9 مارس، 2024 10:48 ص
Search
Close this search box.

مخلمة جلجامش-الاخيرة-

Facebook
Twitter
LinkedIn

-30-
أصيب جلجامش بمرض انفصام الشخصية، موت انكيدو حوّله الى كائن وحيد الخلية، جلجامش اشبه بالاميبيا، منه تناسلت الكلاوات الحضارية لتصيب العالم بالصداع النصفي ليبدأوا بالتهام الباندول ، لم يمت أحد قبل انكيدو!، لهذا فقد جلجامش اتزانه، ولولا ان عشيرته اكتشفت أنه بحاجة الى ميزانية وبلنص…لبقي العالم يسير على تك رِجل، توهّم أن ثلثيه إله وثلث بشري فطغى على الخلق، وحين أدَّبه الموت بقبض روح صاحبه انكيدو اصبح غريباً بين الناس، لهذا استوحش من الناس فعاد لحياة انكيدو الذي تربى في الغابة بين البهائم، قدَّم استقالته لحكومة اوروك وصوّت برلمان اوروك على استقالته بالاغلبية!!، كان معبودا لدى شعب اوروك، وحين خلع ثياب السلطة عن جسده…طعنه الناس في سمعته وأظهروه مجنوناً…اي مجنون يترك السلطة ويعود ليعيش بين الناس كأي مواطن عادي!؟ هذا ذنب لا يغفره الشعب أبداً!!، كلما مرَّ جلجامش أمام تجمع شعبي…يهوّسون خلفه:

هي هي مخبّل…لابس عباة أمه…واسليمه التطمّه…!!

تنازل عن فوج حمايته الرئاسية، وسلّم جميع سياراته الحكومية وتسلّم براءة الذمة في خطوة أولى للاحالة على التقاعد، خلع كل ثيابه الرئاسية، اطفأ ضوء غرفته واغلق بابه وخرج، ترك اوروك خلف ظهره وتوجه الى الكراج الموحد، لحيته الطويلة وشعره الطويل غيّرا ملامحه عن الصور التي تملأ الشوارع الرئيسة في اوروك فلم يتعرف عليه أحد، ثلثاه من إله وثلث من بشرٍ فانٍ اجبراه على التفكير في قضية الخلود…القصب لايمنح الخلود ولايمنع الموت من التقرب إليه…الاسماك وحتى الثيران والخنازير يتعرضون للصيد بين القصب، عليه ان يبحث عن عشبة الخلود في أي مكان يوصله جوازه الدبلوماسي إليه…

سافر إلى أوروبا….ومن هناك الى الهند..، تعرّف على جميع البهارات، ذهب الى الصين للاشتراك في ماراثون لقطع سور الصين هرولة…وعاد الى بغداد…لم يعثر على عشبة الخلود في جميع العواصم التي زارها، ضحك عليه الحشاشون في كل العواصم وافهموه ان عشبة الخلود هي نبتة الحشيشة…دخّنها حتى تحول الى مدمن ولم يقتنع انها تمت للخلود بشيء، في كل مدينة عشبة خاصة بخلود شعبها، لهذا اقتنع أخيرا ان يبحث عن عشبه خلوده العراقي على ارضه…مسيرة البحث بحاجة للبحث عن معلم كي يرشده الى الطريق التي يستدل بها على مكان عشبة الخلود….

اطويرش يستمع للمحقق وهو يروي له أطول قصة سمعها في حياته بليلة واحدة….يشعر ان صوت المحقق يتغير وكأنه يخفي صوت يأسه وبكائه عنه…كيف للمحقق ان يبكي أمام المتهم؟….

-بشرني…جلجامش لكَه العشبة يو…لا؟ احتركَت لشة اجدادك اطويرش على هاي السالفة الغمة…!!

المحقق يقول له:

-بعد ان تعرض جلجامش لكل مسيرات الضحك على ذقنه الطويل…اوقف سيارة تاكسي، كان اسم سائقها ” اوتونوبشتم”…اي شبيك ماسامع بهيج اسم؟ أصلا هذا اسم دلع بذاك الوكت…شلون عدكم اسم “دريد”…”أسامة”…”حمودي حركات”… كان المطر شديدا في تلك الليلة…وصادف ان المجاري انفجرت في بغداد …امانة بغداد لم تتهيأ لاصلاح البنية التحتانية لبغداد فانقطعت الطرق…كان المشهد عبارة عن طوفان جزئي…اغلقت الطرق…الشارع الوحيد الذي لم يغرق هو شارع الملاهي الليلية…السائق نصح جلجامش ان يدخل الى احد الملاهي…ليشرب حتى تتغير نفسيته الزفت…السائق ارشده الى ملهى الطاحونة الحمراء، واعطاه اسم احدى الفنانات الليلية واسمها “سيدوري”…

دخل جلجامش الى الملهى…الأضوية المتحركة تتناسب طرديا مع الردح الموضعي للراقصات…الاستيج الوطني اشبه بحلبة نضال سري يردد الجميع فيه شعار الهتلنة والمرعنة..الجميع يدور حول نفسه او حول راقصة صادف انها ترقص بالقرب منه..

كان الجميع يرقص على انغام اغنية( صمون عشرة بالف)..سأل نفسه:

-اكو شعب بالعالم يركَص على انغام اغنية عن الصمون الحجري؟!!

جلس بدشداشته وعقاله ولحيته وشعره الطويل وحيدا…سأل عن سيدوري…تبيّن انها عمة!! جميع الفنانات اللواتي يرقصن على الاستيج الوطني…انها القوادة الكبيرة بمعنى آخر حبيبي…

أرسلت بطلب بُطِل عرق بعشيقة…حين شاهد جلجامش بطل العرق…تذكر انكيدو وهو يرقص أمامه في المشحوف..اغمض عينيه….وسالت دمعة فوق لحيته البيضاء…سألته سيدوري من انت؟ قال لها انا جلجامش….ولماذا انت هكذا ياجلجامش؟ قال لها: الشوارع غارقة بالمطر وماء المجاري…وانا غريب ابحث عن عشبة الخلود…وهل تبحث عن عشبة الخلود في الملهى؟ شكلك الخارجي يهيىء لك فرصة ان تكون من أمراء الحرب…سمكرة خفيفة لوجهك الكريم وبامكانك الترشيح لتكون نائبا في البرلمان العراقي…قاط رصاصي وقميص ابيض وربطة عنق بنفسجية وتترشح من كتلة سياسية لتصبح وزيرا في حكومة المحاصصة والمماصصة شريطة ان توقع لرئيس الكتلة على ان تعطيهم مايريدون…هل بحثت عن أصحاب السلطة ليرشدونك الى الطريق الحقيقي للعثور على عشبة الخلود؟

جلجامش يقول لها: ذهبت الى الجميع، الشيعة يريدون مني ان أكون شيعيا حتى يعطوني خريطة العثور على العشبة لانهم يدّعون انهم الفرقة الناجية الوحيدة، والسنة يريدون مني ان أكون سنيا حتى يتعاونوا معي كونهم يدّعون انهم الفرقة الناجية الوحيدة، الكورد يريدون مني ان أكون كرديا حتى يناضلون معي في سبيل تحقيق الهدف كونهم يدّعون انهم الفرقة الناجية الوحيدة!، المسيحيون يريدون ان أكون مسيحيا لكي يتعاونوا معي في تحقيق الخلاص والصعود الى الجلجلة لانهم يدّعون انهم الفرقة الناجية الوحيدة!…حتى اليهود يريدون مني ان أكون يهوديا ومساهما في عودتهم الى العراق حتى يتوسطوا لدى المخابرات الأميركية لارشادي الى مكان العشبة لانهم يدَّعون انهم الفرقة الناجية الوحيدة!… دوخوني بمتطلباتهم الدينية والقومية والسياسية ،الجميع يتصور أنه وحده هو الحق وغيره باطل الاباطيل….

سيدوري ضربت بكفها اليمنى على صدرها المربرب وفتحت فمها مستغربة وهي تقول له:

-كل هؤلاء لم يتفقوا على رأي واحد، الخالق واحد والوطن واحد…ويتفرقون…مسكين ياجلجامش وانت تغسل يديك من وطن لايهب لك النصيحة الا بمقابل…ولاالجنسية الا بمنفى ،ولا دار الا بالايجار، ولاقبرا الا بالمكرمة..وفي النهاية يلجؤوك ان تطرق باب الملهى ليزودك بالاجوبة!!..

-ارضنا فقدت عذريتها وذاكرتها…لهذا لاتتقبل الا الطغاة…لم تقولي لي اين اجد عشبة الخلود هذه…

سيدوري القوادة الحكيمة تقول له:

-الخلود أمامك…انس الموت يجيء لك الخلود بقدميه…وحين يجيء لك الموت اعتبره صديقا خانك او حبيبة هربت مع عشيقها وتركتك…كلها طعنات في روحك…وسوف تتمنى ان تريح روحك من عيون الخائنين…انظر الى الجميع امامك وهم يتناسون الموت برقصهم على استيج الوطن الذي يدور بهم…جلجامش…اشرب وتناول طعامك … اختر من شئت من النساء… وحين تعود لبيتك اذهب الى طفلك الصغير في مهده وضع سبّابتك في كفه الصغيرة…سيضم اصبعك حين يغلق كفه..حينها سوف تشعر بخلودك وبقائك على الارض بعد موتك…

اطويرش يستمع الى المحقق وهو يبكي، فيسأله:

-دخيل الحمزة أبو حزامين…انته منو…؟

-اطويرش…انا جلجامش بدينه وطينه…مواطن عراقي من اوروك القديمة…كنت ملكاً والان أصبحت مواطنا عاديا يسكن في هذه المزبلة التي هربت اليها خشية ان تصكك الميليشيات المسلحة…اركض على رزقي صباحا…واعود ليلا…

-وماذا تعمل الان ياجلجامش؟

-لدي عربة للاكلات الشعبية..كتبت عليها( مخلمة جلجامش)..بيض ملوكي ولحم مجاني وطماطة بلون خدود الفتيات وبصل بطعم الخونة…لفات للسلطة..واصابع من خبز مقرمش للكتل السياسية…وفتات من الثريد لمصالح الأحزاب…ثوم للشعارات…وطرشي مدبّس للهاة القادة والسادة…حين ياكل الجميع يكتبون في دفتر الزيارات ان مخلمة جلجامش اعظم من ملحمته التي جابت الفقر والحزن في وادي الرافدين….

ينبلج الفجر على مشهد جلجامش واطويرش وهما يجلسان وسط مزبلة اوروك العظيمة!!، بينما يستمعان لزيييييييييييييييييييييييج حضاري طويييييييييييييل يملأ صفحات التاريخ!!.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب