23 ديسمبر، 2024 7:33 م

مدائح جمر الغضى.. في …شمعته الثانية ..الشاعر مهدي محمد علي

مدائح جمر الغضى.. في …شمعته الثانية ..الشاعر مهدي محمد علي

(ها أنذا قُدام المرآة ِ
فياموت تُقدم
إن كنتَ ترى نفسك َ أجمل مني !
                             مهدي محمد علي/ من قصيدة – تكوين )
1-3
تحاول قراءتي المنتجة ،التوقف عند التجربة الحياتية الأهم ،لدى شاعر عراقي لم ينصفه النقد ،ولا الأحتفاءات المربدية ..ولايعني هذا انني سأقوم بإنصاف ٍ يليق بحجم الشاعر مهدي محمد علي..
فتلك مسؤولية النقد العراقي بأسره ..إذن ما سأقوم به لايتجاوز إيقاد شمعتين وعلى ضوئهما أكتب ماتيسر من قراءة منتجة لقصيدة منتخبة من شعر مهدي،وكيف يمكن الكتابة عن تجربتهِ دون تناول الشاعر عبد الكريم كاصد ،قسيمه في التجربة ذاتها، أعني مغادرتهما العراق كنظام شمولي وليس التخلي عن العراق كأرض وأهل وصحبة لايمكن العيش دونها*
(*)
 أستعين بالمتوفر لديّ من المراجع، وأنتخب مايتسق مع
مع أجراءاتي المنتجة ،سأشتغل على قصيدة واحدة من مهدي ،
(الرحاب )..وسأتناول تجربة كريم، لامن خلال ثروته الشعرية* في هذا الصدد  بل من خلال كتابيّ (باتجاه الجنوب شمالا)*(الشاعر خارج النص ) وهوكتاب في (حوار الفكر والشعر مع الحياة )*

(*)
ماينقشه مهدي شعرا على صخرة الوقت…ينقشه كاصد شعرية ً مسردنة في كتابه ( باتجاه الجنوب شمالا) وكلاهما يتناول التجربة ذاتها ، مهدي يستعيدها بالقصيدة وكاصد يستعيدها بسردٍ مشعرن
يتضمن أسطر شعرية في الوقت ذاته ،علماً ان الشاعر عبد الكريم  كاصد تناول التجربة ذاتها شعريا في اعماله الشعرية أيضا…
وهذه التناولات المتنوعة ،تكشف عن عمق الوشم الذي تركته التجربة في الزمن النفسي للشاعر كاصد ،بل أصبحت الرؤية بتوقيت تلك التجربة حصريا..(مارأيت الجمل في أي مكان ،فيما بعد،إلا وأحسست انني التقي مخلوقا عزيزا لدي /ص69/ كاصد خارج النص..) وإذا كان كاصد في (الشاعر خارج النص) محاورا
فهو في (باتجاه الجنوب شمالا ) يخاطب قارئا معينا،ربما يكون قارئا قياسيا أو من القراء العاديين الذين يحبون الإصغاء الى كتب الرحلات،كما تعلن جغرافية الثريا..(باتجاه الجنوب شمالا) ..
اما المخاطب في قصيدة مهدي فهو أمرأة، وضمن التحاور الشهرزادي، هنا سيتم تبادل الادوار ،أعني المرأة تستقبل الكلام
من المرسل الذكوري، الذي يتناول (الرحيل عبر بادية السماوة)
(قلت ِ لي :كيف لو أفلحوا ؟!
مَن سيضرب لي خيمة عند أبوابهم
للمناحة
لو أفلحوا ؟
غير أنك ِ لم تسمعي عند بابي
ضجة الروح
تحت أصفرار المساء
والخريف الذي ظل يتبعني في المنافي !
      *** 
أنت ِ لم تعرفي طائرا
يختفي في زوايا المقاهي
أو يقضي نهاراته في الغرف
طائرا يتفنن في نتف ريش الجناح
طائرا يحتمي بالقوافي
وظلام النهار )…
يتسيّد في هذا المفصل الشعري صوت ذكوري ومن خلاله يصلنا قلق الأنثى ، ومن هذا القلق  ندخل قلق القصيدة وهي تؤرخ شعريا لأشرس فترة في تاريخ الحكم الشمولي أعني  الفترة من 1977 حتى بداية الحرب العراقية الإيرانية..ويمكن قراءة هذا المقطع كقصيدة ونكتفي به فهو غزير بدلالاته ..كقارىء يقودني مفتتح القصيدة الى ماقبله ِ..
(قلت ِ لي : كيف لو أفلحوا ؟!) وأعني بماقبله الحوار بين المرأة والرجل..فالسؤال لايكون حتى في حياتنا اليومية إلا نتيجة تسبقها أسباب ،والسؤال خلاصة بحث في مسألة معينة ..و(السؤال أنثى والجواب : ذكر) كما يعلن سيد البلاغة وإمام نهجها عليه السلام..
والسبب في المقطع الاول محذوف وهذا من جمالية النص الشعري
ويشكل الحذف خلية موقوتة ستتشظى في المقطع الثاني..
الأنثى هنا لاتكتفي بقلق السؤال ،هاهي ترد على صمته بسؤال ثان ٍ
في السطر الثاني من القصيدة ..(مَن سيضرب لي خيمة عند ابوابهم / للمناحة / لو أفلحوا)..قلق الأنثى يقودها  الى نفق لانهاية له   .. فهي تحس ان النخوة في تلك السنوات المد ججة بظلام فاتك
لاتوجد إلا في الأعلام الشمولي !!  إذاً سيكون الخذلان مطلقا :(مَن سيضرب لي خيمة ) والخذلان هو الاسم الحقيقي للجبن ،أما البطولة فكان اسمها آنذاك تهورا وإذا انصفوها اطلقوا عليها انتحارا..كما جرى في موقع الحزب الشيوعي في البصرة /منطقة الحكيمية، حين اعتصم البطلان وليم وأبو وسام وغيرهما وتبدلوا اطلاق النار مع أزلام السلطة وأصابوا رجل أمن بذراعه وارغموا بقية الازلام على الانسحاب..وحين سقطت الفاشية ،لم يبق من أبي وسام سوى صورة معلقة في مقر الحزب الشيوعي في البصرة وذكر طيب لمناضل كان من أوائل المتفوقين في قسم الفلسفة، في جامعة موسكو، اما وليم (أبو انتصار) وشقيقه رستم: خريج  كلية الادارة والأقتصاد ،فلا نعرف شيئا عن مصيرهما..رغم الجهود الدؤوبة للجنة الشهداء في محلية البصرة للحزب الشيوعي العراقي ..
(*)
بعد التساؤل الثاني تنسحب المرأة  صاغية للمكابدات المشعرنة بوجيز جارح ،وسأعمدُ الى ترقيمها :
(1)    غير إنك لم تسمعي عند بابي
ضجة الروح
تحت اصفرار المساء

(2)    والخريف الذي ظل في غرفتي
ساكنا كالغبار
(3)    الخريف الذي ظل يتعقبني في المنافي !
في المقطع التالي ،يكون اشتغال القصيدة ، على التمايز  بين الرجل والمرأة . وسنعمد على ترقيم التمايز :
(4)    أنت ِ لم تعرفي طائرا
يختفي في زوايا المقاهي
في المحطات والحافلات
(5)    أو يقضي نهاراته في الغرف
(6)    طائرا يتفن في نتف ريش الجناح
(7)    طائرا يحتمي بالقوافي
وظلام النهار
نلاحظ ان الطائر في هذا المقطع لايحلق في فضائه الحقيقي ،بل يكابد انزياحا شرسا، يؤدي ذلك الى تقويظ مازوخي ..(ينتفش ريش الجناح) فعلا ما فائدة الجناح تحت سقوف خفيضة ؟!
*زوايا المقاهي
*المحطات
*الحافلات
*الغرف
*ظلام النهار..
نلاحظ ان النص لم يقل المقاهي بل (زوايا المقاهي)…ومن عانى الملاحقة السياسية..يتحسسها جيدا وكذلك لم يكتف النص ب(النهار)
بل (ظلام النهار) وهنا النهار يومىء بشحنة علاماتية استثنائية..
إذاً (زوايا المقاهي )و (ظلام النهار) يتجاوران دلاليا ويشيران
الى مجريات اليومي الدموي..
نلاحظ هنا اتصالية جانحة بين حزمة الفضاءا ت السابقة و فضاء تحاول الذات الاستقواء  به : (يحتمي بالقوافي ) وهذا الاحتماء الشعري بحد ذاته يزيد الذات إغترابا !! إذاً لابد من  نقلة تجاوز لجغرافية الظلام ..وسيكون ذلك في المقطع الثالث للقصيدة وسأقترض من كاصد عنوانا لهذا المقطع : (الرحيل عبر بادية السماوة) : ويعنّون مهدي هذا المقطع (حداء ) :

           (حداء
خبأوا ضوءهم عند منتصف الليل
سارت على هونها أبل
كان حشد النجوم
زينة في سماء البراري
فليكن بعض هذي النجوم
(رجوما)
وليكن بعض هذه النجوم الدليل
خوضوا في مياه السهول
وضياء القمر
خوضوا وأستمر السفر)..أستعين على المقطع الشعري بسردانية مشعرنة من كاصد في قوله ( في هذه الأيام السبعة التي أمضيناها في السير في الصحراء لم تعد تشغلنا سلطة أو بشر أو ماض،بل حاضر حسب..حاضر يتكرر ويتكرر صحراء تمر بآثارها وحيواتها وفضائها / 65/ الشاعر خارج النص )..
ثم يعود الشاعر مهدي محمد علي ،الى استئناف ما بدأه في المقطع الاول من القصيدة اعني مخاطبة المرأة من خلال اتصالية التفارق بينهما ،مع اختلاف جغرافي، يشكل نقلة للحدث  ..
 (أنت ِ لم تلمحي ناقتي
    إذ تحيد عن النجم
   غامضة السير
لم تأخذيها الى السيل مثلي
ولم تبصري عينها وهي تغرق بالدمع
أو عنقها يشرئب
وأضلاعها تستطيل !!) ..
وعن الاحساس ذاته يقول كاصد..(كانت آنذاك جمالاً من لحم ودم لها لحظات فرحها الغامر أيضا، حين تستروح الماء من بعيد فتهتز طربا وينبت لها أجنحة فتكاد تطير /ص67/ الشاعر خارج النص)
ثم يعنوّن الشاعر للمرة  الثانية نصه بذات العنوان الفرعي الأول :
(          حداء
قيل : هذي (الرحاب)
ثم سرنا نهارا بأكمله
وسألنا ..قيل : هذي (الرحاب )
وقطعنا من الليل أكثره
لم نسل ..غير ان الدليل
قال : لمّا نزل في (الرحاب) )
حين نربط هذا المقطع بكلام المتنبي (كم سألنا ونحن أدرى بنجدٍ) أو بكلام كفافي حول (أيثاكا)..فأن هذا الربط يعني تجربتنا في القراء،لا تجربة الشاعر مهدي محمد علي في المشقة..وربما ستكون قراءتنا مجاورة لقراءة بسام حجار لجمال الشاعر عبد الكريم كاصد ولنستمع لكلام بهذا الصدد ..(حين صدر ديواني الشاهدة في بيروت عن دار الفارابي تناوله العديد من الشعراء والنقاد وبين هؤلاء الشاعر بسّام حجّار الذي نعت جمالي انها جمال ميثولوجية،وهي قد تكون ذلك بالنسبة إليّ الآن ،غير انها كانت آنذاك جمالا من لحم ودم /ص67- الشاعر..خارج النص) ..
ستكون رؤية الجمل بالنسبة للشاعر كاصد بتوقيت ذلك الجمل المنقذ :

  (في معصرة ِ الزيت
رأيت ُ الجمل َ الرابضَ بين الجدران
يحدق بي
ويقول :
ألم أحملك طويلا ً في الصحراء ؟
ألم أحملك طويلا ً في الصحراء
ألم ؟/ ص72/ ولائم الحداد )
ومن الجانب الآخر مايتناوله مهدي شعرا يتجاور مع ماجاء في سردانية كريم…(كلما سألنا عن الوصول قالوا لنا (شمرة عصا) غير ان شمرة العصا أستغرقت أياما وليالي سبعة في أرض لاأثر فيها لإنسان وليس فيها من الشواهد غير آثار حيوانات مرّت / ص81/ الشاعر خارج النص  )..وفي قول مهدي عن الناقلة
(أنتِ لم تلمحي ناقتي
 إذ تحيد عن النجم)
هذا الكلام المكثف شعريا حول النجم ،سيتوسع فيه كاصد في قوله (كنا ثمانية..تتقدمنا الجمال في ليلة لن أنسى صحوها الذي يكاد يمطر- كما يقول الطائي أبو تمام – ولمعان نجومها، وظلالنا الهائلة ../81 – الشاعر خارج النص )
وكلاهما (كاصد ومهدي) يصفان النخلة ذاتها ،يقول مهدي
(كيف أفقت ُ على نخلة في القفار
 جذعها كان محتشدا بالفسائل خضراء)..
ويقول كاصد..(وإذ نجتاز صحراء الملح هذه ،تنفتح سماء أخرى
                  أرض أخرى
                  بركة ماء
                 ونخلة ٌ وحيدة ٌ مكتظة بالفسائل / ص83/ باتجاه الجنوب شمالا)..نلاحظ هنا ان الشاعرين مهدي وكريم ،يستعيدان
شعرية الأمكنة ذاتها، وحين يقول مهدي شعرا
(والركب يغتسلون من السيل غير بعيد
 وبعض يؤجج نار الغضا

:(ذهب مهدي الى البركة فجاء بماء في إناء.. في اليوم الرابع لاحت لنا خيمتان / باتجاه الجنوب شمالا) ..

طبقات قصيدة (الرحاب)…
سنعمد الى نوع خفيف من التعسف ،من خلال ترقيم مقاطع القصيدة.
*ترى قراءتي..يمكن الاكتفاء بقراءة المقطع الاول والحصول على فضاء قصيدة قصيرة ذات مديات مفتوحة
*يمكن النظر الى القصيدة من خلال مخاطبين
المخاطب الاول هو المرأة، يتوجه النص الشعري لها مباشرة والمتلقي هو التالي وحصة المرأة المقاطع التالية : 1/2/4/6/7
*المخاطب الثاني : المتلقي ويكون الكلام الشعري موجّه
مباشرة  من خلال المقطعين المعنونين (حداء)..
*فضاء القصيدة
(1) فضاء الضيق/ المدينة
(2) فضاء السعة الصحراوية
في الفضاء الاول يكون الإنسان عرضة للإنتهاك في المدينة التي تحولت مسلخا
في الفضاء الثاني يدخلنا النص في سعة صحراوية، مشقاتها لاتخلو من مباهج حرية..وفي هذا الفضاء يتم تفعيل ثريا القصيدة ،حين  يلفظ أحدهم عنوان القصيدة،كما سمعتهُ بسنوات الحصار،يحيلني الاسم الى علاماتية مكانية تنتسب للعهد الملكي في العراق :(قصر الرحاب)..فالذي نقل التسمية لي، كان قد سمعها من غيره،وربما هذا الغير مثله لم يقرأها..من منحى آخر،القصيدة لايمكن تلقيها بشكل أمثل، دون استعانة بخارج النص ، أعني تجربة الشاعرين : مهدي وكريم.. لتكتمل الصورة الشعرية ببعدها الاجتماعية..
*هذه المقالة منشورة الطريق الثقافي / الملحق الشهري لجريدة طريق الشعب /25/ كانون الثاني/ 2014والمقالة هذه مفصل من دراسة عن تجربة الشاعر مهدي محمد علي
المصادر
*قصيدة تكوين- ص168 / أنظر مهدي محمد علي/ قطر الشذى/ منشورات الهيئة العامة السورية / للكتاب / دمشق / 2008
*بخصوص تجربة الشاعر عبد الكريم كاصد ،ينظر(الشاهدة) مجموعته الشعرية / دار الفارابي/ بيروت /
*(طلبت ُ من المهرب أن يرافقنا صديق لي هو الشاعر مهدي محمد علي ،فلم يمتنع / ص49/ عبد القادر الجموسي/ الشاعر خارج النص / المطبعة السريعة/ القنيطرة / المغرب /ط1/ ) وكذلك ينظر في ص48 / ص66
*عبد الكريم كاصد / ولائم الحداد/ دار النهضة العربية /بيروت / ط1/ 2007
*عبد الكريم كاصد /باتجاه الجنوب شمالا /مؤسسة أروقة / القاهرة/ 2011
*مجلة الغد / العدد الرابع/ 2012/ تصدر عن اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي/ ثلاث قصائد للشاعر مهدي محمد علي /ص70