23 نوفمبر، 2024 10:42 ص
Search
Close this search box.

مدرسة سامراء الإبتدائية الأولى

مدرسة سامراء الإبتدائية الأولى

سامراء أصبحت قضاءً بأمر من الوالي مدحت باشا في عام 1869 ميلادية , ويُذكر أن أول مدرسة إبتدائية تأسست فيها عام 1881 ميلادية , ولا أعرف موضعها وهل هي المدرسة النظامية , أو أن هناك شواهد تدل عليها , أم أنها إندثرت أو أن لها علاقة بالمدرسة التي أقصدها.
مدرسة سامراء الإبتدائية الأولى تقع في منطقة القاطول , وقد تأسست عام 1923 حسب ما مكتوب في أعلى مدخلها الرئيسي. وقد تعلمت فيها كما تعلم أبي وأعمامي والكثير من أقاربي.
والمدرسة ذات طراز عمراني يعكس فن العمارة السامرائية آنذاك , والتي لا زالت متأثرة بفن العمارة العباسية وثورتها المتميزة عندما كانت سامراء عاصمة للإمبراطورية العباسية فأبدعت بالعمارة , ولا تزال الملوية شاهدا خالدا عن تلك الثورة الفنية الأصيلة.
والمدرسة ذات ساحة كبيرة محاطة بأشجار الليوكالبتوس , وفيها ثلاثة حدائق , واحدة عند المدخل الرئيسي وفيها زهور الورد الجوري والآس , ويخترقها الممر المتصل ما بين الباب الشمالي الخارجي الحديدي الأخضر اللون والباب الخشبي الرئيسي الكبير المرتفع الذي يؤدي إلى الصالون .
والحديقة الثانية مستطيلة وتقع في الجهة الغربية وبجانب البناية الرئيسية للمدرسة والتي تسمى (الصالون).
والحديقة الكبرى تكاد تشغل معظم الجهة الجنوبية من المدرسة وهي حديقة غناء , كنا نقضي فيها معظم أوقات الفرص أو الفراغ ما بين الحصص الدراسية , وأحيانا عند الصيف ندرس فيها , خصوصا درس التعبير والرسم.
ويحيطها سور فيه العديد من (الأواوين) على الطراز العباسي , فكنا نجلس فيها ونمارس الألعاب التي نجيد إبداعها, وكم حفرنا حفرا صغيرة عددها ستة ولعبنا لعبة (الأمهات).
وكان يجلس في كل إيوان مجموعة صغيرة من الطلبة , وهذا السور يمتد من الجهة الغربية والجنوبية والشرقية , أما السور الشمالي فهو من الطابوق والسمنت ويعلوه  سياج من الحديد ولونه أخضر. وكنا نتسلقه ونراقب حركة الحياة في الشارع , حيث كان يطل على مستشفى سامراء الجمهوري , أو المستشفى القديم الذي تم إزالته وبناء المركز الوقائي في مكانه. وهناك شارع في الجهة الشرقية من المستشفى , يفصلها عن ثانوية سامراء , والتي تحولت فيما بعد إلى سوق مركزي , ومركز إتصالات.
وفي المدرسة في الجهه الجنوبية إبتداءً من الزاوية المطلة على شارع القاطول , هناك صف وحيد منفرد يسمى صف الثاني جيم , وأصبح فيما بعد مخزنا, وكان يسمى (صف القيق) وسبب هذه التسمية أن أحد التلاميذ قد تشاجر مع المعلم , فترك المدرسة , وتسلق نحو الشباك القريب من السقف ورمى دجاجة على الصف ومَن فيه (وكان الصف فيه نافذتا قريبتان من السقف وشباك يطل عى ساحة المدرسة). وكان التلاميذ يهتفون بعد إنتهاء الدوام (صف القيق شبعناكم جلاليق) , ولا أعرف لماذا أصبح هذا الصف سيئ السمعة بحيث يبدو تلامذته وكأنهم يحملون وصمة عار , ولهذا السبب ربما تم إغلاقه.
وبعد هذا الصف وبإتجاه الشرق هناك الحديقة الكبيرة ومن ثم المراحيص في نهاية السياج الجنوبي , وتليها أربعة صفوف هي الأول أليف وباء وصف السادس باء ومخزن صغير ومن ثم صفا الثاني أليف وباء , ويبدو أنها أضيفت غلى البناية الرئيسية فيما بعد لأن طرازها العمراني مختلف عن البناية الرئيسية .
وفي الجهة الشرقية المتصلة بهما هناك دورة مياه , وهي عبارة عن عدد من حاويات الماء الفخارية التي تسمى (الحِب أو الحُبانة) وكانت مغطاة بغطاء من الفافون ويتدلى من كل منهما بوري ماء ينتهي بحنفية مثقوبة في أعلاها وقد تم سد فوهتها , ولكي تشرب الماء عليك أن تفتح الحنفية (المزملة) وتشرب الماء , وبسبب هذه الطريقة كانت الأمراض تنتشر بسهولة لأن الكثير من التلامذ يضعون فمهم على الحنفية.
وهذه الصفوف فيها (طرمة) وأمامها ساحة من الكونكريت مربعة , وكان الإصطفاف الصباحي يحصل فيها خصوصا يوم الخميس , عندما (يدق الجرس) معلنا بداية الدراسة , حيث يعرف كل صف مكانه ويتقدمه (مراقب الصف), وهناك مكان لوقوف المعلمين والمعاون والمدير, وكذلك يكون الإصطفاف في ساحة المدرسة الكبيرة وهي ترابية.
ونردد أناشيد “موطني , موطني” و ” الله أكبر, ألله أكبر فوق كيد المعتدي…قولوا معي…الله للمظلوم خير مؤيدي…الله أكبر يا بلادي كبّري…”  و” لاحت رؤوس الحراب    تلمع بين الروابي” و ” نحن الشباب لنا الغدُ ومجده المخلّدُ” وأناشيد أخرى , كانت تهتز لها أركان المدرسة خصوصا في يوم الخميس الذي نؤدي فيه تحية العلم , حيث يرفع العلم على ساريته مجموعة من الكشافة ويرددون تحية العلم , والبعض منا يُطلب منه الخروج أمام الجميع لإلقاء قصيدة كان قد حفظها خصوصا طلبة الصف الخامس والسادس الإبتدائي.
وبعدها يتم الإعلان ” إلى الصفوف سر” , فنذهب بإنتظام إلى صفوفنا.
ومقابل هذه الساحة تمتد بناية المدرسة الرئيسية , وهي عبارة عن مستطيل له بابان كبيران , يسمى (الصالون) , حيث تمتد على جانبيه عدد من الصفوف , تبدأ بالصف الثالث وتنتهي بالصف السادس.  وقرب الباب الجنوبية المطلة على الساحة هناك غرفة (الحانوت) التي تبيع (الكيك والمشروبات الغازية – كوكا كولا , مشن , سفن آب , كنددراي), وإلى الشرق منها الدرج الذي كنا نجلس عليه وحوله.
فعلى الجهة الغربية الصفوف المكناة بالألف (وهي الثالث والرابع والخامس)  , وفي الجهة الشرقية الصفوف المكناة بباء,  وهي (الثالث والرابع والخامس والسادس) , وصف السادس ألف كان له ممر ويقع خلف غرفة المدير, ومقابله غرفة المعلمين التي لها ممر مناظر.
وينتهي الصالون عند المدخل الرئيسي بغرقة المدير وغرفة التسجيل في الجهة الغربية  وغرفة المعاون وغرفة أخرى في الجهة الشرقية.
وكان الصالون مغلقا في الشتاء وهو ساحة التلاميذ أثناء الفرصة.
وعلى جدران الصالون العديد من الخرائط الجميلة المصنوعة من (الجبس) , وكان الطلبة يعملونها تحت إشراف المعلم (مصطفى). وكان إبن خالتي من البارعين في تصميمها , وكنت أرقبه كيف يصبها في قالبها ويلونها ويكتب أسماء المدن والدول بخط جميل.
وكانت المدرسة ذات نشاطات رياضية  متميزة برعاية الأستاذ عزيز , الذي كان يعد فريق المدرسة للمباريات السنوية لمدارس سامراء التي تقام في ملعبها , وكانت صورة مصغرة عن الألعاب الأولمبية.
وللتلاميذ معارض فنية رائعة , وكم كان بيننا الرسامون والنحاتون وأصحاب المواهب الواعدة , لكنها ذهبت مع الريح.
وكم أذكر في الصف الرابع الإبتدائي وعند الصباح , كان التلميذ سعد يجوّد القرآن ويقلد القارئ عبد الباسط محمد عبد الصمد , وكان صوته ساحرا ومؤثرا ,  والتلميذ عامر يقف أمامنا ويصدح بصوته الشجي (دكتور دليني شنهو اليشافيني) وهو يقلد عبد الجبار الدراجي ويحفظ أغانيه , ومنا مَن كان يقرأ ما كتبه على أنه قصة أو شعر , وهناك ثلاثة تلاميذ قد برعوا بالرسم وآخرين في الخط العربي , وآخر بالتصوير , والعديد من المواهب الأخرى التي سحقها الزمن وداسها بويلاته ومآسيه.
وعند دخولي المدرسة كنت مندهشا لأن بعض التلاميذ كانوا كبارا , خصوصا في الصف الخامس والسادس, وكنت أشاهدهم وقد بروزا في النشاطات الرياضية , ومعظمهم لم يتمكنوا من إجتياز المرحلة الإبتدائية بإمتحانها الوزاري (البكلوريا) , الذي يؤهلك للحصول على الشهادة الإبتدائية.
وكنت في الصف الأول باء , والصف عبارة عن ثلاثة صفوف من (الرحلات) وعددها ستة , وهي مقاعد يجلس عليها تلميذان , وفيها مكان لوضع الدفاتر والكتب, وعدد تلاميذ الصف ستة وثلاثون.
 وكان معنا تلميذ عمره بضعف عمرنا , لا يعرف القراءة والكتابة , وعرفنا بأنه قد رسب في الصف الأول لعدة سنوات , وكان يتعرض للعقاب كل يوم لأنه لا يعرف قراءة وكتابة الحروف , فهو لا يملك قدرات ومهارات التعلم , ومع الأيام أدركت بأنه محدود الذكاء ومن المعوقين , لكننا في ذلك الوقت ما كنا نعي هذه الحالات ونقدم لها الخدمة الملائمة, وكبر ذلك التلميذ وكنت أشاهده يعالج أيامه بقدراته العقلية المحدودة.
وفي المدرسة معلمون كبار السن ومن مختلف مناطق العراق , وكانت لهم هيبتهم وقيمتهم التربوية المؤثرة في حياة التلاميذ  ,وأذكر منهم نوح وحميد وحسن وحامد و محمود وإسماعيل معلم الموسيقى وغيرهم .
وكان معلمنا في الصف الأول لفترة هو المعلم نوح , ولازلت أذكره عندما يأتي كل صباح , وبعد أن يقول مراقب الصف قيام ننهض , ويبدأ جولته على التلاميذ , يفتش عن النظافة ويركز على الأنوف والأظافر , وبعد الجلوس يسأل التلاميذ ” الذي لم يحضّر واجبه يرفع إيده” وعندما يرفع عدد من التلاميذ أياديهم , يدعوهم للوقوف أمام السبورة , ويخاطبهم بأعلى صوته ” يا مزبله جوكي الخريه , طيط يا طيط” , ويضرب كل منهم بعصاه على يديه المبسوطتين , ثم يبدأ الدرس.
وفي المدرسة ثلاثة فراشين هما (عبد) وهو رجل طويل القامة ويبدو أكثرهم نشاطا وإهتماما ,  و (مجيد العلقمي) وهو قصير القامة مبتسم الوجه دائما, وآخر (ربما مهدي) متوسط القامة متوتر المزاج , وكان أولاده في المدرسة معنا.
وكانت العديد من الكلمات الكبيرة المكتوبة على سور المدرسة من الجهة الخارجية , ومنها كلمة طويلة , كنا نقرأها ( فلس + طين) ولا نعرف معنها , وإنما أخذنا نؤلف كلمات ذات (طين) مثل (سلاطين) ,
( شياطين) , وغيرها ذات (فلس) , وبين الفلس والطين ما كنا نحسب بأن الأيام ستدور وتتعقد, لكن تلك الكلمة علمتنا صناعة المفردات وتشريحها وردها إلى جذورها.
كان الدوام في المدرسة على فترتين الصباحية , وتبدأ في الساعة الثامنة صباحا وحتى الثانية عشر ظهرا , والمسائية وتبدأ في الثانية حتى الرابعة بعد الظهر , ويكون عدد الحصص في الفترتين ستة حصص يوميا عدا يوم الخميس حيث لا توجد فترة مسائية.
وكنا نرتدي في الصيف القميص الأبيض واللباس الأسود ذو الشريط الأبيض على الجابين , وحذاء (الباتا) أو (الرياضة) وهو من الكتان الأبيض الثخين.
وفي الصف الأول الإبتدائي كنت الثاني على الصف , وكان الأول تلميذ إسمه محمود , فحزنت حزنا شديدا , وغضبت على معلم الدين (عبد الوهاب) وهو رجل متقدم بالسن يلبس (الصدارة) ونظارته ثخينة , وقد إمتحنني بجزء عمه , وكان واقفا عند باب الصف وأنا أمامه ويسألني عن قراءة السوَر ,  ومنها (ألهاكم التكاثر..) , وأنا أقرؤها مرّ عدد من التلاميذ من بيننا وحسب بأني لم أقرأها جيدا , فأعطاني درجة تسعة.
وفي الصفوف التالية أصبحت فارس جميع المراحل والأول عليها.
وخلاصة القول أن مدرسة سامراء الأولى ذات قيمة حضارية وثقافية وتراثية , تستحق العناية والحفاظ عليها , وتحويلها إلى موقع تراثي أثري , أو متحف يشير إلى دورها وقيمتها في إعداد الأجيال وتقدم المدينة. فهي مدرستي الأولى التي تعلمت فيها اللغة العربية والإنكليزية والعلوم والتأريخ , ومنها إنطلقتُ , كما إنطلق العديد من أبناء سامراء , إلى ميادين الحياة محمّلين بالعلم والمعرفة والثقة بالمستقبل .
 [email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات