مداد – 1 –
ما من كاتب أو سياسي عراقي لايتحدث هذه الأيام عن مدى التردي الذي أصاب واقعنا في المرحلة الراهنة ، وكلهم يُحسن تشخيص هذا الواقع المتردي وتصوير المستقبل المظلم الذي ينتظر الوطن والشعب في حال استمراره. ولكنهم – ماعدا القلة منهم – لا يتعرضون إلى الأسباب التي أدت إلى حدوث هذا التردي أو إلى مسببيه ، ولا يعالجون الوسائل الكفيلة بانتشالنا منه ، وإن فعلوا فإنهم يعمدون إلى التعميم وإطلاق الأحكام المبتسرة والمرتجلة . فحكومتنا عندهم بكل مؤسساتها فاسدة ، والأحزاب مفلسة ، والأفكار قاصرة ، ومختلف فئات الشعب عاجزة مشلولة ، والحريات مذبوحة … الخ . ويتحدثون عن ذلك بأساليب يقطر منها اليأس وكأن مهمتهم من حيث يدرون أو لايدرون هي تقرير هذا الواقع المتردي وتكريسه وتعميقه في نفوس مختلف فئات الشعب وتيئيسها من إمكانية التغلب عليه ، وبالتالي تقبله والرضوخ له كقدر مكتوب عليها ولامهرب لها منها.
إننا لانختلف معهم في أن حكومتنا مسؤولة عن هذا التردي ، ولا في أن الكثير من مؤسسات هذه الحكومة ينخرها الفساد ، بل هو أخطر منه حتى العظم . وإن العديد من الأحزاب قد أثبت فشله وعجزه وانحرف عن خطه . وإن كل الأفكار غير الأصيلة قد سقطت ، وإن الحريات في عراقنا اليوم تعاني أزمة خطيرة ، ولكننا نختلف معهم في طريقة التصدي لكل ذلك.
إننا نعتقد أن الواجب الوطني يفرض على كل كاتب ومثقف عراقي ، وكذلك على كل سياسي وطني نظيف في هذه المرحلة الدقيقة من حياة وطننا وشعبنا أن يكون إخلاصه للوطن ولعموم الشعب قبل أي شيء آخر ، وأبسط ما يفرضه هذا الواجب هو مكاشفة شعبنا بموضوعية وصدق وشجاعة ، ووضع الحقائق أمامه عن كل مؤسسات الحكومة وعن اي حزب أو جماعة أو تنظيم على حدة ، لكي يستطيع أن يعرف من هو الفاسد منها ومن هو غير الفاسد ، من هو المجرم ومن هو المخطئ ، من هو الصادق ومن هو الكاذب ، من هو الذي يتبع النهج الصائب وكيف ، ومن هو الذي يتبع النهج المنحرف وكيف.
كما أن الواجب الوطني يفرض على كل كاتب ومثقف عراقي أن يناقش الأفكار المطروحة مناقشة علمية موضوعية ، فيفرق بين ما هو أصيل منها وما هو طارئ ، وأن يتصدى لمكامن القصور في الأصيل منها بقصد إغناء هذه الأفكار وتطويرها لتكون قادرة على مواجهة هذا الواقع المتردي والانتقال به إلى حال أفضل . أما الحريات فلا يصونها البكاء عليها وإنما الذي يصونها هو ممارستها بصدق مع الذات أولاً ومع الشعب ثانياً ، والنضال الجاد من أجلها.
قد يبدو هذا الكلام قاسياً ، وقد يعتبره البعض جارحاً ، ولكنه في اعتقادنا صحيح ويمثل جانباً من جوانب حالة التردي التي وصلنا إليها إن لم يكن الجانب الأخطر منها . ذلك ، أن الكتاب والمثقفين مهمتهم على الدوام قول الحقيقة ، ومهمتهم الأخطر هي رسم طريق المستقبل . وتلك مهمة كانت ولاتزال وسوف تبقى مهمة شاقة بالمخاطر وباهظة الثمن ، فإذا تخلى هؤلاء عنها فلمن تكون ؟ وماذا تصبح مهمتهم إذن ؟
صحيح أن تشخيص الداء أسهل من وصف الدواء خاصة عند استشراء المرض بصورة خطيرة ، وصحيح أيضاً أن المثقفين والكتاب من أصحاب الآراء الحرة والمواقف الواضحة الجريئة أصبحوا أهدافاً سهلة للاغتيال بل القتل في وضح النهار ، وأن ثمن الكلمة أصبح يعادل حياة صاحبها في كثير من الأحيان . ولكن ذلك كله مع خطورة وبشاعة مايعنيه …لايعفي الكتاب ولاالمثقفين ولاالسياسيين الشرفاء من مسؤولياتهم في قول كلمة الحق إزاء أمتهم وأنفسهم وضمائرهم وأبنائهم الذين تنتظرهم أحلك الأيام إذا ما استمر الوضع على ماهو عليه . وخير لهم إن هم آثروا الراحة والأمان أن يكسروا الأقلام ويعلنوا الصمت ويبحثوا عن مهنة وهوية أخرى بدل اللجوء إلى التعميم والكتابة بأساليب المشي على الحبال أو وسط حقول الألغام فيصبحوا أدوات تضليل للجماهير وشهود زور للحكومة.
لاشك، في أن الوضع العراقي يعيش الآن مرحلة شديدة التردي تعبر عن نفسها في هذا الضعف والتخاذل أمام غطرسة الآخر واحتلاله لوطننا بهذا الشكل او ذاك والذي يعبر عن نفسه في مايحمله من أخطار جدية بتقسيم عراقنا العزيز إلى محافظات (دويلات) طائفية/قبلية وفق الأهداف المعروفة والمعلنة . وكذلك ، تخلي الكثير من القوى والأحزاب والمؤسسات عن الدفاع عن وحدة العراق ، ولاسيما تلك التي ملأت الأرض زعيقاً وادعاءاً ، وأسهمت بدرجة كبيرة وخطيرة في بلبلة آراء اغلب فئات شعبنا وتيئيسها ، وفي المحاولات الراهنة للتآمر عليها ، وشق وحدتها ، كما يفعل البعض أو دفعها إلى التفريط بحقوقها والتنكر لمبادئها كما يفعل البعض الآخر . وتعبر عن نفسها أيضاً في المواقف اللاوطنية التي اتخذها البعض بالانحياز إلى الجانب المقابل وتقديم الدعم له في ممارساته القهرية المستمرة ، وكذلك في موقف التفرج واللامبالاة الذي تقفه القوى الأخرى من هذه الممارسات.
إن تشخيص حالة التردي وتعداد وجوهها ، أمر مهم وضروري لتوعية جميع فئات الشعب العراقي إلى مخاطرها . ولكن الأهم ، وهذا ما ندعوا إليه ، هو تبصير فئات شعبنا بأسباب حدوثها والكشف لهم عن الممارسات الخائنة والمنحرفة التي قامت وتقوم بها حكومات ما بعد9نيسان بمختلف مؤسساتها ولازالت ..لإيصالنا إليها ، وحث المواطن العراقي على امتلاك إرادته بنفسه وتعميق إيمانه بوحدة وطنه وتقديس ترابه ليتمكن من مواجهة هذه الحالة وتجاوزها ، وكذلك ، إطلاعه على حالات النهوض ونقاط الإشراق التي تبعث الأمل بكل تفصيلاتها حتى لايستولي على نفسه اليأس.
إن أحد أهم الأسباب التي أوصلتنا إلى حالة التردي هذه ، في اعتقادنا ، هو الابتعاد عن الخط الوطني الصميمي ، واستهانة البعض حتى بالانتماء إلى المواطنة العراقية ، وركضهم وراء الأفكار الدخلية والحركات المشبوهة التي قامت بيننا ومن حولنا بعد 9 / نيسان او بالاحرى9عارنا (التسمية لي ). إن حالة التردي هذه ليست سوى مرحلة عابرة في تاريخ شعب عريق يمكن القضاء عليها وتجاوزها.