لم تعد المأساة السورية وتغريبة شعبها، غائبة عن أذهان أي إنسان يعيش على وجه هذه المعمورة، إذ غدت طقساً يومياً عند أبناء الإنسانية كأنهم تعودوه، فيه قصص وحكايات وآلام وآمال وتخيلات وذكريات وتكهنات وفظائع، نسجتها التغريبة والشتات والبُعد عن الديار إلى تجمعات إجبارية، يُعشعش فيها الخوف والمرض والبرد والحرّ والجوع والإذلال والقهر والامتهان لكل هؤلاء.
مخيمات شمال سورية في إدلب وريف حلب، يعيش فيها أكثر من مليون وربع المليون إنسان في ألف وأربعمئة مخيم وتجمع رسمي وغير رسمي على امتداد الحزام الحدودي مع الدولة التركية، فهم لم يجدوا أماناً إلا فيها، وما عداها موت ومعتقلات واستغلال كلما توغلوا في الجغرافيا السورية.
هؤلاء هم المعذبون في الأرض، وقصتهم تختلف عن الأحد عشر قصة التي كتبها الأديب العربي طه حسين في وصف معاناة الناس المُعدمين والفقراء في أحياء القاهرة، حين عكس فيها واقع المعيشية القاسية في منتصف القرن الماضي، وهي مروية تختلف عن ما أبدعه الطبيب الفرنسي فرانز فانون من مروياته ونظرياته في مرحلة ما بعد الكولونيالية في شمال أفريقيا، والتي ترجم فيها سيكولوجيا الضحية والجاني، وهنا نتحدث عن قصة السوريين الذين هاموا على وجوههم في الأرض، وتشردوا في مختلف بقاع الأرض.
ألوف القصص والحكايات والسرديات والمتاعب التي تحدث عنها هؤلاء وآخرون لم يسعهم الحال للحديث فهم ماتوا قبل ذلك، بينما أفصحت قوارب الموت في أعماق مياه البحار والمحيطات، وعصابات تهريب البشر بين القارات عن قصص أكثر وأكثر في مسيرة تغريبة هؤلاء السوريين، ولعل مقاطعة يوكون الكندية المتجمدة على أطراف المحيط المتجمد الشمالي، كانت من محطة من المحطات التي وصلتها عائلة سورية في فبراير 2016، ولا استقبلهم أبناء المقاطعة وحاكمها بدهشة وتعجب، وهي لا يتجاوز عدد سكانها الأصليين 34 ألف نسمة، نتيجة لبُعدها وقساوة تضاريسها وشدة برودتها طوال فصول السنة.
هي قصة ثائرين أحرار تخلى عنهم العالم بأسره، وتعامل مع قضيتهم بطرق اعتباطية لا مسؤولة، ووصفوا ثورتهم بكل الأوصاف، فمنهم من اعتبرها حدثاً عالمياً استثنائياً في سياقاته من بعد الحرب العالمية الثانية، ومنهم من رآها مصدراً للتهديد القومي وبؤرة للإرهاب الإسلامي، ومنهم من عدَّها ثورة وطنية، ولكن قد تهدد نظام حكمه، في حين تعامل آخرون معها بشفقة، وغيرهم نأوا عن أنفسهم وتعاملوا بكل أنانية ونرجسية مطلقة. وهكذا، فكل طرف عاندها وتخلى عنها بوسائله السياسية والعسكرية والمالية والإعلامية. وأقل ما فعله، أغلق حدود بلاده في وجه أولئك الفارين من بطش وسادية النظام الاستبدادي وميليشياته الطائفية وأعوانه من المستعمرين الجدد، ومن إرهاب داعش وعصابات الحماية الذاتية الانفصالية.
لم يتفهم العالم مطلب أبناء سورية في أرضهم ولا في مخيماتهم ولا في مهاجرهم، ولم يتعامل مع ثورتهم على أنها ثورة شعب خرج لاستعادة كرامته المهدورة وحقوقه المسلوبة لعقود مضت. فالسوريون خرجوا من قيدهم وقالوا كلمتهم لإنهاء سياسة الطوارئ وتراجيديا القه والظلم والاعتقالات العشوائية والنهب، ورغبوا بالخروج من مزرعة آل الأسد التي حُبسوا داخلها نصف قرن من الزمن.
فما حدث في سورية، إنما هي ثورة شعبية تحررية، نهض بها وطنيون عرب وغير عرب، مسلمون وغير مسلمين، رفعوا شعارات سلمية في مظاهراتهم واعتصاماتهم “حرية.. كرامة.. عدالة”. ولكن حُرّفت عن مسارها بفعل منهجية النظام الإجرامية وقمعه الوحشي وسلوك أعوانه من أصحاب المصالح الضيقة، ولذا تحولت إلى أزمة عالمية، وعلى الرغم مما بلغته الثورة من اضمحلال وتراجع وسكن أهلها في مخيمات للموت الجماعي، فهي أبانت تواطؤ المجتمع الدولي والعربي ووقوفه ضد إرادة الشعوب، فالثورة السورية كشفت زيف الشعارات الأممية المنادية بحق الإنسان في العيش بأمان وحقه في الحرية والتعبير عن الرأي، وعَرَّت عجز مؤسسات الأمم المتحدة، وهشاشة المجتمعات العربية، وأظهرت التردد والضعف واليأس العربي والتشرذم والتفكك الإسلامي.
ما يريده أبناء المخيمات، وهم يرسمون لنا لوحة من مأساة عصرية اليوم، هو وقفة صادقة مع قضيتهم تعزز بطولاتهم ومجالتهم للظلم، وتعيد إحياء ثورتهم التي ضيقت الخناق على الأسد لولا إنقاذ الدول له، وهم بحاجة لتضامن يحول الألم إلى أمل، ويخرجهم من النفق المسدود إلى مساحات من الأمل والغد المشرق، ويَشد من أزرهم في العودة إلى ديارهم وأراضيهم، والتخلص من طاغيتهم، وإخراج أبنائهم من السجون والعيش بأمان واستقرار، وهذا أقل ما يمكن أن يوفيهم حقهم.
إن التعبير عن تلك الوقفة، تمثله أنشطة إعلامية وثقافية وقانونية شعبية ورسمية، واعتصامات أمام سفارات وقنصليات روسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية وممثليات الأمم المتحدة والدول المعنية بالوضع السوري، وبذل الجهود لمحاكمة المجرمين بقوة قانون قيصر وشرعية محكمة العدل الدولية، والعمل على إصدار تقارير إعلامية وحقوقية توثق جميع الانتهاكات والجرائم، بالإضافة لتحرُّك أقلام الباحثين والكتاب والروائيين وأصحاب دور السينما والدراما ومشاهير الميديا، ليعكسوا حجم الكارثة وأبعادها الإنسانية. كما تُعري مخططات الاستيطان الايرانية في دمشق وحمص وحلب وشرق الفرات؛ مناطق تم تهجير سكانها عبر سياسة الهُدن، برعاية روسية وأممية رسمية، وسكن بديلاً عنهم عائلات عراقية وايرانية وأفغانية ولبنانية موالية لإيران والأسد، وتدبر سياسة تغيير دمشق القديمة وريفها، وحلب القديمة وحمص ديموغرافياً وتنظيمياً وتجارياً، وذلك لتمكين بناها الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية في سورية، وزيادة رصيدها البشري، وبالتالي: تغدو سورية محمية إيرانية، ويستمر مسلسل الألم والتشرد والاغتراب السوري، وتُعمر مخيمات اللجوء السوري، ويصبح حق العودة حلماً كما حال أهل فلسطين من عرب 48، حين خرجوا من ديارهم في عام نكبتهم الأول ولا زالوا يحلمون بالعودة إليها حتى اليوم.