18 ديسمبر، 2024 6:50 م

مخيماتٌ بلا خيامٍ ولا طعامٍ

مخيماتٌ بلا خيامٍ ولا طعامٍ

إن السوريينَ عموماً إلا قليلاً منهم – وللأسف العميق – قد وقعوا في فخ المؤامرة الصهيوصليبية، وانساقوا وهم لا يشعرون في دروبها الملتوية، والتي بدأت منذ اللحظات الأولى لانطلاق الثورة في منتصف آذار 2011.
فكانت أولى خطوات المؤامرة، والمكيدة على السوريين لتفريغ سوريا من المسلمين هي: أنه قد تم إنشاء المخيمات قبل أن يفكر الناس باللجوء، وقبل وجود أية حاجة تستدعي الخروج، مما أغرى، وشجع الناس على الفرار، والهروب من البلد.
وكأن هذه الطريقة الخبيثة – التي ظاهرها الخير، وتأمين مأوى آمن لللاجئين، وباطنها السوء والشر المستطير- كانت تقول للناس: اخرجوا من سوريا بسرعة، فقد تم تأمين السكن المريح لكم! فلا تقلقوا.
وانطلق السوريون الطيبون الخيِّرون، يخرجون زرافات ووحداناً من ديارهم، هائمين على وجوههم، هاربين من المعركة التي فُرضت عليهم، وظانين أنها أيام قليلة ويعودون إلى أرضهم، أعزاء كرماء، كما ظن قبلهم إخوانهم الفلسطينيون، الذين فروا وهربوا من مواجهة الصهاينة اليهود المجرمين، وتشردوا في قارات الأرض كلها.
لكن اللاجئين الفلسطينيين وجدوا – على الأقل – من دول العالم، وخاصة من ما يسمى هيئة الأمم المتحدة، شيئاً من المساعدة، والاهتمام، على اعتبار أن القضية الفلسطينية تهم العرب جميعاً.
فلم يجلسوا في الخيام إلا فترة قصيرة، ومن ثَمَّ تم تحويل الخيام إلى مساكن اسمنتية، وإن كانت صغيرة، وتفتقر إلى الشروط الصحية، إلا أنها على الأقل تحميهم من تغيرات، وتقلبات الطقس على مدار العام.
أما اللاجئون السوريون المساكين! فقد مضى عليهم أحد عشر عاماً ولا يزالون يعيشون في خيام ممزقة، مهترئة، تذروها الرياح حينما يشتد هبوبها.. فيغدوا الناس في مخيمات بلا خيام. يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، التي تجود عليهم بخيراتها من الأمطار، والثلوج، والصقيع، والبَرَدِ، ومن هبات القيظ اللافحة، ومن سموم الصيف الحارقة.
لقد كان الهروب والفرار من سوريا، وقبلها من فلسطين، خطأ جسيماً، وفاحشاً.. مَكَّنَ المحتلين الغاصبين، من تثبيت وترسيخ احتلالهم، وتفريغ البلاد من المسلمين.
ولكن – يا ترى – هل كان هؤلاء مسلمين حقاً؟! هل كانوا يعلنون دينونتهم وخضوعهم الكامل لله رب العالمين، في كل شؤون حياتهم الخاصة والعامة؟! وهل كانوا يفهمون كلمة (لا إله إلا الله) بالشكل الذي يريده منهم رب العالمين؟! وهل كانوا يدركون معنى الألوهية، والربوبية، كما أدركها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخضعون في عبوديتهم لله وحده، ويستسلمون لأوامره وتعليماته في الحلال والحرام، دون سواه من أرباب الأرض؟!
أم أنهم كانوا يرتدون قشرة هلامية رقيقة من التدين، الذي يهتم بالشعائر التعبدية فقط ، ويتركون شريعة الحكم والتنظيم والإدارة لآلهة أخرى؟!
أم كان ارتباطهم بالإسلام عن طريق الوراثة فقط ، وبخيط رفيع واهن هزيل، أوهى من خيط العنكبوت، بحيث أنه حالما ينقطع، تظهر تحته أخلاق الجاهلية السوداء القاتمة، بكل مساوئها، وعيوبها، وأوساخها، وقاذوراتها، وبكل سفاهتها، وفجورها، وتمردها على خالق السماء والأرض؟!
فهل خسرت سوريا هؤلاء المتأسلمين، الشاردين، الهاربين، الفارين من مواجهة المحتلين، ومقاومة المغتصبين، وشذاذ الآفاق، الذين أتوا من كل حدب وصوب.. لمحو الإسلام؛ وسحق كل من له ولو صلة بسيطة؛ وضعيفة بالإسلام؟!
لو كان في هؤلاء خيرٌ، وصلاحٌ، وإيمانٌ، وعزيمةٌ، ولديهم كرامةٌ.. لاستجابوا لأمر الله الذي يقول: (وقَاتِلوا في سبيلِ اللهِ الذين يُقاتِلونَكُم) البقرة 190.
ولاستجابوا لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: في الحديث الصحيح عن أبي هريرة (جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مالِي؟ قالَ: فلا تُعْطِهِ مالَكَ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قاتَلَنِي؟ قالَ: قاتِلْهُ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قالَ: فأنْتَ شَهِيدٌ، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قالَ: هو في النَّارِ).
إذا كان لأجل المال الرخيص، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدفاع عنه، وعدم التفريط به، فمن باب أولى أن يكون الدفاع عن البلاد، وعن الحرمات، والأعراض، أشد وجوباً.
ولكن الحقيقة المأساوية، والمصيبة الكارثية، أن الذين نزحوا من سورية ما عدا النساء، والأطفال، والشيوخ، والمستضعفين، والذين ساروا في الفيافي، والصحارى، وصعدوا الهضاب، ونزلوا إلى السهول، والوديان، وركبوا أمواج البحار في زوارق مهترئة، وعرضوا أنفسهم، وأطفالهم، ونساءهم، للأخطار الكثيرة.. ما كانوا يريدون في هروبهم، وفرارهم، إلا الحياة الدنيا وزينتها.
وما كانوا يفكرون بأن لهم رباً يجب طاعته، وعبادته، ويجب القتال في سبيلة، حتى تحقيق إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.
وما كان يهمهم تحصيل الحرية التي لأجلها قامت الثورة، لأن جميع البلدان التي لجأوا إليها – سواء القريبة أو البعيدة أو العربية أو الرومية – كلها تحكمها الطواغيت، وفيها الظلم، والاستبداد، وفيها التمييز العنصري والقومي المقيت، وفيها العداء المستحكم لدين الله، وفي بعضها كراهية العفة، والطهارة، والفضيلة، وتشجيع الشذوذ، والانحراف الخلقي، وتدمير الأسر، وسلب واغتصاب الأطفال من والديهم، وتربيتهم على الكفر.
لذلك لم تخسر سوريا شيئاً بفرار هؤلاء منها. فهم ليسوا أبناءها ولا ينتسبون إليها، ومهما ردحوا، وبحوا أصواتهم بأنهم راجعون إليها بعد زوال الأسد، فهم كاذبون.
وأما الذين اقتنعوا، ورضوا بأن يقيموا في المخيمات.. فهؤلاء المساكين، يعيشون عيشة القطيع المحزنة والمؤلمة، في خيام ممزقة، مهترئة، أو بلا خيام، وينتظرون لقمة الطعام، أن تأتيهم من المحسنين الذين عز وجودهم مع تطاول المحنة، ومع وجود منظمات نصب واحتيال، تزعم أنها إغاثية، لكنها في الواقع تستولي على المساعدات، وتحولها لحسابها الخاص، وتحرم المستحقين الذين ما جاءت المساعدات إلا لأجلهم.
ومما يدمي الفؤاد، ويفتت الكبد، ويمزق الأحشاء تمزيقاً، ويقطع نياط القلب، أن تجد صبية صغاراً، يمشون في الطين، أو على الثلج، حافي القدمين وبثياب رقيقة ممزقة، في جو زمهرير بارد، وصقيع متجمد، أو ترى صبية ينامون على الصخر بدون دثار ولا لحاف، وصبية آخرون، ونساء أخريات، يبحثون عن لقمة طعام، تسد رمقهم في حاويات القمامة.
وفي هذه الأيام المريرة، تمر الذكرى الخامسة المفجعة، لتسليم حلب على طبق من ذهب، إلى نظام الأسد، وبأوامر مباشرة من الباب العالي، والتفريط بالتضحيات الكبيرة، والأثمان الغالية من الدماء والأرواح، التي دُفعت خلال خمس سنوات لتحريرها، وتهجير وتشريد أكثر من مائة ألف من الناس في هذا الجو البارد.
إن ما حدث في هذه الثورة السورية، ولا يزال يحدث من تناقضات عجيبة، وغريبة، وما يظهر من خيانات، ومن تواطؤ مع الأعداء، ومن خنوع، واستخذاء ممن يدعون أنهم أبناء الثورة ورجالها.. ليقف الإنسان مشدوهاً، ومتعجباَ، ومذهولاً، وحيراناً، ومتسائلاً: هل هذا شعب يريد الحرية والكرامة والعزة؟! هل هذا شعب يؤمن بالله واليوم الآخر؟!
ومن المسؤول عن هذه الارتكاسات والانتكاسات للثورة، بدءاً من تسليم حلب قبل خمس سنوات، وانتهاءً بتسليم معرة النعمان وأخواتها في جنوب إدلب؟!
ومن المسؤول عن الأوضاع المزرية المأساوية في المخيمات، وحتى في المناطق الخارجة عن سلطة الأسد من جوع وفقر وحرمان؟!
وما هو الحل؟!
عودة السوريين إلى دين الله من جديد، وبصدق، وإخلاص، وتمثل شريعته واقعاً عملياً، وليس التمسح بعتبات الشعائر والطقوس الدينية الباردة الساكنة الجامدة.
وفي هذا الشأن يقول سيد قطب رحمه الله:
(إن الناس يعترفون بالله ربا . ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً , بينما يجعلون أوامر هذه الآلهة ومطالبها “مقدسة “) الأعراف ص200.
(من دان لغير الله وحكم في أي أمر من أمور حياته غير الله , فليس من المسلمين وليس في هذا الدين . ومن أفرد الله سبحانه بالحاكمية ورفض الدينونة لغيره من خلائقه فهو من المسلمين وفي هذا الدين . . وكل ما وراء ذلك تمحل لا يحاوله إلا المهزومون أمام الواقع الثقيل في بيئة من البيئات وفي قرن من القرون ! ودين الله واصح . وهذا النص وحده كاف في جعل هذا الحكم من المعلوم من الدين بالضرورة . من جادل فيه فقد جادل في هذا الدين ! ) يوسف ص18.
(والذين يقولون: إنهم مسلمون – ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم – هم كأهل الكتاب هؤلاء , ليسوا على شيء كذلك .
(إن دين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة ! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء . تتمثل في عقيدة تعمر القلب , وشعائر تقام للتعبد , ونظام يصرف الحياة . . ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ; ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم . . وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة , وخداع للضمير ; لا يقدم عليه “مسلم” نظيف الضمير !
(وعلى “المسلم” أن يجهر بهذه الحقيقة ; ويفاصل الناس كلهم على أساسها ; ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة . والله هو العاصم . والله لا يهدي القوم الكافرين). المائدة ص 136.
وإضافة إلى هذه العودة الحميدة إلى دين الله الصحيح، الانضمام إلى (تجمع السوريين الأحرار).
ولا حل آخر غير هذا – مهما حاول الناس أن يبحثوا عن حلولٍ أخرى – فما هو إلا تخبط ، وتيه، وضياع، وتضييع العمر سدى بلا جدوى.
10 جمادى الأولى 1443
15 كانون الأول 2021