10 سنوات مع خبرة ومقدرة وممارسة فعلية في التعامل مع القوانين والانظمة وبعد اجتياز اختبار الكفاءة  التي تجريها وزارة العدل , وكان قرار التعيين يصدر بمرسوم جمهوري بناء على اقتراح وزير العدل , وهذا كان يعني التدخل في اختصاصات السلطة القضائية من قبل السلطة التنفيذية خلافا لمبدا الفصل بين السلطات الدستوري . فكان القضاة مشهود لهم بالعلم والكفاءة والنزاهة  .
وبعد صدور قانون المعهد القضائي الذي بموجبه تم تشكيل هذا المعهد لتاهيل القضاة وممثلي الادعاء العام للعمل في المحاكم على ان يكون المتقدم للترشيح للقبول في المعهد له ممارسة في العمل القانوني والقضائي بما لايقل عن 3 سنوات من حين تخرجه ودراسة نظرية وتطبيقية مدة سنتان في المعهد ليتخرج الطالب قاضيا., وكان من اهم شروط القبول في ذلك المعهد هو ان يكون الطالب مؤمنا بفكر وايديولوجية الحزب الحاكم , ما يعني ان المعهد المذكور كان يستبعد من كان لا يؤمن او ان اتجاهه يتقاطع مع ايديولوجية النظام الحاكم . لان النظام كان يسعى الى نشر رجاله ومؤيديه في كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها للسيطرة عليها لهذا كان اختيار المناصب والوظائف العامة بما فيها القضاة وممثلي الادعاء العام يعتمد اساسا على اهل الثقة والمقربين من النظام , حتى غلب على جميع المسؤولين في مفاصل الدولة بما فيهم القضاة وممثلي الادعاء العام الانتماء السياسي والتنظيميي لفكر النظام حيث التعيينات لا تكون فيه الا كمكافاة للمؤيدين والموالين وليس لاهل الخبرة والعلم . كما كان النظام السابق يمنع من كان من غير المسلمين في تولي مهمة القضاء وكان يضيق ويضع العراقيل والقيود امامهم للقبول في المعهد القضائي لمنعهم من التقديم حتى ولو كانوا من اهل الخبرة والمقدرة ,  فكان من النادر ان نجد قاضيا مسيحيا الا ما نادر وما كان موجود منهم كان لا يتعدى اصابع اليد الواحدة في عموم ساحات القضاء العراقية  .اما من كان يزيديا او صابئيا فكان محرما عليهم اساسا تولي منصب القضاء حتى ولو كان قاضيا في امور احوال ديانته الشخصية حصرا , لان هؤلاء وحسب الفكر الاسلامي الشرعي ليسوا من اهل الدين ولا الكتاب وبالتالي لا تجوز لهم الولاية العامة شرعا حتى في امور التقاضي باحوالهم الشخصية .
 وهذا ما اثبت فشله في بلد يتميز بتنوعه السياسي والثقافي والاجتماعي والقومي والديني لانه اوجد طبقة من المنتفعين التي استولت على مقاليد القضاء واخذت تؤسس لطبقة جديدة من القضاة تفتقر الى الاسس والقواعد السليمة في الاختيار  .
بعد 2003 الذي كان يفترض فيه ان يكون بداية لتاسيس الدولة المدنية الديمقراطية الحرة وسيادة مبادىء الدستور في المساواة التامة بين المواطنين في تولي الوظائف العامة دون تمييز بسبب الجنس او الدين او المعتقد , الا ان الوضع لم يتغير عما كان عليه في الانظمة السابقة هذا ان لم يكن كان يسير باتجاه الاسوأ . فالايديولوجيات السياسية والدينية وهيمنة الفكر الاسلامي الشرعي بقت تحكم المشهد العام من ناحية التقرب من السلطة ومن رجال الدولة ومنع غير المسلمين من تولي الوظائف العامة ومنها منصب القضاء .
وحتى بعد ان تم تشكيل مجلس القضاء الاعلى الذي يفترض به ان يكون جهة قضائية مستقلة لانها تضم خيرة العقل التشريعي والخبرة القضائية  والذي اصبح من اختصاصه  تعيين القضاة حصرا بعيدا عن تدخل سلطة وزارة العدل التنفيذية الا ان الامر استمر كما كان عليه لا بل زاد الامر تعقيدا بانبثاق فكرة المحاصصة الطائفية  الذي حول مجلس القضاء الاعلى الى مجرد مجلس لتكريم رجال النظام الجديد عبر تعيينهم في هذا المجلس وهو ما يجعلنا نشكك في اعتماد اهل العلم والخبرة  .
 والقضاء كغيره من مفاصل الدولة اصبح هو الاخر خاضعا للمحاصصة الطائفية ومقربا من النظام الحاكم ولا يعين بمنصب القاضي او الادعاء العام الا من كان مدعوما من قبل جهة او حزب سياسي دون اعتبار للكفاءة والخبرة والمقدرة  . فهناك تيار يقود المجلس الى نزعة تدين خطيرة تعمل بالضد من الدولة المدنية ومن الديمقراطية  الحديثة وتسعى الى تطبيق الشريعة الاسلامية واحكامها بما يمهد لحكم دولة دينية ضاربة عرض الحائط مبادىء الدستور في المساواة في الحقوق والواجبات العامة التي لا تمييز بين مواطن واخر بسبب الجنس او الدين او المعتقد او العمر او الاصل او العرق او اللغة ,هذه مبادىء عالمية لا يمكن التغاضي عنها مهما كانت الظروف , وبالتالي فان اغلب القضاة هم من الموالين المسييسين حزبيا وتنظيميا لهذه الجهة الحزبية او تلك .
ولم يقتصر الامرعلى مجلس القضاء الاعلى في بغداد المركز بل امتد الامر الى مجلس القضاء الاعلى في اربيل الذي كان يوصف بكونه بعيدا عن التاثيرات الدينية المسيسة  , الا انه يبدو استسلم هو الاخر لادوار مسلم لها كما في حكومة المركز مما زعزع الثقة باستقلاليته وبنزاهته .
 فالاعضاء المعينيين في المجلس هم ممن لديهم اعتبارات حزبية وسياسية ومدعومين من قبل جهات سياسية وحزبية وهي ليست بعيدة عن الضغوط السياسية وليس على اساس الاستحقاق المهني .
وبنظرة سريعة على الاسماء الموجودة في المجلس والتي لها كامل التقدير والاحترام  نجدهم اما من هذا الحزب اوذاك وكلاهما ممن يمثلان النظام  . والمجلس في تشكيلته الحالية هو مجرد ديكور سياسي للنظام وهم من فصيل سياسي واحد . ارجو ان لايفهم من كلامي هو التقليل من شان الاسماء الموجودة بل اعتراضي انما على الاسلوب والطريقة في التعيين فاغلبهم وليس جميعهم  ـ كي لا نتجنى على احد ـ هم من متصدري المشهد السياسي ومن المؤيديين للنظام السياسي اما من كان ولائه اقل او مستقل فهم من المستبعدين . وهذا ليس مجرد كلام انشائي وحتى لا تكون مداخلتي مجرد كلام سطحي اورد مثالا حيا على ذلك .
عند اول تشكيل لمجلس القضاء في اربيل والاعلان عن بدء التقديم  بطلبات التعيين للقضاء في عام 2008 استبشرت كما استبشرغيري بهذا القرار  لان التقديم الى مجلس القضاء في بغداد كان بالنسبة لسكنة مناطق الاقليم عملية شاقة وتستنزف الكثير من الجهد والمتابعة والوقت , فالشروط جميعها كانت مستوفية عندي , اما الخبرة والكفاءة فانا لا ادعيها بل تشهد عليها مجموعة القضايا والدعاوى التي ترافعت عنها خلال عملي في المحاماة وبما لاتقل عن 10 دعاوى لكل سنة التي زادت عن العشرين عاما وقدمت طلبي مستوفيا للشروط وبدعم في حينه من المجلس الروحاني اليزيدي (الايزيدي) لان الحاجة كانت ملحة لانشاء محكمة خاصة لاحوال اليزيدية ( الايزيدية ) وباشراف قاضي يزيدي (ايزيدي ) النية كانت في ذلك في اتجاه انشاء محكمة خاصة لامور اليزيدية ( الايزيدية ) في الشيخان وعدم وجود قاضي يزيدي ( ايزيدي )  يملك من الاطلاع والالمام الكافي  بقوانين واحوال اليزيدية (الايزيدية ) من حالات الزواج والطلاق والنسب والميراث وغيرها . فكنت المرشحة الاولى والوحيدة لذلك المنصب , وبعد طول انتظار وتهيئة المستلزمات المطلوبة لاداء الاختبار لان قبولي وحسب التسريبات التي جاءت من المجلس كان في حكم المؤكد .  الا انه في اخر لحظة وفي يوم الاعلان عن اسماء المقبولين للدخول في منافسة اداء الاختبار فوجئت بعدم ادراج اسمي فقد تم ابعادي حتى من الدخول في المنافسة لاداء الاختبار بعد ان كانت المؤشرات تدل على التاكيد على تعييني بصفة قاضي حتى دون الحاجة لاداء الاختبار الذي كان مجرد اداءا روتينيا .
فكان قرار مجلس القضاء هذا بمثابة اطلاق رصاصة الرحمة على طلبي  ولسبب لم يكن مندرجا حين تقديم الطلبات الا وهو (شرط العمر ) الذي يجب ان لايتجاوزال50 عاما  ؟؟؟؟؟؟ بينما حين التقديم لم يكن من بين الشروط ما يشير الى شرط العمر , ولكن يبدو ان هناك عوامل اخرى لم ترق لمن بيدهم القرار منعت من ادراج اسمي بقائمة المنافسة فتم ابعاد اسمي حتى من المنافسة , ولم يكن هناك اي سبب يدعو لعدم قبول طلبي فاستحدث هذا الشرط في حينه لاستبعاد طلبي . فكانت خيبة امل كبيرة ليس بالنسبة لي فقط بل بالنسبة للمجلس الروحاني ايضا الذي وقف حائرا لا يدري كيف يدعم ترشيحي لهذا المنصب المهم والحساس والضروري لشريحة واسعة من سكان الاقليم الذي يمتد ليشمل القرى والاقضية التابعة لقضاء الشيخان والتي يسكنها غالبية يزيدية ( ايزيدية ) وبحاجة ماسة لقاضي يزيدي يفصل في امورهم واحوالهم الشخصية .
ثم الم يكن بالامكان ان تكون هناك بعض المرونة بالنسبة لشرط العمر مقابل الكفاءة والخبرة الطويلة في هذا المجال ؟؟؟ ما قيمة السنة الواحدة لرفض الطلب ؟ مالفرق بين ال50 وال 51 ؟؟ ثم ما ذنب من تجاوز سن الخمسين بسنة واحدة كي يحرم من التعيين ومنطقته بامس الحاجة الى اختصاصه ؟ ثم اليس من الانصاف ان يكافىء من عمل اكثر واكتسب خبرة قانونية اكبر؟؟ فهل وصل القضاء الى سن الياس العلمي ؟؟؟؟ اليس من المفروض ان تبقى ابواب المنافسة مفتوحة والفرصة تمنح لمن هو الاكفا والاقدر والفصل لنتائج الاختبار؟؟؟؟؟
لقد كال المجلس بمكيالين فهو يطبق الشروط بحذافيرها لمن هو من خارج التيار وتكون الحجة هي الالتزام بالقوانين والتعليمات والقيم والمبادىء اما عندما يتعلق الامر بمؤيديه ورجاله فان الحديث عن الاستثناءات تكون مفتوحة على اوسع الابواب وتعبر على القوانين والتعليمات مرورا عابرا هذه الازدواجية في التعامل افقدتهم تلك المصداقية في العملية القضائية  وراحت تؤسس لنوع جديد من المحاصصة ورحنا ندخل في دائرة بعد اخرى فالعدالة لن تتحقق بالتعسف في تطبيق القانون والتعليمات بل بالتطبيق السليم للقانون والتفاعل مع مكونات المجتمع بمختلف انتمائاته ,

ثم لماذا لايكون هناك معيار محدد للاختيار يكون اساسه الخبرة والعلم والكفاء بدل الموالاة ؟؟  فالمنطقة بحاجة الى الجميع ولن ينجح تيار بمفرده ثم ان التعيين في القضاء هو حق دستوري مضمون بناء على معايير وشروط  المنافسة لاختيار الاكفا والاجدر بغض النظر عن الدين او الجنس او المعتقداو العمر . 
وبعد هل يحق لي ان اتسائل هل ان المتقدمين للمنافسة هم الاكفا وهم الاجدر بالاختيار؟ ازعم بثقة كبيرة ان الاجابة هو النفي .
 فالامر كان بمثابة الصدمة بالنسبة لي ما جعلني اضع حدا لحياتي المهنية واغادر العراق واتركها لمن هم اهل لها , وحين استعيد تلك الذكريات الاليمة اشعر بمدى الاضطهاد والتمييز الذي لحقني هناك , فالحظر لازال مفروضا على غير المسلم وخصوصا ان كانت امراة للعمل في المؤسسة القضائية فالقيود  السياسية والدينية لازالت موجودة .
واخيرا هل يلومني احد ان قلت بان القضاء العراقي مسيس وغير نزيه؟؟؟؟ , فكيف يكون تسييس القضاء اذن ان لم يكن هكذا ؟
اترك الاجابة لمن يهمهم الامر واعتبار هذا المقال مجرد استنطاق لواقع قضائي موجود يلزمه استنهاض كل المبادرات المسؤولة .