18 ديسمبر، 2024 5:54 م

مداسُ الابْ ودروس بوذا

مداسُ الابْ ودروس بوذا

تفتخر دول جنوب شرق اسيا ، بأن متغيرات الانظمة الاجتماعية والسياسية التي مرت عليها حتى الشيوعية منها كما حصل في الصيتن ولاوس وفيتنام ، ابقت بوذا هو بوذا لم يتغير ولم يتشظى في الفقه والتفسير والممارسة ، وربما بفضل ايمان الكاهن الاول بضرورة اشاعة الحب والسلام والخير بواسطة اكتشاف المزيد من الضوء في ارواحنا ،ابقى على تلك الديانة لتعتمد على التمرين وتفاعلاته بين تلك الارواح وبين ما تتخيله انه بعيد وينبغي علينا الوصول اليها اينما تكون هي ونكون نحن ، والذي يقرأ في البوذية سيكون عليه ان يكتشف المقارنات الحسية بين معتقده التوحيدي ذي الاتجاهات الثلاثة ( المسلم والمسيحي واليهودي ) وبين تلك الخواطر الكونية الاولى التي سكنت الكاهن الاصلع ذو الرداء البرتقالي الذي اتخذ من مضغ ورقة الشاي طريقا للبقاء يقظا كل الليل وليسمح بضوء القمر ليستعمر كل مساخات جسده ويردم فيها الهوة المظلمة التي كانت تحفز في البشر صناعة الموت والحروق وشهوات الغزو والتملك والثراء على حساب المستضعفين والفقراء وبين رغبة الكثيرين بالتحرر من ضغوطات الواقع على كافة المستويات .
لقد خلف لنا بوذا دروسا عميقة وتأملية في تحرر الذات ، ولهذا من اعتبره انه ايماني وعقلاني حاول كثيرا عدم الاشارة اليه ، والبعض قالوا ان الرؤيا البوذية لاترتكن ذات الهية ورسالات اتت الينا بوحي النبوات من ادم فصعودا . ولكي يبعدوا الناس عنها ، ذكروهم بصورة غير مباشرة ان الصوفية في حقيقتها الخفيفة هي من بعض التأثر بتلك الممارساة الصينية والهندية القديمة ، فنصح الولاة والخلفاء من قبل العلماء بأعتبار الصوفي المجاهر برؤياه واحساسه ورغبته مرتد وزنديق وعلينا صلبه . وبالفعل تم هذا على اكثر من صوفي وأولهم الحلاج.
منذ اول شبابي انتبهت الى بوذا كمحفز لتحرير مافي اعماقي من طاقةٍ كتابية ، وقد تأثرت بصورته ومسلكه كهاجس ثقافي وليس كهاجس ديني وهو ما يخيرك فيه بوذا ولايجبرك ، وكنا حين نذهب الى واحد من الافلام الهندية في بواكير شبابنا نحرص على الاتيان بورقة وقلم لكتابة مقاطع الاغاني وونصائح الكهنة من افواه المنشدين والممثلين ،وكانت تلك العبارات التي نعتمد فيها على ضمير المترجم تقودنا الى تكوين رؤيا مقترحة لكتابة قصيدة الشعر ،واغلب هذا الشعر كان عاطفيا ورومانسيا
كانت دروس بوذا وللطرافة والغرابة مرافقة لدروس مَداس الاب ( النعال )
والمداسُ الذي كان يرتديه ابائنا على شكل نعل ثقيل من الجلد الناشف ، كان من بعض ادوات التأديب في طفولتنا ، وبين موسيقاه على ظهورنا وبين موسيقى الاغنية الهندية تناغم غريب بين سماحة بوذا في نشر هاجس المحبة من اجل الوصول الى شيء ،وبين قلب الاب وهو ينبض حنانا حتى عندما يضربنا بمداسه وهو لايعلم ان ياقوت الحموي سادن الكتابة التاريخية والادبية والحكائية في بعض عصورنا العربية قد خص المداس بحكاية ورجل ليحوله من مداس مهترئ وثقيل ومقاسه لايصلح سوى لاقدام الفقراء والمعدومين فقط وعرفه لنا في كتبه قوله : كان في بغداد رجل أسمه أبو القاسم الطنبوري، وكان له مداس، وهو يلبسه سبع سنين، وكان كلما تقطع منه موضع جعل مكانة رقعة إلى أن صار في غاية الثقل، وصار الناس يضربون به المثل..
اباؤنا في فقرهم ايضا بسبب العوز كان يصلحون مدسهم بأنفسهم ، وكنا نراقب تلك المُدس ، بهاجسين هما الرحمة والغضب ،فمن يرحمه يتذكر تلك الكلمة المدورة كما قرص الرغيف والدمعة والحيرة ويسمونها ( الفقر ) ، وحين يرتبط الفقر بالمداس يكون لدورسه طعم التذكر أن مداس الاب كما عبارة اللغة المكتسبة لابد أن تمنحك تعبيرا آخر لشيء جديد ، اما الغضب اتجاه المداس فبعضهم كان يراه اشد قسوة من عصا المعلم التأدبية وان الضرب بالمداس يحبط الكثير من الامال وقد يعتبر نوعا من العقوبات الاذلالية حيث يفضل البعض ان يضرب بالكف والعصا الغليضة ولايضرب بالمداس ،وكان البعض عندما يروه اصدقائه وقد رسم المداس على ظهره او يديه خرائطه يكون مصدر ضحك واستهزاء من قبلهم .
وربما واحدة من الشتائم القديمة اتجاه من نكرههم ونبغضهم قولنا :المداس أبن المداس ، واذا كان جمعاً قيل لهم : يا أبناء وأحفاد المُدسْ …
بين دروس بوذا والمداس عالم من فنتازيا السنين ، عبرت بنا ، وعبرنا بها ، وليس لك ايها الانسان سوى أن تجمع العبارتين في رؤيتين لهاجس فيك ، فأما أن تمضي مع الضوء وكاهنه وتتحرر من القلق الحضاري لتتخلص من امراض روحية كثيرة ومنها النفاق والكذب والمؤاربة واللصوصية والغش والخيانة والتجسس والعمالة والذيلية ، وأما أن تخضع الى لذة الذكريات في دروس مداس الاب الذي كان في طرائقه ومبرراته يقودكَ الى نفس الرؤيا التي يقودك فيها بوذا ، ولكن الرؤية البوذية تمتلك فقها وأدبا وتراثا وقاموسا ،فيما مداس الاب لايحمل سوى الحرص والطيبة ودمعة العوز.
قد يبدو المقارنة بين بوذا والمداس غريبا ، ولكن مادفعني لغوض في تجربة القرين بين الكاهن وما كان ينتعله اباؤنا خفاظا على كرامة اقدامهم في مطبات طرق الحياة هو اني مرة سمعت كاهناً بوذيا في معبد هندي في مدينة حيدر اياد قوله : ان بوذا كان يذهب الى حافة النهر حافيا ليتامل حركة الموج ويتعلم من سيره الذهاب الى البعيد الذي لاقرار له ، ولكن متى كان تأمله في عمق الغابة كان يرتدي مداسا ولكن ليس مصنوعا من الجلد الجاف والصلد بل مصنوعا من ريش العصافير ..
وحتما سنجد الفرق الشاسع بين مداس من الجلد ومداس من الريش..!