قد تفرض توازنات الأمر الواقع وإكراهاته، والمعادلات الدولية للقوى الكبرى ، فضلا عن امكانيات البلد الواقعية ونقاط الضعف التاريخية والاجتماعية والسياسية … الخ ؛ أمرا سياسيا مؤلما , اذ لا سبيل للسياسي الوطني والزعيم المحلي الا سلوكه والسير في طريقه من باب اهون الشرين احيانا ؛ او من باب ( مكرها اخاك لا بطل ) فالسياسي الواقعي الحكيم لا يعيش في عالم التنظير والشعارات ولا يتصرف وفقا للأهواء والايديولوجيات فقط ولا يتبع العواطف الجماهيرية عند رسم السياسات وعقد الاتفاقيات الخارجية .
طالما فرض الاقوياء على الضعفاء أمرا باطلا , و واقعا مؤلما , وظلما قاسيا ؛ وعندما يقبل الضعفاء بهذه النتائج السلبية وبهذا الواقع المفروض عليهم بقوة المال والسلاح والنفوذ ؛ لا يعني انهم صدقوا الاقوياء او تنازلوا وبشكل نهائي عن حقوقهم الوطنية او التاريخية او الانسانية , بقدر ما يعني الانحناء قليلا امام العواصف العاتية والصبر على جور الزمان , واعادة تشكيل الصفوف للانطلاق من موقع القوة ومقارعة الاعداء الاقوياء فيما بعد , الا ان النتيجة الحالية هي رضوخ الضعفاء للأقوياء وقبولهم بمعطيات ومخرجات الامر الواقع وان كانت مؤلمة وظالمة وتعسفية … ؛ ويخطئ من يظن ان انتصار الاقوياء على الضعفاء مختصر على وقائع الحياة الاجتماعية وتفاصيلها فحسب ؛ بل ان الامر نفسه ينطبق على عالم السياسة ايضا ؛ فكما تذعن المرأة الضعيفة للرجل القوي , وكما يخضع الضعيف للمقتدر ويستسلم الصغير للكبير والاعزل للمقاتل المسلح ؛ كذلك الدول والحكومات والجماعات ؛ اذ يسيطر فيها الاقوى على الأضعف ويفرض ارادته عليه … ؛ نعم ان سلطات الأمر الواقع قد تكون لا شرعية لها ولا حقيقة واقعية او تاريخية تسندها احيانا , وقد تكون غطاء لشتى اشكال التدخل الاجنبي الا انها تبقى حالة واقعية مفروضة بالقوة والغطرسة والنفوذ والحرب الناعمة وغيرها … ؛ وصدق الشاعر عندما قال :
النواميس قضت أن لا يعيش الضعفاء *** إن من كان ضعيفا أكلته الاقوياء
ولو فكر الضعيف بردة فعل ضد القوي ؛ لجاءت ردة الفعل ضعيفة كصاحبها , ولزادت الطين بلة والوضع سوءا ؛ اذ ستكون ردة فعل القوي قوية وقد تكبد الضعيف خسائر لا طاقة له بها وعندها ينطبق عليه المثل الشعبي : (( ما رضى بجزة , رضى بجزة وخروف ! )) ويعض حينها ؛ على نواجذه ندما ؛ لذا جاء في المثل الشعبي : (( الايد الما تكدر تلويها بوسها )) ولعل من اهم اسباب تشريع التقية في المذهب الجعفري الاسلامي ؛ هو حماية المؤمنين الضعفاء من بطش الكفار والاعداء الاقوياء , والسيرة العقلانية تؤكد ذلك ؛ فالعقلاء في كل مكان و زمان يمارسون مضمون التقية ؛ فالتقية سيرة العقلاء في كل المجتمعات مع المتسلط الغاشم والحاكم القوي الظالم ، فعندما تصادر حرياتهم ويواجهون الخوف على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم … ؛ تراهم يدارون الظالم ليسلموا من شره وظلمه وضرره … الخ .
لذا قيل : السياسة فن الممكن ؛ فعلى الرغم من كون الحكومات التي حكمت العراق من العام 1921 وحتى عام 2003 ؛ تنتمي للطائفة السنية وتتدعي انها من اصول عربية , وتتغنى بالعروبة والخلافة العثمانية والاتراك احيانا , وتربطها عدة روابط مع العالم العربي , وتشتبك بالأواصر القوية مع العالم الاسلامي ؛ فضلا عن عمالتها للإنكليز والقوى الغربية الاخرى , الا انها قدمت الكثير من التنازلات وعلى مختلف الاصعدة للدول العربية والاسلامية والاجنبية , وعقدت الصفقات المشبوهة مع دوائر المخابرات الدولية , فقد تنازلت تلك الحكومات الهجينة والطائفية والعنصرية والدموية والعميلة عن الاراضي الشاسعة والمياه العراقية لدول الجوار , وتبرعت بالأموال الطائلة للآخرين بشتى الشعارات والمسرحيات والذرائع القومية والسياسية والدينية والانسانية , بل انها سلطت الغرباء والاجانب على العراقيين الاصلاء والمواطنين النبلاء , وصيرتهم مواطنين من الدرجة العاشرة , وخاضت الحروب الرهيبة والمعارك الخاسرة نيابة عن الدول الخارجية وتنفيذا للأوامر الاجنبية , وعرضت الجماهير العراقية للجوع والمرض والحرمان والعوز والجريمة والتخلف والبؤس , واهلكوا ملايين العراقيين … الخ ؛ قاموا بكل هذا واكثر , وكان لديهم استعداد لارتكاب كل الجرائم والمجازر والموبقات , وتقديم كافة الاموال والثروات الوطنية والخيرات والمقدرات والطاقات البشرية العراقية للأجانب والغرباء , وافتعال مئات المشاكل والازمات ؛ في سبيل البقاء في السلطة والتشبث بكرسي الحكومة والتسلط على الاغلبية والامة العراقية …!!
فما بالكم بحكومة الاغلبية الاصيلة المنقوصة والتجربة الديمقراطية والعملية السياسية الجديدة …؟
فقد صدم العرب والعالم الاسلامي السني بسقوط النظام البعثي الطائفي الاجرامي عام 2003 ؛ واصيبوا بخيبة أمل , بل ان البعض منهم شبه سقوط النظام البائد بسقوط بغداد على يد المغول ؛ علما انهم يغضون الطرف عن القواعد العسكرية في بلادهم والتي انطلقت قوات التحالف الدولي والقوات الامريكية منها لاحتلال العراق …!!
وبما ان المنطقة تعج بالحكومات الدكتاتورية والانظمة القمعية والبوليسية ؛ ارتعدت فرائص تلك الانظمة من احداث العراق , والتبشير بالتجربة الديمقراطية والحريات , فضلا عن خوف بعض الانظمة من تواجد الامريكان في العراق , واتجاه بوصلة التغيير نحو هذه الانظمة السياسية المماثلة والتي قد تتهاوى كما تتهاوى قطع الدومينو الواحدة تلو الأخرى , لذا جن جنونها وشنت حملات اعلامية شعواء ضد هذه التجربة ورموزها ومبانيها الفكرية والثقافية وأيدولوجياتها السياسية , وشاركت بالأعمال التخريبية والعمليات الارهابية وارسلت الاف المجرمين والارهابيين والذباحين لسفك دماء العراقيين وترهيب العباد وتخريب البلاد … ؛ واستغلت تلك الأنظمة الفوضى المدمرة التي تلت سقوط النظام في العراق – والتي هم من أهم اسبابها – لترهيب مواطنيها أكثر ولتهديدهم بمصير مماثل لمصير العراقيين فيما لو فكروا بسيناريو مماثل لما حدث في العراق وطالبوا بالتغيير والديمقراطية والحريات … ؛ وقد راهنت معظم الأنظمة العربية وأنظمة المنطقة عموماً على فشل التجربة العراقية وافشال العملية السياسية التي تلت سقوط نظام صدام ؛ مما نتج عن هذه المؤامرات محاربة العراق والتضييق على العراقيين والاساءة اليهم في المطارات والفنادق والمؤتمرات والبطولات الرياضية والتجمعات والفعاليات الدينية والانشطة الاعلامية … الخ .
وعليه من سابع المستحيلات ان تتنازل تركيا عن امتيازاتها الاقتصادية السابقة وكذلك الاردن ومصر وبقية الدول العربية والاقليمية والاجنبية المعروفة في العراق ؛ او تقف مكتوفة الايدي ازاء تقسيم ( الكعكعة) العراقية بين الدول الغربية وغيرها ؛ وتخرج ( من المولد بغير حمص – كما يقول المثل المصري – ) خالية الوفاض , اذ عملت تلك الدول والحكومات على تخيير الحكومات العراقية وساسة الاغلبية الاصيلة بين خيارين احلاهما مر , اما الاستمرار بإرسال المخربين والمجرمين والذباحين والارهابيين ؛ والاستمرار بشن الحملات الاعلامية الشرسة والتي تستهدف أمن النظام وضرب العملية السياسية وارباك الاوضاع الداخلية , وغيرها من التدخلات السلبية … الخ ؛ او تقديم التنازلات وعقد الصفقات الاقتصادية والسياسية وغيرها مع تلك الحكومات والانظمة المعادية والتي تصب في صالحها لا صالح العراق , وبما أن الامن يشترى , والذي يطلب الحكم يصبر على اذى الاعداء , اضطر ساسة الاغلبية الى تقديم بعض الامتيازات لتلك الحكومات والانظمة , من اجل حماية الوطن والمواطن والمضي قدما بإنجاح العملية السياسية وارساء قواعد التجربة الديمقراطية ؛ فلا يستخفونكم بحجة الوطنية او يغرروا بكم بذريعة حماية المصالح العراقية ؛ فقد يضطر السياسي للتبرع بمليار دولار لهذه الدولة وقد يعقد اتفاقا اقتصاديا يعود بالنفع على ذلك النظام ؛ من اجل الحفاظ على المكاسب والامتيازات التي حققتها الاغلبية بعد طول ظلم واقصاء وتهميش وعذاب ؛ وغلق الابواب امام محاولات العودة الى ايام الدكتاتورية والقمع الطائفي والتطهير العرقي … الخ ؛ والشيء بالشيء يذكر , اشتكى احد ساسة الاغلبية الاصيلة الى سفير امريكا وقتذاك زلماي خليل زاده والمعروف بجذوره الطائفية الحاقدة وبتحامله ضد الشيعة , بسبب كثرة التفجيرات والمفخخات والعمليات الارهابية والتي تستهدف ابناء الاغلبية وبشكل يومي ومتكرر , مما ادى الى استشهاد عشرات الالاف منهم , فأجابه زلماي قائلا : (( هذه ضريبة الحكم , فأنتم عندما كانوا هم يحكمون كنتم تشنون ضدهم عمليات عسكرية ايضا ..!!)) ومن الواضح ان الفرق بين المعارضة الشيعية التي كانت تقاتل النظام الاجرامي المسنود من اغلب الانظمة واجهزة المخابرات الاقليمية والعربية والدولية , قتال رجال احرار شرفاء , وبين شراذم البعث وايتام النظام البائد ولقطاء ومرتزقة التنظيمات الارهابية , اذ ان المعارضة الشيعية لم تقتل النساء او الاطفال او الشيوخ والمرضى ولم ترتكب مجازر جماعية كما تفعل تلك الوحوش الطائفية والضباع الاجنبية والذئاب البعثية .
نعم قلنا ان السياسة فن الممكن , الا ان هذا الشعار او المبدأ فضفاض وهلامي يحتاج منا الى بيان حقيقته وتوضيح شروطه , فلا يصح تقديم التنازلات الكبرى واقحام الاغلبية العراقية بالمهالك العظمى بحجة سياسة الامر الواقع , وسنبين هذا الامر في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة .