نحتاج في هذه المرحلة السياسية الصاخبة والمضطربة إلى هدوء عقلي وسياسي وابتعاد عن السطحية والانفعال وقدر من العزم والوطنية الصادقة لكي نفكر بحالنا وأوضاعنا ، ولكي نقف على حقائق الأمور وجوهرها فنبتعد عن فكر المناكفة والمعارضة المجردة المفرغة من الجدوى ، وممارسة التفكير والكتابة الافصاحية بدلاً من ممارسة التفكير والكتابة الإنشائية ، ونغادر الفكر اليومي والآني بتشتته وانفلاته وعرضيته ، ونحط في الفكر التاريخي بتماسكه وعمقه ودوامه ، وننتقل من الوعي الأسطوري إلى الوعي التاريخي ، وبهذا نؤمن لأنفسنا مناخاً للتفكير العقلاني ومساحة للحوار الإيجابي المتجه نحو المستقبل والرافض لإكراهات الحاضر وسلبياته وعثراته.
ومثل هذه الآفاق السياسية والاجتماعية والفكرية لايمكن أن تفتح أمام مخاضنا السياسي والاجتماعي إلا إذا أدركنا حرارة اللحظة وطغيانها وتسارع التاريخ من انفلاته ، وإلا إذا وصلنا إلى قناعة معرفية بأننا نواجه فناءاً واندثاراً تاريخياً مطلقاً ، وتعجلنا التأمل والتفكير والاقتحام قبل حلول لحظة الإطباق والإخفاق والاستسلام.
يمكننا أن نؤسس لوعي جديد ، وأن نخلق مجالات سياسية عاجلة للحركة والتفعيل السياسي ، فنحن لانحيا بلاماضٍ لابل أن في بعض هذا الماضي مايدفعنا باتجاه المبادرة وتبديد عتمة الحاضر ، ويمكننا أن نجتمع على ثوابت جديدة مستحدثة توقف بلبلة الفكر والواقع وتعزز قناعتنا في التفاعل والوجود المشترك ، وتقوي قلبنا على إدراك مايمكن إدراكه من خطوات تالية تقربنا من الهدف ، وكل مانحتاجه هو نقطة بداية مقنعة ومرعبة في آن واحد . مقنعة للعقل ومتسقة مع متطلبات العصر ، ومرعبة للوجود لكي يتخطى عثرته ومرارة لحظته وليس أفصح من لحظتنا السياسية الوجودية الراهنة لإقناع العقل بالحركة واستنباط الحلول وتحريك وجودنا بالرعب الأخلاقي والمعرفي لكي ينتفض ويتململ باتجاه اليقظة.
تمتد أمامنا الآن وقائع سياسية لابأس بها أن نضعها ولو متأخرين أمام وهج عقلنا السياسي ، ونعاود تأملنا واستخراج الاستنتاج من داخلها لكي نفتح دروب الذهاب والإياب أمام مجتمعنا ، فمن أصعب الأمور توقف المجتمع وجموده عن التفكير والحركة في عالم يفكر وهو يتحرك ويهرول باتجاه المستقبل الآتي الواضح.
إن هذا الوقوف الطويل أمام المشهد السائد لن يخرجنا من محنتنا السياسية، فالمشهد يحتاج إلى خرائط ودروب جديدة ورسومات تشير إلى بقع النهضة والإيجاب الاجتماعي ، وبقع السقوط والانحسار التاريخي ، وبدون ذلك فالعدم سوف يصبغ وضعنا بصبغته وسوف يباغتنا سواده وظلاميته ، وسوف تنحسر من أمام أعيننا الرؤية الواضحة وسطوع الشمس وإضاءات العقل والسياسة والمعرفة.
إنها أمنيات فكرية وسياسية نستبدل بها كلاحة المشهد الراهن وبشاعته ، وهي أمنيات برسم التحقيق عندما يبدأ عقلنا بالسؤال الملحاح:- لماذا ؟ وكيف ؟ والى أين ؟
وعندما تبدأ في داخلنا دقات الالتزام والتضحية والإمساك الواقعي بالإحداث في داخل وعينا الاجتماعي تكمن بلاريب مبادرات وحلول ، وبين ظهرانينا عقلاء وعارفون ، وعلى تراب وطننا العراق بشر يعرفون معنى وقداسة ونبل النبوة والارتقاء الإنساني والطهر المعرفي والتاريخي ، وأمامنا يمتد مستقبل لايجوز أن نستثني من معطياته ، فلماذا لانسأل أسئلتنا المعبرة عن حضارتنا ؟ ولماذا لانطرق باب التاريخ مجدداً لامطأطئين استسلاماً ، وإنما مبشرين بحالة معرفية وحضارية جديدة متخطية للإنسداد والانحباس التاريخي والاجتماعي ؟ ولماذا لانخرج على الملأ بقراءة جديدة لعصرنا فنفاجئ هذا العالم غفلته عنا وإهماله لمنظورنا الحضاري ورؤيتنا التاريخية ، فننفتح على عالم لامكان فيه للتجاهل والازدراء الحضاري؟
[email protected]