19 ديسمبر، 2024 1:03 ص

مدنية الشيخ والزعيم..حول قانون العشائر– ج1

مدنية الشيخ والزعيم..حول قانون العشائر– ج1

بعد ان فشلت الممارسة السياسية القائمة في العراق منذ عهد (( ديمقراطية بريمر الخلاقة – منذ 13 سنة )) ولحد الآن في ارساء ولو جزء بسيط من مستلزمات النهوض بأتجاه بناء الدولة العراقية الحديثة التي تساير الركب العالمي أو رسم معالم عراق سليم معافى من الأمراض المزمنة القاتلة التي توارثناها منذ العهود السابقة – عهود الولاة وأمراء المؤمنين الذين لم يعرفوا الله لامن قريب ولامن بعيد – وعهود الأحتلالات المتتابعة والوصاية الأجنبية والأنتداب – الى عهود الزعماء الضرورة والقادة الأتقياء الذين زرعوا الفوضى والعبث على امتداد الأرض العراقية وتغلغلوا بعبثهم وفوضاهم وأذاهم الى وجدان ومكنونات الفرد العراقي .
أقول ، بعد أن فشلت الممارسة السياسية القائمة الآن في رسم وتخطيط وتصويب وجدولة وتشريع الخطوات اللازمة لأزالة كل هذه التركة الثقيلة ، صارت تلجأ الى رسم تشريعات تفضح بشكل صارخ هذا الفشل وهذا العجز . وآخرها التوجه نحو تشريع (( قانون العشائر )) .
وأنا لاأعرف كيفية اجراء الجمع والمقاربة بين (( تقاليد وأعراف وسنن العشائر )) وبين ضرورات وأسس ومتطلبات (( الدولة المدنية الموحدة الحديثة التي يراد قيامها )) في قانون يراد منه – حسب الأدعاء – المساهمة في ارساء الوحدة الوطنية ؟ ! .
لاأقول بهذا ان العشائر تتعارض مع مبدأ الوحدة الوطنية أبدا ، بالعكس ، كانت العشائر منذ أمد بعيد ولحد الآن وسيلة لفض وتسوية الكثير من الخلافات والتقاطعات التي تحصل في مناطق عراقية كثيرة . وفي نفس الوقت أيضا كانت العشائر هي الوسيلة والأداة في تناحرات وتقاطعات وأطماع في أماكن أخرى .
فالعشيرة بهذا المفهوم هي (( كيان معنوي )) متوارث وزعامتها صفة معنوية مؤثرة وفعالة في نطاقها يتم توارثها من قبل عائلة أو بيت من بيوتها حصرا .
تنسجم العشائر المتعددة مع محيطها بمجموعة من الأعراف والتقاليد التي تم سنها عبر السنين حسب ضرورات محيطها المعاشي والحياتي وقتذاك وبما يحفظ كيان وهيبة وخصوصية العشيرة ورأسها وبما يضمن مصالحها ، وأصبحت هذه السنن قوانين عشائرية لايجوز العدول أو الأنحراف عنها .
لقد اعتمدت العشائر بحكم ضرورات البقاء وضرورات الحياة وضرورات الديمومة والأستمرارية على اسسها التشريعية في اعرافها وقوانينها وهي – المناطقية – الدينية والطائفية – الذكورية – مصلحة العشيرة بأي وجه وبكل وسيلة متاحة .
في المفهوم المتوارث للعشيرة تعتبر الدولة والقانون كيان خارجي بعيد ، خارج الجسد والتكوين العشائري ، قد تتعارض مصالح العشيرة معه وقد تتفق ، ليس مهما ، ففي كل الأحوال على العشيرة ان تحافظ على كيانها أمام سطوة الدولة وتوجيهات قانون الدولة الذي يفرض في أحيان كثيرة على العشيرة اتخاذ تدابير احترازية لتجنبه أو الأبتعاد عنه وتحاشيه أو مواجهته اذا توفرت لدى العشيرة امكانيات المواجهة وشواهد التاريخ كثيرة على أحداث تقاطعت فيها مصالح العشائر مع مصلحة الدولة .وفي ظل ضعف اداء وفرض قانون الدولة تنشط وتتعافى نشاطات العشيرة واطماعها ، الآن مثلا توجد الكثير من المشروعات التي تم ايقافها لأنها تقع في أراضي عشيرة معينة وكثير من التجاوزات تم التغاضي عنها لأنها ضمن نطاق عشيرة معينة وكثير من المصالح تم انجازها بعد دفع (( اتاوات )) لعشائر معينة ، بسبب عجز أجهزة الدولة عن انفاذ وفرض متطلبات المصلحة العامة التي تنوي الدولة القيام بها .
قلت ، ان العشيرة (( كيان متوارث )) ، هذا الكيان أو هذه العشيرة تتفاعل مع باقي المحيط العشائري بما يضمن السلم العشائري بينها وبما يضمن ديمومة العلاقات والأعراف الطيبة الحسنة من المنظور العشائري والأعراف العشائرية . تتداخل العشائر فيما بينها ، تتعاون في المصالح ، تتزاوج ، تتفاعل بكل شيء ممكن ، لكنها لاتندمج ولاتنصهر ولاتذوب أو تتفتت لتندمج في كتلة واحدة (( في كيانها المعنوي )) مع العشائر الأخرى لأسباب ضرورات المحيط الحياتي القائم على الصراعات والجدل المنظور وغير المنظور وبسبب ضرورات المحافظة على الهيئة العشائرية والزعامة العشائرية المتوارثة تلقائيا ، ويبقى العرف أو القانون العشائري يعكس
وجوه العيش البدائي حين كانت العشيرة ضرورة ملحة لأنشاء كيان ووجود ينتظم ويندمج تحت لوائه بعض الناس الذين يجمعهم النسل للمحافظة على ديمومتهم وحياتهم وعيشهم أمام التحديات والمخاطر والغزوات . وبقيت العشيرة لغاية هذا اليوم تحافظ على هذا المفهوم بوجوهه الحديثة ، وقد لاأكون متعسفا حين أقول انهاكانت غطاء وسببا ووسيلة للكثير من المفاسد والمخالفات والتجاوزات التي حصلت وتحصل الآن .
ان ضعف كيان الدولة وتمزقه أو انقسامه في التناحرات وعجزه عن تنفيذ القوانين كما ينبغي وبشكلها الحازم ينمي ويوفر الظروف المناسبة لتبرز مكانة العشيرة وفاعليتها ، وينمي الأختلافات المناطقية والطائفية وبالتالي يحفز على الصراعات .
الدولة المدنية الحديثة التي ينادي بها الجميع بحاجة ماسة الى التشريعات والقوانين الوضعية التي تتجاوز هذه الكيانات الضيقة الى الكيان الأعم والأشمل – كيان العراق الواحد – الحديث الذي ينسجم مع محيط العالم الخارجي ليتفاعل ويتلاقح مع الحضارة العالمية وبما يخدم مصلحة وهوية وتطلعات كل أبناؤه بدون استثناء أو تمييز وبمايقودهم الى الأمام دائما .
نشوء الدولة الحديثة يقتضي تجاوز هذه التسميات الضيقة سوا كانت طائفية أو مناطقية أو عشائرية الى مسمى العراق الواحد الذي يشمل كل الطوائف والعشائر والمناطق . هذا هو المفهوم الذي السائد (( البديهي )) الذي بنيت عليه كل حركات التحرر وكل الحركات الثورية في العالم ، والتراجع عنه يعني (( ضعفا )) في العملية والممارسة السياسية وضعفا في الأهداف والمضامين التي تقوم عليها .
– يتبع –

[email protected]