10 أبريل، 2024 5:04 ص
Search
Close this search box.

مختار العراقيين في المغرب

Facebook
Twitter
LinkedIn

الدكتور أبو فريد مواطن كلداني مسيحي شيوعي ولد وترعرع في الناصرية المسلمة الشيعية العريقة. حياته، كلها، ضحكة متواصلة.
هرب إلى إيران على إثر إعدام زعيمه يوسف سلمان “فهد” مؤسّس الحزب الشيوعي العراقي ورفاقه أعضاء اللجنة المركزية في آذار/مارس 1949.
تنقل بين قرى إيران ومدنها كـ (فتاح فال) يقرأ الطالع للنساء القرويات ليكسب قوته وليتخفّى عن أعين الحكومة الإيرانية التي كانت تتعقب الشيوعيين.
عبر منها إلى روسيا وتزوّج أم فريد الروسية، وأكمل دراسته الجامعية في موسكو، وحصل على ثلاث شهادات دكتوراه (غير مزورة) في اللغات الشرقية. ومارس التدريس في جامعات الاتحاد السوفياتي طيلة سنوات إقامته في روسيا.
لكن “أبو فريد” لم يخلع عنه ثوب الناصرية أبداً، رغم كل هذه الحياة المزدحمة المليئة بالتغيرات والتنقلات والدراسات. حين تسمعه يتحدّث تخال أنه ترك الناصرية قبل أيام. خفيف الظل، يثير فيك الفرح وينسيك همومك بمجرد أن ينظر إليك ويبتسم. عَلّم زوجته أم فريد لهجة أهل الناصرية. ونشأ ولداه فريد وعدنان في بيت عراقي حتى لا تجد في لغتهما حرفاً دخيلاً واحداً من الروسية أو المغربية حين يتحدثان معك بالعراقية. لكنهما في الوقت نفسه يتحدثان الروسية لغة أمهما، ويجيدان المغربية كالمغاربة.
هاجر أبو فريد من روسيا إلى المغرب، في أوائل السبعينيات وسكن في مدينة القنيطرة التي تبعد عن الرباط العاصمة 30 كيلومتراً.
الطريفة الأهم في حياة أبو فريد أنه اختار أن ينشيء مدرسة ثانوية خاصة ويتعاقد مع الحكومة المغربية على قبول الأحداث المطرودين من المدارس الحكومية لأسباب أخلاقية، ذكوراً وإناثاً، لتقويمهم وإعادة إصلاحهم وتأهيلهم.
وقد اختار لمدرسته اسم الشاعر الفرنسي “لافونتين”. أما مبنى المدرسة فهو نفسه نكتة كبيرة؛ فهو ساحة واسعة جداً تغصّ بالسيارات المعطلة والمخربة التي يشتريها بأثمان بخسة من مزادات السيارات العتيقة، ليقوم هو وتلاميذه وتلميذاته بإصلاحها، ليُعاد بيعها وهي سليمة، ويتقاسم الأرباح بينه وبين تلاميذه المشاركين في الورشة، بالتساوي، يعني أن شيوعيته لم تفارقه قط.
ورغم بعد المسافة عن الرباط وعن الدار البيضاء، فقد كانت مدرسة أبو فريد ملتقى العراقيين، رسميين وغير رسميين، زواراً أو مقيمين. يقصده كل من لديه مشكلة. فهو الدائن الدائم لأغلبهم، وصندوق أسرارهم الأمين.
وأذكر أن الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة تركت الإقامة في فندق هلتون العاصمة، الرباط، بضيافة الحكومة المغربية، في صيف 1980 وسكنت في إحدى غرف مدرسة أبو فريد، وذلك طمعاً في أيام مرح لا تعوَّض، فأطلقنا على تلك الغرفة اسم “هيلتون أبو فريد”. ولا أنسى تلك الأيام والليالي الفريدة التي كانت تُثريها أم زكي بأشعارها وذكرياتها وطرائفها التي لا تنتهي، برقّتها الشهيرة، ودقة ملاحظاتها، وسرعة ردودها الأنيقة الراقية التي لا تصدر إلاّ من سيدة مجتمع عالية الجناب، طبعا مع تعليقات أبو فريد ونكاته التي لا تتوقف.
بعد الظهر كل يوم ٍ صيفي حار يأمر أبو فريد بعض تلاميذه برشّ الفناء بالماء ورصف الكراسي حول الشجرة الوحيدة التي تتوسّط الساحة استعداداً لاستقبال ضيوف سهرة الليل.
وفي كل ليلة تتولّى أم فريد إشعال النار في منقل كبير، وتقطع اللحم والدجاج، ثم تنادي على زوجها: “يا أبو فريد، قوم خط اللخم عالفخم”. فيضحك أبو فريد ويقول ضاحكا: “أنظر إليها، أربعون سنة وما زال اللخم على الفخم”. فقد كان من المستحيل على أم فريد الروسية أن تلفظ حرف الحاء حاءً بل تلفظه خاءً.
حين تدخل غرفة إدارة المدرسة يصيبك الذهول، فكلّ ما فيها آثار عراقية نادرة؛ كتب ووثائق رسمية، من الأربعينيات إلى أواخر السبعينيات، نقود ملكية وجمهورية، صور للملك فيصل الأول وغازي وفيصل الثاني وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين.
وفوق هذا كلّه، تجد لديه على الدوام بضائع مهربة من القاعدة الأميركية في القنيطرة، يأتيه بها تلاميذه ليبيعها على ضيوفه، وبدون أرباح، خدمة للعراقيين الذين لا يجدون مثل هذه البضائع في الأسواق المغربية، وخاصة السجائر وأنواع المشروبات والأدوات الكهربائية المختلفة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب