23 ديسمبر، 2024 1:44 ص

مخدرات الهلوسة الاعلامية

مخدرات الهلوسة الاعلامية

تحرز وسائل الاعلام الرقمية نجاحات متتالية وسريعة في شغل المساحات الزمنية من اهتمامات الانسان اليومية ، وتستحوذ على انشغالاته وتركيزه الذهني والبصري وذلك على حساب التعامل المتراجع مع وسائل الاعلام التقليدية ( التلفاز والاذاعه والصحيفة ) .
ويرتفع معدل تأثير ادوات السوشيل ميديا على المتلقي وذلك مع التطور التقني والتكنلوجي للادوات الرقمية بحيث تخطى التاثير في المشاعر والاتجاهات والميول الى مستوى صناعة عوالم تخيلية وافتراضية .
ويعكف خبراء السوشيل ميديا وطاقم من علماء الطب النفسي على دراسة حال التأثر ومن اتجاه واحد من قبل الانسان الذي يخضع مستسلما لحالة التلقي .
ومن اجل تاسيس المفاهيم العلمية للتعمق في دراسة الحالة ، طرح الدارسون مصطلح الهابيتوس (Hubitus ) للتعبير عن العلاقة الانغماسية للمتلقي امام الهيمنة الرقمية حيث وضع تعريف مؤقت للهابيتوس على انه : مجموعة الاستعدادات لدى المتلقي للتفاعل والتمثيل في العالم الافتراضي الذي يرسمه في تصوراته وتحت تأثير التدفق الهائل للادوات الرقمية .
ولما اقول (مؤقت) وذلك لان الحالة المرضية في تفاقم مستمر وبسرعة التطور المتسارع واليومي في الادوات الاعلامية في ظل توقعات بان المرض قد ينتقل الى مراحل اكبر بكثير من ( القدرة والاستعداد للتمثيل ) الى مستوى التبني العقائدي والفكري .
واعتقد ان المجموعات الدارسة للحالة تتوقع انتقال المتلقي الي مرحلة الانفصال التام عن الواقع في وقت تزداد فيه الفجوة بين الواقع والافتراضي والتخيلي .
ولكن لماذا هذا الهجوم على النجاحات التي تحققها مؤسسات ادارة برامج التواصل الرقمية ؟
اليس الهدف من ابتكار هذه البرامج هو تغيير الانماط والسلوكيات وتقريب الافكار باعتبارها آليات توظف للاعلام والتوعية والتثقيف المباشر للمتلقي ؟
في اعتقادي ان التبعات السلبية الناجمة عن اختراع البرامج الرقمية باتت مقلقة بشان برامج الاصلاح الاجتماعي وخطط التنمية في الدول المصنفة ضمن الصف الاول .
اما في الدول المصنفه ضمن العالم الثالث او عالم الجنوب ، فالحالة اكثر وخامة كونها تتعلق بالمعتقدات والموروثات والعيش في التأريخ والماضي .
بمعنى ادق ان ظاهرة الهابيتوس دقت جرس انذار المخاطر بان الادوات الرقمية اتت بنتائج معكوسة على صعيد الطموحات لتحقيق تنمية بشرية متكاملة .
ويتهم المعنيون الادوات الرقمية وما آلت اليه تفاعلات الانسان معها ، بانها تصنع الوهم والانغماس الافتراضي وتدفع باتجاه تخيل الماضي على انه جميل وبديل عن الواقع كما هو الحال لنسبة 65% من المتلقين في مجتمعات العالم الثالث المهووسه باجترار التاريخ .
دعوني اوضح الفكرة من هذا الجدال ونستعير مثالا من المتداول على مواقع السوشيل ميديا في تلك المجتمعات وخاصة في بعض البلدان العربية التي ابتدعت مصطلح ( الزمن الجميل ) وذلك للتغني بامجاد حقبة تأريخية محددة .
والحقيقة ان هذه الاستدعاءات الماضوية هي عملية انتاج وهمي لصناعة عالم افتراضي للهروب من الواقع الذي تتحداه صعوبات كبيرة .
ولأن الانسان المتلقي عاجز وغير قادر على الصراع وتخطي تلك الصعوبات .تراه يصنع عالمه من الماضي ويتغنى به ، في حين ان المفترض بادوات السوشيل ميديا ان تحرض المتلقي على التحدي والعمل والابتكار والنضال لصناعة واقع اجمل بكثير من ذلك ( الزمن الجميل ) .
في مجتمعات الدول المصنفة بالمتطورة ، يذهب الباحثون الى حد الخشية من ان تؤدي الحالة المرضية الى حد انقراض تلك المجتمعات بعد ان حول الشباب والمراهقون غرف الدردشة الرقمية الى بديل عن الاسرة ،كما تحولت العلاقات الانسانية الى خيال رقمي عبر صداقات وهمية على تلك المواقع .
في الولايات المتحدة ،توقف الباحثون كثيرا عند حالة السجين ادمز الذي حكم بالسجن المؤبد بعد قتله زوجته بسبب تعطل جهاز الواي فاي ولما نقل الى السجن سأل احدهم : هل تتوفر خدمة الانترنيت هنا ؟ فاجيب بالايجاب فقال : جيد ساواصل محادثتي .
قصة السجين ادمز ،تعبر بشكل واضح عن حالة الانطواء الاختياري التي قبل بها الانسان طالما هو يتواصل عبر البرامج الرقمية ولا فرق عنده اينما يكون المكان او الزمان.
والانطواء الايديلوجي هو التحدي الاخطر الذي تبحثه المؤسسات السياسية والامنية بعد التجربة الناجحة للتنظيمات الارهابية في بناء ايديلوجيات انطوائية مغلقة ويتم انتاجها وصياغتها وتأطيرها عبر مواقع التواصل والتي لم تعد اجتماعية .
فتنظيم ( الدولة الاسلامية في الشام والعراق ) نجح في إيهام واستقطاب 43% من عناصره ممن كانوا يقيمون في الدول الاوربيه وذلك عبر صناعة عالم وهمي عن دولة مثالية اقامها على ضفاف نهر الفرات .
هذا النجاح يعود الى قدرة المستغلين المنظمين والمؤدلجين في استثمار ظاهرة الهابيتوس والمتمثلة في استعدادات الانسان للدخول في عوالم انطوائية متخيلة في اطر ايديلوجية ، عرقية او مذهبية وهو مايهدد بانقسام المجتمعات وتشجيعها على العيش الوهي في الماضي وبالتالي التنافر والابتعاد عن متطلبات الواقع وعن ضرورات العيش المشترك ومواجهة تحديات صناعة المستقبل .