23 ديسمبر، 2024 3:36 م

مخلفات الديمقراطية……!؟

مخلفات الديمقراطية……!؟

ظني خاطئا حين اجد الفقر الحد الادنى لدرجة العوز المادي عند الناس ولا ادري ان هناك درجات ادني من الفقر تسكن في حياة فقراءنا وتنخر في اجسادهم الى حد العظم وهنالك خط فاصل بين الفقر ودرجاته الدنيا ، كدرجة المسكنة  والتشرد ، وهذه الدرجات جميعا متوفرة , والحمد لله, وتفعل فعلها بجدية ونشاط بجسد الشعب العراقي المعلول…!؟
 
تجاور منزلي ارض متروكة تسكنها عائلة في ادنى درجة من سلم الفقر رزقها اليومي بطرف خيط اليأس و مبنيا على ما تجود به قمامة المحلة من قناني فارغة وبقايا طعام فاسد وقشور……الخ …!؟ رب العائلة يعمل حارسا متنقلا للبيوت التي تبنى في المحلة وبقية افراد عائلته ، زوجته وبنتان يبدأ يومهما بزيارة قمامة المحلة لجمع ما تجود به البيوت المجاورة من رمق وقناني فارغة او حاجيات عتيقة ينتفعون بها لسد قوت الصباح على الاقل….!
 حدث بيني وبين رب تلك العائلة ، شراد ،  تعارف بسيط  فأشتكى لي بعض من معاناته بآهات وحسرات تخلع القلب وتسحب الدمعة من الجفون عنوة . فتكلم باسهاب عن حالته المعدمة وصراعه اليومي مع العوز قائلا :
“كنت احد منتسبي  الجيش العراقي السابق وبعد التغيير ودخول الامريكان الى ارض العراق مسحت حياتي من سجل الوطن واصبحت مشردا وهذه حالة الالاف من زملاء صنفي العسكري”
سكت قليلا وتحسر حسرة عميقة ثم اردف قائلا:
“بين عشية وضحاها امسيت صفرا على الشمال لا املك شيئا ،لا عمل ولا راتب ولا هيبة ، بعت كل شيء و أقفر بيتي باستثناء مروحة ارضية صغيرة اصبحت ملاذي الامن حين اعود من العمل متعبا اختبئ تحتها لتسعفني قليلا من قسوة الصيف القائظ الذي يجعل الدم يغلي في عروقي من شدة حرارته اللاهبة….!؟”
اخرج كيسا من التبغ وسيجارة لفها بيده وقدمها لي اعتذرت له من تلك العادة السيئة التي يتبناها رغم حاجته الماسة لثمن التبغ، اشعلها واخذ منها نفس طويل وكأنه يروم ابتلاعها ثم اخرج عاصفة من الدخان من فمه وانفه وتحسر طويلا ثم واصل الكلام:
“هل ترى ذاك الأناء الفخاري الصغير في زاوية الغرفة هو الذي يطفئ عطشي والعائلة حين املأه ماءا وأضعه في الشباك لكي يبرد لاننا لا نملك أي سلعة للتبريد وحتى ثمن الثلج بعصب الحصول عليه ، لكن كرم دجلة والفرات جعلني قريبا من حنفية الماء…فهي لا تبعد كثيرا عن هذا الحصير الممزق الذي اكل الدهر عليه وشرب ونحن نشارك الدهر الاكل  والشرب عليه ايضا، لعدم توفر سواه فراشا لي ولعائلتي غيره لذلك تراه يتجمل ويتدلل في كل وقت نروم استعماله…..!؟”
صمت لرجل قليلا مع اخفاء ابتسامة تخفي وراءها عتب والم عميق وسخرية لا حدود لها ثم اخذ نفسا عميقا من سيجارته التي لا تزال بيده و قال:
“وتبدا معاناتي اليومية مع حاجاتي التراثية التي تعود الى العصر الحجري. وقد لمستني الحضارة قليلا بسلك كهرباء موصولا بمصباح خافت ومروحتي الجميلة ترتشف منه الكهرباء حتى الثمالة …!! وحين تنقطع الكهرباء يأتي دورالمهفة التي تعد اكثر نشاطا في الصيف في بيوت العوائل العراقية الفقيرة ، لذلك ليس عندي فرق ان انقطعت الكهرباء اولم تنقطع مادامت المساواة والعدالة والديمقراطية تسري من خلف المهفة تلك على كل البيوت دون استثناء وعندها تذوب الفوارق الطبقية…!! “
“وعلى هذا الجدار اعلق ملابسي فوق مسرح الزواحف امثال (ابو بريص) ذلك الزاحف الجبار الذي المس تحرشه الدائم بي لأنه جعل من جيوبي فندقا من الدرجة الاولى لنومه, احيانا ازعجه كثيرا عندما استيقظ مبكرا للذهاب الى العمل واقلق نومه باخراجه من احد جيوبي مع الاعتذار والتوسل…..!! اما الفئران بأنواعها وجميع سلالاتها ، هي والصراصير تشكل ثنائيا رائعا حين تصول وتجول في ارجاء الغرفة واحيانا تشاركنا حتى الطعام ،غرفتي تلك تصلح مختبرا للتجارب العلمية في علم الحيوان…..!؟ “
توقف قليلا واشعل سيجارة جديدة ثم اخذ نفسا طويلا منها ثم قدم لي واحدة واعتذرت واستطرد قائلا:
” وكما ترى فنحن لا نملك جهاز تلفزيون, اشاهد من تلفزيون المقهى احيانا ، مزادات عن اثاث قديم  يباع بأسعار خيالية فأزداد تشوقا ولهفة  واقول لنفسي لما لا اعلن عن مزاد خاص لبيع الكوز هذا والمروحة التراثية…. اليس الكوز الفخاري شاهدا من شواهد الفترات التاريخية السومرية و البابلية و الاشورية والمروحة لمسة كلاسيكية تعود الى بدايات الثورة الصناعية؟ لكن حاجتي الماسة لذلك الثنائي العزيز كبيرة جدا ،خصوصا اثناء النوم على شكل كومة من الاجساد البشرية امام تلك النافذة الصغيرة التي تدور بغنج و دلال وتجمل لتظهر لنا كرمها الحاتمي واهميتها ، فعلا فهي محقة في ذلك ، دونها لا نستطيع مقاومة آهات تموز و آب اللاهبة…… والقناعة كنز لا يفنى…!؟”
ضحك الرجل ضحكة طويلة واخذ نفسا عميقا من سيجارته و قال:
“واخيرا حلت الديمقراطية في بلدي وبدأت تتناقل بين الناس : اليس هي ان تفعل ما تريد دون ان يحاسبك احد ..!؟ …..اردت ان امارسها اسوة بالناس .أليس انا مواطن عراقي…!؟
فقررت الخروج انا ومروحتي وكوزي لأمارس الديمقراطية بشكل فعلي و الجلوس في احدى الحدائق العامة  وانا مبهور في النظر للمارة واذا بي اسمع صوت تهشم  فالتفت و أذا  بكوزي اوصالا متناثرة بعد ان ضربة احد الاطفال بكرته …!! حينها احسست بالانكسار و لطمت جبهتي اسفا وحزنا على رفيق العمر و الدرب هذا وعدت الى البيت انا ومروحتي التي بدأت تشاركني الوحدة و الحزن والانكسار…..! منذ ذلك الحين سخطت على شيء اسمه الديمقراطية وكرهتها لانها السبب  بفقداني اعز ما املك….!؟ “
صمت الرجل ثم ودعني وذهب ، وتركني في دوامة من التفكير في مفهوم هذا الرجل القروي البسيط لمعنى الديمقراطية الغريب.. ومن خلال ذلك وضعت اصبعي على مكمن الخلل والفوضى السياسية وما يحدث من ويلات في وطننا العزيز….اعانك الله يا عراق…!!؟