(إكليل موسيقى على جثّة بيانو)* أنموذجاً
(العراق)
..
جواد الحطّاب شاعرٌ مختلفٌ في معظم أشيائهِ، بداءة ًبالنسيج، وانتهاءً بفلسفة النص.وهذا الاختلاف لم يكن راهناً زائفاً تماشياً مع ظرفٍ و حالةٍ مفروضة، أو مخالفة ًليس إلّا، إنّما كان قريناً لفطرتهِ الشاعرة ِالراغبة ِفي تغيير النسق ِ المتوقّع ِ في الأداء عند المتلقّي:خلقاً للتباين ِالمطلوب، وابتعاداً عن التماثل المرفوض.
فالتماثل يكرّر الماضي بخِصْبِهِ وعُقمِهِ؛ ويزيد في المتبرّمين الرافضين، ويُقلّل من حصول الرضا والإثارة ” فكما ارتبط الشعر بالغناء عند منشده، أو مبدعه، ارتبط بالادهاش والإثارة عند متلقيه : مستمعاً، أو قارئاً، أو مستظهراً معجباً .
ومهما كابر بعض الشعراء من أنّهم لايكترثون لرضا المتلقّي، أو رفضه، فإنّهم يسعون دائماً في سرِّهم إلى نشدانِ رضاه، وتوسيع دائرته على امتداد خريطة الثقافة العربيّة، ومحاولة تحجيم دائرة الرفض، وتصغيرها في حالة تعرّض منتجهم إلى نوع من المقاطعة، أو الانتقاد، أو الرفض في البعدين: الموضوعي والفنّي”(1)
والإدهاش لا يجيء من المألوف، إنّما من المغايرة التي تمتلك القدرة على مخالفة السائد، والخروج عليه بوعي تحديثيّ مدرك يقدِّمُ أنموذجاً مبتكراً يخلق أفقاً في مجادلة السائد، قبل أن يتمرَّدَ عليه.
.
مغايرة الحطّاب مغايرة مدروسة في الشكل والمضمون، ففي الشكل لايتردّد، أو يتوانى في إدخال أيّة مفردة، أو مصطلحٍ، أو آلة، أوأداة في لغة القصيدة، سواء أكانت تلك المفردة نابية، أم غير نابية، كما في قوله:
لو كنتُ مكان المتنبّي
لوضعتُ الأمراءَ جميعاً في الحمّام
وسحبتُ السيفون
طويلاً.
.
أو كما في قوله
:
يا سيف الدولة
حاميت َ(ثغورَ) الأمّه
وأضعت َ(فروج) الناس
مع ما في مفردتي (ثغور) و (فروج) من تهكّم أشارت إليه الأقواس قصداً.
.
أو كما في قوله :
في القاموس
أضيفَ التعريف التالي للكابوس:
حلم…
صنّعه الأطفال…
فهاجم”دسكات” الدولة
كالفايروس.
.
أو كما في قوله:
أمريكا
أمريكا
أمريكا
سيبولُ الشرقُ على دولارات نسائك
لن نُصبحَ بعد اليومِ قرابين الأيروتيكا
وغيرها الكثير.
*******
لمّا كان الإيقاع الجزء المهم من لوازم الشكل، فإنَّ الأمر يقتضي تأصيل القول في (إكليل موسيقى على جثّة بيانو) حصراً، فنقول: إنَّ الحطاب شاعرٌ بالفطرة، مثله مثل الكثيرين من مجايليه، فقد نظم في أساليب النظم جميعها، ونعني بها:أسلوب الشطرين، والتفعيلة، وقصيدة النثر، التي أميلُ راغباً في تسميتها بـ(النصّ المفتوح).
لكنَّ الحطّاب لايميل إلى نشر تجاربه في شعر الشطرين ضمن مجموعاته الشعريّة، ولا يحفل بمنجزه ذاك، لأنّه(كما نظن) منجزٌ يشبه قيداً ارتضاهُ الأسيرُ صاغراً رغماً عنه في حقبٍ معيّنة، وتلك قضيّة فيها اختلاف.
أمّا قصائده في شعر التفعيلة، فجلّها داخلت بين المتدارك والمتقارب [سواء أكانت تفعيلة المتدارك سالمة (فاعلن) أم مخبونة (فعِلن) بكسر العين، أم مضمرة(فعْلن)بسكون العين، أم مقبوضة (فاعلُ)بضم اللام.] و [سواء أكانت تفعيلة المتقارب سالمة (فعولن) أم مقبوضة ً(فعولُ) بضم اللام، أم محذوفة ً(فعو) أم مقصورة ً(فعولْ) بسكون اللام، كما في قوله من قصيدة(المتنبّي) :
لو أنَّ أبا مسلم ٍلم يتشيّعْ لإبراهيم
لو صدق السفّاح…
لوتمّت بيعةُ ابن عبد الله محمّد
ولو أنَّ المنصور
…هل كنت ستنشد من أجل إماره؟!
؟؟؟؟؟؟؟؟؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الشعر…
في زمن القوّاد دعاره
.
وكما في قوله من قصيدة (موسيقى) على غير توال :
قطعنا الطريق إلى منتهاه
أيّها الأصدقاء :
ألم ننسَ في جزمةِ الحربِ
أقدامَ أعمارنا…؟!
××××
أما كان يمكن
أن ينتهي الدرب في منتهاه…؟!
وهذا التداخل الوزني بين المتدارك، والمتقارب هو من الإنجازات التي حقّقتها القصيدة الحديثة إيقاعيّاً ” ولعلَّ ذلك عائدٌ إلى ظاهرةٍ صوتيّة مقطعيّة تسمح بتداخل الأوتاد والأسباب، وتبادلهما المواقع.”(2) وإذا كان” إكليل موسيقى على جثّة بيانو ” خلواً من قصائد الشطرين، ولم تشكل فيه قصائد التفعيلة حيّزاً يذكر، فإنَّ قصائده النثريّة (أو نصوصه المفتوحة كما أحبّذ ُ) شكّلت معظم مجموعته هذه بجزأيها :الأول، والثاني. وهو حرصٌ لايبدو أنَّ الحطّاب سيتخلّى عنه.
.
إنَّ الحديث عن قصيدة النثر عند الحطّاب يفرض تمهيداً قد لا يخلو من هوى النفس، فهذا المصطلح مازال قلقاً في دائرة النقد الأكاديمي، وإنْ سلّمَ به المؤمنون بحتميّة التطوّر الشكلي للأساليب الإبداعيّة على استحياء مردّه أنَّ الكثير مما سمي بقصائد النثر قد أزرت بالدعوة، وقادتها إلى النكوص لا إلى التطوّر مرحليّاً، وكانت وبالاً على روّادها المجيدين، فقد أقدم كلّ من هبّ ودبّ من غير الموهوبين، أو الملهمين على كتابتِها ظنّاً منهم أنّها مجرّد نثر مرصوف ليس غيرا ، ناهيك عن أنَّ بعضهم خلوٌ من أيّ اكتسابٍ معرفيّ يحصّنُ الاستعداد، ويكمّل الفطرة، فضلاً عن جهلهم بموسيقى الشعر، وأوزانه، وإيقاعاته الداخليّة.
وإذا كان حسين مردان(1927- 1972م) أسبق شعراء العراق ارتهاناً بهذا الأسلوب، والدعوة إليه ضمنيّاً، فإنّه لم يجرأ ْ على تسمية ما كان ينشره بـ”قصائد نثر ” إنّما أسماها بـ” من النثر المركّز” ، وقد ابتدأ كتابة نثره المركّز منذ بداية الخمسينيّات، وحتى وفاته في أكتوبر سنة 1972م، ونشر نثره المركّز ذاك في خمسة كتب تسلسلها كالآتي :
صور مرعبة (1951)
عزيزتي فلانة (1952)
الربيع والجوع (1953)
نشيد الإنشاد (1955)
هلاهل نحو الشمس(1959).
فضلاً عن غيرها ممّا نشره في ألف باء، ولمّا يجمعها كتاب، بداءةً بـ(العودة إلى هي) (3)، وانتهاءً بـ(بين الصمت والصوت) (4)، ولم يعدّه شعراً على الرغم مما فيه من عناصر الشعر، وذكر أنَّ ” السبب الحقيقي الذي دفعني إلى كتابة هذا النوع من النثر…اكتشافي أنَّ الوزن يحدّ ُمن إظهار الحيويّة النفسيّة، ونقل العالم الباطني بصورة دقيقة “(5).
إذاً.فحسين مردان صاحب القصائد العموديّة الطوال:(اللحن الأسود1950) و(رجل الضباب1950)، والمجاميع الشعريّة التي هزّت الوسط الثقافي:(قصائدعارية1949) و(الأرجوحة هادئة الحبال1958)، و(أغصان الحديد1961)، و(طرازخاص1967)، وساقته إلى المحاكم لجرأته في بعضها، لم يكن جاهلاً بموسيقى الشعر وأوزانه، إنّما وجدها تقيّده في بعض ما يريد من تعبيرٍ وبوح، فالتجأ إلى بوتقة النثرالمركّز تخلّصاً من تلك القيود، وهذه إشارة وخز مقصودة توجّه إلى أؤلئك الجهلاء بالإيقاع العربي الذين استغفلوا أنصاف المثقفين من المشرفين على بعض الصفحات الثقافيّة، ومرّروا عليهم نصوصهم الفجّة.
وإذا كان بعض الشعراء الشباب قد أشاعوا قصيدة النثر في العراق في منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، فإنّ شيوعها لم يأتِ على نحوٍ مفاجئ، إنّما كان بتأثير مجلّة “شعر” البيروتيّة والقائمين عليها مدّةً ليست بالقصيرة، وكان أدونيس على رأس مطلقي مصطلحها، والداعين إلى تبنّيها، فضلاً عن إسهامات محمّد الماغوط (1934- 2006)، وأنسي الحاج، لاسيّما في مجموعتيه : (لن1934)، و(الرسولة بشعرها الطويل 1975).
لكنّ النقلة الكبرى قد تمّتْ فعليّاً حين تمَّ نشر كتاب سوزان بيرنار”قصيدة النثر من بودلير إلى أيّامنا”(6) فقد أضحى مرجعهم الذي منه يستقون، وبه يستشهدون.
وإذا كان جواد الحطّاب، وبعض مجايليه قد وجدوا متنفّسهم في قصيدة النثر بوصفها ملاذاً لتجديد أفكارهم بعيداً عن القيم الشكليّة، ونزوحاً نحو الحريّة، وإنكاراً لقوانين موسيقى الشعر القديم، ورغبةً في تكسير اللغة، واستجابة ًللتمرّد والفوضى فإنَّهم من جانبٍ آخر قد راعوا التركيز في العبارة، وخلّصوا الأداء من الترهّل والاستطالة، وكثّفوا القول وصولاً إلى اللمحة الدالّة التي ينشدون، وكأنّهم أرادوا بذلك أن يعيدوا تقييم الوظيفة الجماليّة للنصِّ الإبداعيّ.
خذ قول الحطّاب، وتمعّن في تكثيفه، ودلالاته
:
منذ انقطعت سيّاراتُ الأرزاق
قصعات العسكر
حوّلناها…
لـ:مباول مرضى السكّر
.
أو قوله
:
مختنقٌ…
مختنقٌ…
مختنقٌ…
عشر رئاتٍ، لا تكفيني.
.
أرأيت كيف يكثّف اللمحة من أجل أن يصف حصار النفس، والإنسان؟!
أمّا قوله
:
كقوس ٍ هرم
أمشّطُ النعاس عن الغزالة
وأمشي في البعيد…
كأنّني آتٍ
.
فإنّه تكثيف باللمحة الدالة لتقديم صورة الشاعر في هلوسته وهو يدلّلُ بحنوّهِ الغزالة/القصيدة كي تفيق من سباتها، وتولد من رحم العتمة .
*******
حملت هذه المجموعة عنواناً غير مألوف، قصد إليه الحطّابُ قصداً، فهو وإن كان أقرب إلى التعزية التي توضع على جدث المتوفّى إعلاناً بالفجيعة، إلا أنه شكَّل صرخة ًتخفّت بقناع الانزياح، وأعلنت تبرّمها من التماثل، أو المتوقّع في الأداء.
والانزياح على اختلاف أنواعه يشكّلُ ملمحاً جماليّاً في النص الشعري، وإذا ما تمَّ ذلك بإحكام وقصديّة مدروسة؛ تقبّل المتلقّي تلك المغايرة بوصفها تشكّل في المحصّلة النهائيّة إنجازاً جماليّاً ينسبُ للنصِّ وصاحبه.
والانزياح تغيير في نسق التعبير المتوقّع المعتاد إلى نسقٍ آخر يؤدِّي دلالة ً مخالفةً، فهو خرقٌ للثابت، وعدولٌ عنه إلى قصدٍ توليديِّ يخالفُ مقتضى الظاهر السائد، ويخرجُ عنه.
وهذا الانزياح قد يكون ُمعنويّاً فيدركهُ المتلقّي مباشرةً، أو قد يكونُ صوتيّاً كما في قصيدة “غبار السباع” لمحمّد حسين هيثم التي جاء فيها:
بنو عمّي استداروا
بنو عمّي أغاروا
على رجلٍ قليلٍ
عابرٍ في الظلِّ
فاشتدَّ أ ُوارُ
(طراطق طق-طراطق طق- طراطق طق- طراطق طق)
(طراطق طق- طراطق طق- طراطق طق)
وحين ينهزم بنو عمِّ الراوية في تلك المعركة، يميلُ الراوية إلى الانزياح الصوتي:
(فوووووو- فوووووو- فوووووو- فوووووو-فوووووو)، (7)
أو قد يكون الانزياح دلاليّاً، وهو ما قصده الحطّابُ، وأراده، فالانزياح في عنوان المجموعة “إكليل موسيقى على جثّة بيانو ” يُشيرإلى دلالةٍ أخفاها الشاعر على نحوٍ شفّاف، لا يجد القارىء الجاد صعوبة في رفع الحجب عنها حين يضعُ الانزياح جانباً ، ويعيدُ المعدول عنه إلى نسقه التعبيري الأوّل، وهو ” باقة قصائد على جثّة شاعر قتيل ” وهو هنا يريد أنْ يعرِّض رمزيّاً بالتابوات الراديكاليّة الجديدة التي يحلو لها قتل المبدع، والتفريط بالمنجز الإبداعي.
إنّ انزياحات جواد الحطّاب في هذه المجموعة شكّلت ظاهرةً غطّت على بقيّة الظواهر الأخرى، سواء أكانت لغويّة أم فنيّة.ولكي لا نطيل نشير إلى بعضها:
فقوله : ” دون نشيج وطني “معدول عن ” دون نشيدٍ وطني ”
وقوله : ” نجهشُ بعده بالتصفيق “معدول عن ” نجهش بعده بالبكاء ”
وقوله : ” وتناثر تصفيق أجسادنا في الدروب ” معدول عن “وتناثرت أشلاء أجسادنا في الدروب “.
وقوله : ” من شهد منكم الدمعَ، فليقتله ” معدول عن الآية الكريمة ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه “(8).
وقوله : ” فلم ينجُ من الوداع ” معدول عن ” فلم ينجُ من الهلاك “.
ولا يعدم المتلقي وجود غيرها.
إنَّ ظاهرة الانزياح هذه ليست وقفاً على الحطّاب وحده، إنّما كانت منجزاً دلاليّاً لعددٍ ممّن جايل الحطّاب من الشعراء السبعينيين، والثمانينيين، ولعلّ الشاعر عبد الرزاق الربيعي كان أقدمهم شغفاً بانزياح العنوانات، فمجموعته الشعريّة الأولى” إلحاقاً بالموت السابق ” التي صدرت عام 1986م، أعلنت دون لبس عن هذا الشغف بالانزياح، أو العدول، فضلاً عن أنَّ مجموعته الموسومة بـ” جنائز معلّقة ” التي صدرت عام 2000م، ضمّت العديد من القصائد التي نحت هذا المنحى.
كما شغف الشاعر عليّ الشلاه هو أيضاً بدلالات الانزياح، فقد كان عنوان مجموعته الأولى ” ليت المعرِّي كان أعمى” 1987 م، وكانت الثانية بعنوان ” شرائع معلّقة ” 1991م، كما كان الشاعر منذر عبد الحر قد أصدر مجموعتين استخدمتا ظاهرة الانزياح في الصور، والتراكيب، وهما : ” قلادة الأخطاء”التي لا أعرف زمن صدورها، و”تمرين في النسيان ” التي صدرت عام 1997م.
أمّا الشاعر عدنان الصائغ، فقد حفلت بعض قصائد مجموعته ” تكوينات “الصادرة سنة 1996م، بالانزياح، لا سيّما قصيدته الجميلة (خرجت ُ من الحرب سهواً ) فضلاً عمّا كان في مجموعته ذات العنوان ألانزياحي ” تأبّط منفى ” التي صدرت عام 2001م، من قصائد حفلت بهذا المنجز الدلالي، كما هو الشأن مع آخرين لم تستطع هذه الورقة أن تغطّي انجازهم فحصاً، أو قصّرت عن الإشارة إلى مجاميعهم، أو قصائدهم الشعريّة.
.
ولا يفوتنا أنْ نشير إلى أنَّ الحطّاب نفسه كان قد ركّز على استخدام ظاهرة الانزياح في عددٍ من قصائد مجموعته ” شتاء عاطل “الصادرة عام 1997م. ففي قصيدة (الصعلوك) جاء الانزياح في الصور الآتية :
من كان يأكلُ الحفلة َ
دون أن يقشِّرَها من التصفيق؟
أقولُ لجارتي
فراقـُكِ شديدُ الذكاء
فتتّهمُني بالخيانه
و أ ُطمئنُها :
تواردُ نساء ٍ، لا أكثر.
استرعيت ُانتباهَ حديقة ِالأزهار
فأعطتني :
سهرة ًمستعملة ً
وأغنيات ٍبلا أكمام.
آه
رأس ُشعر ٍحليق ٍ من الديون
ولحية ٌ “نقديّة”
وفي قصيدة (طبقات) :
بعد حُلُم..
سأبلغ ُواحداً وعشرين نوماً
سيدخل ُ الإسطبل َ القريب َ من البرلمان
ويغسل ُ الصهيل
وفي قصيدة (ورقة من تقرير شرطة المقابر ليلة دفن الشاعر:رشدي العامل)
…وإذ انتبه”المدعو”رشدي العامل
لعيون ٍتتقفّى آثارَ خطاه
حتّى قرفص َ، وكأنّه يهمّ ُ بقضاء قصيدة
يا صديقي الذي قلّدَتْه الحكومات ُ
أرفع َمعتقلاتها
وفي قصيدة(شتاء عاطل)
أين يُخبّىءُ البخيل ُ
كيسَ أمنياتِه
عندما ينام؟
إذا انقطعت الأخطاء ُ
عن الهُطول..
في أيّ فصل ٍ ينبت ُ الندم.؟
ولست تعدمُ غيرها.
*******
جواد الحطّاب مبدعٌ قادرٌ على خلق ِالتباين ِوالانفصال ِ عن المألوف ِحتّى في مفارقاته الساخرة. ومن يستقري نصوصه بإمعان (في جميع مجموعاته) يتأكّد على نحو ٍ يقينيّ أنَّهُ خلّاقٌ في صناعة ِ سخريّتِه دائماً، والخلّاق ُ كما يقرّرُ أدونيس:” طفلٌ دائم ” (9) ، لهذا نكادُ نوقنُ أنَّ الحطابَ لمّا يُفارق طفولته بعد حين يعلنُ عن نرجسيّتهِ المحبّبة على هذا النحو ِ:
كلّ ُمن عاشر َامرأة ً
– دون إذني –
عدوّي
.
كلّ ُمن عاشرت رجلاً
– ليس يُشبِهُني –
خائنَه (10)
.
إنَّ مفارقاتِه ِ في تكوين صور السخرية تنشدُ المهزأة َ قصداً مع سبق الإصرار والترصّد من حالاتٍ، أو أحداثٍ، أو رموز ٍ لايكدّ ُ الذهنُ، أو يعاني في كشفها، والتعرّف عليها بوصفها المعنيّة بالإشارة دون مواربة
:
ثوم ٌ على الأمّة
جاجيك على الأيّام
.
أديروا، الستلايت، قليلاً نحو بغداد
أديروه إلى”مقهى حسن عجمي”
لا تسألوا: كيف طرد”أبو داوود”
لأنّهُ لم يعد يقوى على حملِ استكانات الشاي (11)
.
أليسَ في هذا ما هو مغايرٌ للقديم، والمألوف، والسائد؟!
ألا تحملُ هذه السخرية أقذع شتيمة للناس والزمن المعيش؟
أليستْ مفارقة ًصادمة ً أنْ يتوصّلَ الحطّابُ إلى حكمة ٍ تقول
:
أثقُ
بعاهرة
لها
نظرة
زعيم
ولا
أثق
بزعيم
له
نظرة عاهره. (12)
.
إنَّ القصيدة َحين تصنع الإدهاش لن تقلِّدَ السائد، وتكرّر الثابت، لكونها رؤيا ونبوءة و” ليست ابنة نموذج أب. إنَّ لها بنيتها الخاصّة بها، ورؤياها الخاصة بها، وعالمها الخاص بها.” (13)
أمّا استخدامه للجاجيك، وهو من لوازم شرّاب (القزلقرط) على حدِّ وصف الشاعر الكبير يحيى السماوي، فلعلّ الحطّاب أول مستخدم ٍ له في الشعر العربي الحديث في مجال السخرية، والهُزء، مع كونه معروفاً لدى الشرقيين والأوربيين .
وقد استغربت ُفي عام 1978م، حين استمعت ُ في اسطنبول إلى أغنية تركيّة يؤدّيها مطربٌ حزين يكرّرُ فيها مصطلح “جاجيك” عند نهاية كلِّ مقطع ٍ مع شيء من التأفّف ِواللوعة !ولم أدرك حتّى الآن ما كان يريد بذلك التكرار.
ختاماً…
أراني راغباً في أن أكرّر ما قلته تعقيباً على مداخلة الحطّاب لحواري مع نازك الملائكة، واختتم به هذه القراءة النقديّة، فقد قلت ُ: ” أوَ لست ُ مصيباً حين أقرّرُ الآنَ أنَّك َالشاعر المختلف بامتياز في توريتِك َ، وَ مجازِك َ، وصوت ِأعماقك ؟ …
بل حتّى في سخريتِكَ المحبّبة التي ولّدتْ هذا التناص، أو التلاص :
ثوم ٌ على أمّةٍ جاجيكُها عفن ٌ
حتّى الغرابُ(إذا ما شمَّ) تنعابُ (14)
لايصلح ُ الشعرُ في المزّاتِ مدرجة ً
حتّى يُلابسُه في القول ِحطّابُ (15)