22 ديسمبر، 2024 11:05 م

مدخل الى القانون الدستوري الإسلامي

مدخل الى القانون الدستوري الإسلامي

حول كتاب “مدخل الى القانون الدستوري الإسلامي”

المقال التالي يطرح خلاصة لمنهجية كتابي الجديد “مدخل الى القانون الدستوري الإسلامي” وموضوعاته وأفكاره، والذي صدر في سبعة فصول و(338) صفحة، عن دار روافد ومركز دراسات المشرق العربي في بيروت، في آذار/ مارس 2023.
حصر المفاهيم
القانون الدستوري الإسلامي هو القانون الدستوري المستند الى قواعد الفقه السياسي الإسلامي، أي أنه قانون دستوري وضعي في الجانب الفني والمادي، وإسلامي في مصادره وقبلياته ومخرجاته. وكما ينتج عن القانون الدستوري الوضعي دستوراً وضعياً، فإن القانون الدستوري الإسلامي يفرز دستوراً إسلامياً في مضامينة ووضعياً في شكله وصياغاته. ويتم إنتاج الدستور الإسلامي من خلال عملية ((التقنين الدستوري الوضعي للفقه السياسي الإسلامي))، أي تحويل القواعد الشرعية الدينية، العقدية والفقهية والأصولية وغيرها، الى قواعد قانونية دستورية، إسلامية في مضامينها، ووضعية في صياغاتها.
وهناك مصطلحات سبقت القانون الدستوري الإسلامي، كالفقه الدستوري الإسلامي، المتشبه بمصطلح «الفقه الدستوري» الوضعي. وقد ظهر مصطلح الفقه الدستوري الإسلامي مع جهود أسلمة القانون الدستوري الوضعي الرائدة في تركيا وإيران في العقد الأول من القرن العشرين الميلادي.
ولا تنفصل حركة التقنين ونشوء ظاهرة الدستور في البلدان الإسلامية عن الحركة الإصلاحية والتجديدية والتحررية الإسلامية والوطنية التي اجتاحت معظم البلدان الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين الميلاديين. فكانت حركة الدسترة جزءاً من الحراك النهضوي العام للشعوب المسلمة التواقة للخلاص من الاستبداد السياسي، والتخلف العلمي والفكري، والجمود الديني، والاحتلال الأجنبي، والتبعية للغرب. وكما كان «التقنين» الحديث في البلدان الإسلامية متأثراً بالغرب؛ فإن «الدسترة» أو إنشاء الدساتير كان أيضاً متأثراً؛ بل متشبهاً في الشكل والصياغات والمضامين بالدساتير الغربية، وبمستويات من التأثر أعلى من التقنين العادي؛ لأن القوانين الجزائية والمدنية كان يراعي في مضامينها – غالباً – جانب أحكام الشريعة الإسلامية؛ بينما كانت دساتير البلدان الإسلامية علمانية – غالباً – إلًا من بعض المواد الشكلية.
ولم يكن الفقه الدستوري الإسلامي مفهوماً معروفاً ولا محل ابتلاء قبل ثورة المشروطة في ايران؛ إذ ظهرت معالمه الأولى مع الكتابات الفقهية السياسية المهمة التي رافقت حركة المشروطة، لا سيما كتابات الشيخ فضل الله النوري ورسائل الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني ودراسة الميرزا الشيخ محمد حسين النائيني، ثم كتابات الشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ حسن البنا والشيخ تقي الدين النبهاني. وظهرت بعدها مدونات أخرى في العقود اللاحقة، أبرزها بحوث السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني وخطبه. بينما مثّل ظهور النتاجات التقنينية النوعية والكمية في إيران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية مرحلة مختلفة من مراحل جهود تقنين فقه الدولة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي. وقد شهدت هذه المرحلة نهضة بحثية كبيرة غير مسبوقة على المستوى الإسلامي العام.
أهمية التقنين الفقهي الدستوري
إن إخضاع أحكام الفقه السياسي الإسلامي وقواعده إلى قواعد القانون الدستوري الوضعي في الجانبين المنهجي والفني؛ سيؤدي إلى تحديث النظرة الإسلامية إلى علاقة السلطة بالأمة، ووظائف الدولة والسلطة، وموضوعات الحقوق والحريات العامة والسياسية.
والهدف الأساس لعملية التقنين الدستوري للفقه هو تحويل قواعد الفقه السياسي الإسلامي إلى صياغات قانونية وضعية وقواعد قانونية عامة آمرة وملزِمة للجميع؛ من شأنها ضبط السلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعية السائدة في الدولة، وهي ليست عملية تقنية أو فنية وحسب؛ بل لها مداخل واسعة ومعمقة على الصعد الكلامية والفقهية والفكرية والقانونية؛ لأنها ستكشف في النهاية عن مستوى قابلية النظام السياسي الديني على إدارة الدولة والمجتمع إدارةً عصرية تعمل على وحدتهما وتنميتهما وتلبية حاجاتهما، وتحقيق غايات الإسلام ومقاصد الشريعة. وإذا عجزت عملية التقنين عن بلوغ هذه الأهداف؛ فإن النزوع نحو إطلاق يد التشريع الوضعي أو التقنين الوضعي سيتسع ويتعمق في الواقع الإسلامي.
بين القانون الدستوري الوضعي والفقه السياسي الإسلامي
هناك فرق معرفي ووظيفي بين القانون الدستوري والدستور؛ فالدستور هو النص أو الوثيقة القانونية الملزِمة حرفياً للدولة والشعب، وتتكون من مواد أو أحكام توضح طبيعة النظام السياسي للدولة وهيكليته وسلطاته وحقوق الأمة وحرياتها وعلاقتها بالنظام السياسي. أما القانون الدستوري فهو القواعد القانونية التي يدوّن الدستور على أساسها، وتشمل أساليب التقنين الدستوري ومصادره وضوابطه، والرقابة على دستورية قوانين الدولة. أي أن الفرق بين الدستور والقانون الدستوري، كالفرق بين أحكام الفقه العملية وعلم الأصول الفقه وعلم الفقه.
والحكم الشرعي في الفقه الإسلامي يقابل المادة القانونية والتشريع في القانون الوضعي. وبذلك يكون التشريع (القانون) في الدولة الإسلامية كاشفاً عن الحكم الشرعي. أما مصطلح القاعدة الشرعية في الفقه الإسلامي؛ فيقابله مصطلح القاعدة القانونية أو المبادىء القانونية في القانون الوضعي.
ومن ناحية التقسيمات القانونية التقليدية؛ فإن القانون الوضعي الحديث ينقسم إلى: قانون عام يعنى بتنظيم المؤسسات، وقانون خاص يعنى بالأفراد. وينقسم القانون العام – بدوره – إلى: قانون دولي وقانون داخلي. ويختص القانون الدولي العام بشؤون العلاقات الدولية وعمل المنظمات الدولية والإقليمية وقوانين الجو والبحار وغيرها، فيما يضم القانون العام الداخلي: القانون الإداري والقانون الدستوري والقانون المالي والقانون الجنائي. أما القانون الخاص فإنه يشتمل على: القانون المدني والقانون التجاري وقانون العمل وقانون التأمين الاجتماعي. وهناك عناصر مشتركة في بعض فروع القانون بين القانون العام والقانون الخاص، أوجدت قسماً ثالثاً يعرف بالقانون المختلط، ويضم فرعين: قانون المرافعات المدنية والتجارية والقانون الدولي الخاص. وقد عرفت قوانين الشريعة الإسلامية هذا التقسيم أيضاً في تجربة التطبيق الحديثة.
ويمكن مقاربة مساحات الافتراق والاشتراك بين الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الوضعي من خلال أربع ركائز:
1 – حجم الموضوعات ونوعها:
بما أن القانون الدستوري الوضعي هو جزء من القانون العام الداخلي؛ فإنه لا يشتمل على موضوع السياسة الخارجية والعلاقات الدولية؛ إذ خصّ التقسيم القانوني هذا الموضوع بقانون مستقل هو القانون الدولي. بينما يتسع الفقه السياسي الإسلامي لموضوعات السياسة الخارجية والعلاقات الدولية؛ أي أن موضوعاته تستوعب أجزاء من فروع القانون العام الداخلي والخارجي؛ كالقانون الدستوري والقانون الإداري والقانون الدولي؛ بل يتسع الفقه السياسي الإسلامي لموضوعات أكبر من القانون؛ ولا سيما موضوع (الولاية) و(الإمامة) و(قيادة الأمة)، وهو موضوع يرتبط بالعقيدة والنظرية السياسية. ومن جانب آخر؛ فإن الفقه السياسي الإسلامي هو جزء من فقه الدولة الإسلامية، وأن الفقه الدستوري الإسلامي هو جزء من الفقه السياسي الإسلامي؛ إذ يختص الفقه الدستوري الإسلامي بالموضوعات ذات العلاقة بالدستور؛ أي أنه الإطار الفقهي للقانون الدستوري الإسلامي؛ بينما يشتمل الفقه السياسي الإسلامي على موضوعات أخرى أوسع من موضوع الدستور. وإذا اعتبرنا أن القانون الوضعي بجزئيه العام والخاص؛ يمثل قانون الدولة؛ فإن فقه الدولة الإسلامية يناظر جميع قواعد القانون الوضعي.
2 – المصادر:
تقتصر مصادر القانون الدستوري الوضعي على المصادر الوضعية البشرية؛ كقبليات النظام الاجتماعي والمذهب السياسي للدولة، ووثيقة الدستور واللوائح والقوانين الأساسية، والأعراف والتقاليد الدستورية. وهناك بلدان تحاول التوفيق بين المصادر الوضعية والمصادر الدينية؛ فتضع التعاليم الدينية للأكثرية السكانية في البلاد إلى جانب المصادر الوضعية، كأغلبية البلدان المسلمة التي تضع الشريعة الإسلامية مصدراً لقانونها الدستوري إلى جانب المصادر الوضعية الاخرى. وهو ما يمكن ان نصفه بالمنظومة القانونية العلمانية المتأسلمة أو الإسلامية المعلمنة. أما مصادر الفقه السياسي الإسلامي؛ فهي مصادر التشريع الإسلامي نفسها، والتي تشتمل على المصادر المقدسة الملزِمة التي تحتوي الأحكام القطعية: القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة، والمصادر الاجتهادية التي تحتوي الأحكام الظنية؛ بما في ذلك الأحكام الثانوية والأحكام الولائية. وتنعكس المصادر على الجانب المنهجي أيضاً؛ إذ تنزع منهجية القانون الدستوري الوضعي نحو التخصص في القواعد التقنية التي تحتضن وثيقة الدستور؛ بينما تطغى المنهجية الفكرية والعقدية والفقهية الاستدلالية على الفقه السياسي الإسلامي.
3 – دولة الفقه ودولة القانون:
هناك فرق بنيوي بين دولة الفقه السياسي الإسلامي ودولة القانون الدستوري الوضعي؛ فالدولة التي يفرزها الفقه السياسي الإسلامي هي دولة دينية – مدنية. وقد عززت القواعد الشرعية السياسية للمدونات الفقهية الحديثة جانب الشرعية أيضاً لدولة الفقه السياسي الإسلامي، ونقصد بها الشرعية القانونية؛ أي أن الدولة الإسلامية ذات شرعية ثنائية؛ فهي تراعي القواعد الشرعية الدينية من جهة، والقواعد القانونية الوضعية التي تقبلها الشريعة الإسلامية بتكييفاتها الفقهية المعاصرة، وخاصة في قسمي القانون الدولي والقانون الدستوري من جهة أخرى. أما الدولة التي يفرزها القانون الدستوري الوضعي فهي دولة وضعية تستند إلى شرعية أحادية متمثلة في القانون الدستوري الوضعي.
4 – جزاء مخالفة الدستور:
يدخل موضوع مخالفة سلطات الدولة وعموم نظامها القانوني للدستور في صلب مبدأ سمو الدستور. فعلى وفق القانون الدستوري الوضعي؛ لاتوجد فوق سلطات الدولة سلطة أعلى تستطيع كفالة الإحترام للقواعد الدستورية. لذلك؛ فجزاء مخالفة القواعد الدستورية يتمثل في مسؤولية كل سلطة من سلطات الدولة قبال السلطات الأخرى، في حدود الرقابة المخولة لها من ناحية، وفي مسؤولية هذه السلطات أمام الشعب في نهاية المطاف من ناحية أخرى. أما في منظومة الفقه السياسي الإسلامي؛ فإن منصب (الولاية) و(الإمامة) و(قيادة الأمة) يتكفل بحماية منظومة القانون وكفالة سمو الدستور، من خلال آليتين: آلية فقهية ـ قانونية، تتمثل في مجلس فقهي قانوني يراقب التشريعات ومدى تطابقها مع الدستور والشرع، وآلية فقهية محضة، تتمثل في الأحكام الولائية التي ينحصر إصدراها بولي الأمر، والتي لايقتصر تأثيرها على تجميد بعض القوانين والمواد الدستورية أو مخالفتها؛ بل يمتد إلى إمكانية تجميد بعض الأحكام الشرعية. وبذلك يتكفل منصب (ولاية الأمر) في محاسبة سلطات الدولة، وضمان التزامها بالدستور.
وبالتالي؛ فإن القانون الدستوري الإسلامي يطابق القانون الدستوري الوضعي من الناحية الوظيفية، وكذا يطابق الدستور الوضعي الدستور الإسلامي. ولكن الإختلاف يكمن في بعض المصادر وبعض المخرجات. فمصادر القانون الدستوري الإسلامي وقبلياته ومخرجاته مقيدة بالنظرية الإجتماعية السياسية الإسلامية والنظام السياسي الذي تفرزه النظرية، أي أنها مصادر مركبة: شرعية، وتنحصر بالقرآن والسنة، وكاشفة، أي الإجماع والعقل، إضافة الى المصادر الوضعية المقبولة شرعاً.
أما القانون الدستوري الوضعي؛ فمصادره وقبلياته أرضية محضة، وتنتمي الى النظرية الإجتماعية السياسية المراد تطبيقها؛ ففي الغرب ـ مثلاً ـ يعتمد القانون الدستوري النظريات الإجتماعية السياسية الوضعية، ولا سيما الليبرالية والديمقراطية. أي أن المبادئ العامة أو القبليات الفكرية للمجتمع؛ تنتج قانوناً دستورياً، والقانون الدستوري ينتج دستوراً، والدستور ينتج نظاماً سياسياً للدولة.
التأسيس للقانون الدستوري الإسلامي
تستند منظومة القانون الدستوري الإسلامي عقدياً وفكرياً وفقهيا إلى الفقه السياسي الإسلامي، وتستند فنياً إلى قواعد القانون الدستوري الوضعي. والتقنين الدستوري الإسلامي أو تحويل قواعد الفقه السياسي الإسلامي الى قواعد قانونية دستورية وصعية؛ هو عمل منهجي تخصصي صعب، بحاجة إلى لجان مترابطة من الاختصاصيين في كثير من الحقول المعرفية، كفقهاء الشريعة وفقهاء القانون الدستوري وخبراء النظم السياسية وعلماء الاجتماع السياسي. وتتضح هذه الحاجة من خلال الوقوف على طبيعة المراحل التي تستغرقها هذه العملية؛ لتبدأ من استنطاق المصادر الشرعية، وتنتهي بوضع المادة الدستورية في صياغتها المادية الوضعية. وكل مرحلة هي امتداد للمرحلة التي تسبقها، وقاعدة للمرحلة التي تليها. وهذه المراحل على النحو التالي:
1 – إستخراج النظرية العامة للإسلام؛ أي الثوابت العقدية للإسلام.
2 – إستخراج النظرية العامة للشريعة الإسلامية وغاياتها ومقاصدها وأهدافها.
3 – إستخراج نظرية الدولة الإسلامية وأهدافها ووظائفها ومنظومتها الفقهية.
4 – إستخراج النظرية السياسية الإسلامية، ومنظومة الفقه السياسي الإسلامي وأحكامه.
5 – تحويل أحكام الفقه السياسي الإسلامي إلى منظومة قانونية دستورية وضعية عامة، وهو ما يسمى: «القانون الدستوري الإسلامي» بلغة القانون، وهو مادة مهمة ينبغي استحداثها في فرع القانون الدستوري، وتتميز بمضمونها العقدي الإيديولوجي.
6 – إستخراج الخصوصيات والقبليات الإدارية والسياسية والاجتماعية والمذهبية للكيان الإداري – السياسي للبلد المتشكل جغرافياً وتاريخياً وفق أحكام القانون الدولي، والمراد تطبيق الدستور الإسلامي فيه.
7 – إستخراج منظومة القانون الدستوري الإسلامي الخاص بالبلد الإسلامي المحدد، من خلال الجمع والتوليف بين أربعة منظومات:
أ – منظومة القانون الدستوري الإسلامي العام.
ب – خصوصيات الكيان الإداري – السياسي (الدولة) المراد تطبيق الدستور فيها.
ت – أحكام القانون الدولي، وخاصة ما يتعلق بتعريفه للدولة المعترف بها دولياً.
ث – قواعد القانون الدستوري الحديث في جانبيه المفهومي والفني (المادي).
8 – تحويل منظومة القانون الدستوري الإسلامي الخاص بتلك الدولة إلى مواد دستورية مدونة بشكل دستور إسلامي محلي.
والمواد الدستورية المقننة على أساس الفقه السياسي الإسلامي على ثلاثة أنواع:
1 – المواد العامة وبعض المواد التنظيمية ذات الصبغة العامة، والتي تتضمن غايات الدولة الإسلامية وأهدافها وأطرها العامة، وتبدأ من القاعدة الشرعية وتنتهي بصياغة مادة دستورية.
2 – المواد التنظيمية العامة التي تتضمن هيكل النظام السياسي وتوزيع السلطات وطرق انتخابها وتعينيها؛ فهي تبدأ من قاعدة دستورية، ثم يتم الإستدلال عليها من القواعد الشرعية.
3 – المواد التنظيمية التفصيلية (التقنيات) التي لا تتضمن موقفاً شرعياً؛ فهي لا تستند إلى قاعدة شرعية؛ ولكن يشترط فيها أن لاتتعارض مع قاعدة شرعية.