18 ديسمبر، 2024 7:22 م

مخاطر الانقلاب على الجوانب الإيجابية من العولمة

مخاطر الانقلاب على الجوانب الإيجابية من العولمة

لا تنفصل الحقبة الحالية عن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بالذات من المكارثية إلى الريغانية والمحافظين الجدد والأوبامية.

ظاهرة غريبة
تبوّأ دونالد ترامب منصب الرئاسة والولايات المتحدة الأميركية أكثر انقساما وقلقا والعالم أقل أمنا وأكثر اضطرابا. وإذا كانت الحقبة الجديدة من تطور العولمة (نحو التصدع أو التهاوي) بدأت مع الأزمة النقدية العالمية في 2008 إلا أن الترامبية التي تمثّل ظاهرة ترتبط بتطور الوقائع الأميركية وهي ظاهرة مستقلة وليست عابرة نظراً لانعكاسها المحتمل على الشمولية الاقتصادية من جهة وعلى التنوع وقبول الآخر في بلد تكون تاريخياً عبر سيول الهجرة والحلم الأميركي الذي داعب مخيلة شباب العالم. زيادة على تداعيات لحظة ترامب لجهة الارتباك في المشهد السياسي الدولي هناك خشية من تغذية التيارات العنصرية والإسلاموفوبيا في أميركا وغيرها.

ترتبط لحظة ترامب بالعداء لحرية الهجرة والعداء للآخر ثقافيا ووجودياً عبر تحبيذ خطاب القطيعة. وبالطبع لا تنفصل الحقبة الحالية عن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بالذات من المكارثية إلى الريغانية والمحافظين الجدد والأوبامية.

ومما لا شك فيه أنه من منظور سياسي وثقافي وفكري فينومنولوجي هناك تفاعل بين تطور النظريات السياسية في العالم وبين الظواهر السائدة في واشنطن. والأدهى في مرحلتنا الحالية لا يتأتى فقط من انهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية والدور السياسي للغرب فحسب، بل من تراجع القيم الديمقراطية والإنسانية.

هكذا سيتركز الاهتمام في الشهور والسنوات المقبلة على مراقبة مسارح النزاعات العسكرية والحرب التجارية في زمن ترامب، لكن دون إهمال الخلفية الثقافية والفكرية والتداعيات المحتملة على الجوانب الايجابية من العولمة خاصة فيما يتصل بالتجمع البشري والتكور الإنساني وفخ انكماش الهويات.

لم يتركّز علم السياسة كعلم مستقل إلا ما بعد الحرب العالمية الثانية وكان للمدرسة الأميركية دور في تطوره واستقلاليته، ومما لا شك فيه أنه نتاج التاريخ (الجذور والمرجع) وعلم الاجتماع، مع الإشارة للصلة مع الأنثروبولوجيا (دراسة الأجناس البشرية ودراسة الأقليات والجماعات العرقية والصراعات العرقية وتطورها)، والإثنولوجيا.

وفي جميع الأحوال يتصل علم السياسة بالقانون والتاريخ الدبلوماسي والعلاقات الدولية، وهذا ما نلمسه من مراقبة تطور التاريخ الأميركي المعاصر والخلفية النظرية لكل حقبة.

ظهرت المكارثية (السلوك الذي يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر دون الاهتمام بالأدلة) في بداية الخمسينات من القرن الماضي أيام الحرب الباردة نسبة إلى السناتور جوزف مكارثي الذي كان الواجهة الأمامية للحزب الجمهوري وجماعة المحافظين الذين ارتبطت أفكارهم برفض التجديد والتخويف من خطر الشيوعية (الخطر الأحمر).

انتهت اللحظة الاستثنائية للقوة الأميركية مع مغالاة واشنطن في الإدارة الأحادية للعالم بعد نهاية الحرب الباردة والتي تلتها عودة روسيا وصعود الصين والأزمة النقدية العالمية منذ 2008 وما تبعها من انتقال مركز الثقل الاقتصادي نحو جنوب الكرة الأرضية.
وللوهلة الأولى اقتنع الكثير من الأميركيين أن الشيوعية «دين يريد القضاء على المسيحية». لكن تأثير مكارثي أخذ يتراجع بسبب معارضة شجاعة سياسية وإعلامية فندت الترويج للتآمر وجعلت الرأي العام يميل لعدم التسليم بمقولة الخطر الخارجي على حساب الدستور والحريات.

وعلى مر سنوات الحرب الباردة والقيادة الأميركية للغرب ارتبطت سيطرة اللوبيات المؤثرة (اللوبي النفطي والمجمع الصناعي العسكري خصوصاً) بالحروب والتنظير للتفوق الأميركي. لكن بعد نهاية حرب فيتنام وبدء نيكسون لمرحلة الانفتاح على الصين والتهدئة مع موسكو اتجهت واشنطن نحو الليبرالية الجديدة المتشددة والمنفلتة من كل قيد (الريغانية الملازمة للتاتشرية).

فخلال عهد رونالد ريغان طبقت الإدارة الأميركية سياسة “دعه يفعل” الاقتصادية بحرفيتها. واعتبرت الريغانية أن المبادرة الفردية المتحررة من القيود وحدها المؤهلة لتوفير الازدهار العام. ومنحت فكرة انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية الأولوية المطلقة. وشكّل خفض الضرائب والتخصيص ورفع القيود الركائز التي نهضت عليها الريغانية.

وطبقت هذه السياسة في نهاية السبعينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة وبريطانيا وانتشرت بعد ذلك في معظم بلدان العالم. وتميزت سنوات حكم ريغان بتراجع واضح لدور الدولة في الاقتصاد مما أدى إلى خلل اقتصادي-اجتماعي خطير لم يتمكن بوش من معالجته. واكتشفت الولايات المتحدة أن مواقعها التنافسية الدولية تقهقرت بسبب ضعف البنى التحتية وهزالة النظام التعليمي وعدم الالتفاف حول مشاريع تكنولوجية ضخمة خصوصاً إزاء اليابان وألمانيا حيث تلعب الدولة دوراً هاماً في الاقتصاد.

بيد أن الانتصار في الحرب الباردة أيام حورج بوش الأب والزهو بتركيب العالم وفق وجهة النظر الأميركية أجّل طرح الأسئلة الحيوية إبان ولايتي بيل كلينتون اللتين شهدتا زخما في النمو الاقتصادي، لكن ما قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر حصل تحول نظري مهم داخل الحزب الجمهوري الذي أوصل جورج بوش الابن معتمداً على “المحافظين الجدد”، وهم كناية عن تعبير سياسي فلسفي على قاعدة دينية منبثقة من الفكر الأصولي الإنجيلي ومجموعة متشددة في الحزب الجمهوري ولوبي يميني متطرف، تشكلت منذ ربع قرن حتى جاءتها الفرصة الذهبية لتقود انقلابا في التفكير والسياسة الأميركية وتقبض على مفاصل السلطة وتنظر لتزعّم العالم والترويج لفكرة الإمبراطورية الكونية الجديدة.

ومن دون شك أن الاندفاع الأميركي في حربي أفغانستان والعراق أتى بنتائج عكسية وبدأ سقوط الأحادية الأميركية في إدارة وقيادة العالم. ومهّد ذلك لظهور الأوبامية مع وصول أول رئيس ملوّن، لكن الخطاب الأكاديمي والترويج للسلام مع القيادة من الخلف لم يسفر عن تحسينات في الداخل الأميركي أو على صعيد الاستقرار العالمي.

في كل هذه المراحل من المكارثية إلى نيكسون (وكيسينجر المنظّر والدبلوماسي الكبير) إلى الريغانية والمحافظين الجدد والأوبامية كان العالم عامة والغرب خصوصا يعيش على وقع تداعيات الأفكار والممارسة السياسية الأميركية. ومنذ سقوط الشيوعية كان لما يسمى الحرب على الإرهاب وعلى “الإسلام الجهادي” نصيب كبير في صنع السياسات الأميركية التي كانت دوماً بحاجة لعدوّ نظري وعملي في صياغة سياساتها وخططها الإستراتيجية. ولذا يمكن القول إن إخفاقات حقبة أوباما وانبثاق ما يسمى اختصارا بتنظيم “داعش” (مع ما رافقه من انتشار للإرهاب والإسلاموفوبيا)، كانت من الأسباب الرئيسية المسهلة لصعود ظاهرة ترامب واختراقها.

قبل الحملة الانتخابية الأميركية في عامي 2015 و2016 بدا التخبط العالمي مهيمناً وهناك القليل من الأسباب التي قد تدعو للتفاؤل مثل تجديد اتفاق السلام في كولومبيا أو الانفتاح على كوبا والاتفاق النووي “الناقص” مع إيران. لكن الحكايات المشجعة مثل هذه قليلة ومتباعدة. فالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال كان رمزاً بارزاً لالتزام دوله الأعضاء بالتسامي فوق تاريخهم الحافل بالحروب والصراعات؛ أما اليوم بعد البريكست فنجد أن هذا الاتحاد يسير بحركة بطيئة نحو التفكك.

وإذا ما انتقلنا إلى مناطق أخرى فسوف نجد أنّ الأمل الفلسطيني بدولة يتحول إلى سراب وأنّ سوريا قد تحولت إلى أرض مدمَّرة وأنّ دولاً أخرى مثل الصومال والعراق وجنوب السودان وليبيا.. غارقة في دورات عنف لا تبدو لها نهاية قريبة في الأفق.

وفي قارة آسيا نجد أن المشهد السياسي يتغير بشكل متسارع وليس بالضرورة أن يكون إيجابيا. يضاف إلى ذلك أن الخطوط الحمراء الواضحة التي تساعد الدول على عدم التعدي على المصالح الحيوية لبعضها البعض قد أخذت تتلاشى هي الأخرى. ومع تآكل التقاليد الخاصة بالسيادة تعددت أساليب التدخل في شؤون الدول الأخرى، ناهيك عن مخاطر انحرافات عالم القراصنة الإلكترونيين «الهاكرز»، والأسلحة الإلكترونية والطائرات التي تطير من دون طيار «الدرونز».. وغير ذلك من أدوات القوة الجديدة، نجد أن احتمالات وقوع صراعات بين الدول آخذة في التصاعد ونجد أن المشهد الدولي برمته يشهد صراعات تتزايد باستمرار.

ما قبل لحظة ترامب وإبان الحملة التي مهدت لوصولها لم يعد “العالم الجديد” النموذج الديمقراطي الذي تصوّره توماس جفرسون. لقد تغيرت الولايات المتحدة الأميركية بعمق مع سقوط الكثير من المحرّمات واهتزاز في تركيبتها الاجتماعية والسياسية والطلاق بين شريحة واسعة من الرأي العام مع الإيستابليشمانت (النظام أي المؤسسة).

لا تفاجئنا هذه الأميركا في تمثيل رجل الأعمال دونالد ترامب دور المدافع عن المهمش والأميركي الأبيض في آن معا أو في حجم تمويل حملة هيلاري كلينتون وأثر سلطان المال واللوبيات المختلفة. لكنها تبهرنا وتصعقنا أحيانا بكل ما هو جديد وما يتعدى كل الحدود مع خطط استعمار المريخ أو وضع الحامض النووي (ADN) قيد التداول وغيرها من صرعات جنون العظمة والتفوق عند طبقة من كبار أغنياء التكنولوجيا الذين ينشطون لتغيير المستقبل مع الإنسان الآلي (الروبوتات) والطائرات دون طيار والمدن الجديدة النموذجية والطاقة القابلة للتجديد.

بيد أن الواقع الأميركي لا يبدو ورديا إذ أن أميركا المرئية عن بعد بحكم الدعاية الإعلامية الجبارة وهوليوود هي الأكثر تقدما وتطورا وإبداعا ويصح ذلك لناحية السبق العلمي والتكنولوجي وعدد براءات الاختراع.

لكن الوجه الآخر يتمثل في العنف والجشع وشهوة السيطرة وسهولة القتل (من خلال ترخيص حمل السلاح)، وتملك نسبة كبيرة من ثروات الولايات المتحدة واقتصادها العملاق من قبل أقلية أوليغارشية إلى جانب كارتلات الصناعات الحربية والبترولية وغيرها. ويكمن الأدهى في ازدياد الفوارق الاجتماعية وانعدام المساواة.

لم يتحرك في العشرين السنة الماضية المتوسط العام للأجور بينما تضاعفت المداخيل التي يحتكرها 1 بالمئة من كبار الأغنياء. وترافق ذلك مع تداعيات الأزمة النقدية في 2008 وآثار العولمة السليبة على أوضاع العمال والعاطلين عن العمل وغموض الأفق عند شباب لم يجدوا ضالتهم إلا في الديمقراطي بيرني ساندرز ووصفاته الاشتراكية، بينما يهرب الكثير من ضحايا الانقلابات الاجتماعية والرأسمالية نحو الخطاب العنصري والديماغوجي الذي يمثله ترامب.

بالرغم من المحظورات في صميم الإيستابليشمانت يطغى على السطح خلل ثقافي في أغنى وأقوى دول العالم لأن شعبية ترامب لها صلة بانهيارات منظومة القيم وتداعيات الليبرالية الجامحة وتجدر الإشارة إلى أن ترامب يمثل نوعا من الاستمرارية في الحزب الجمهوري لجهة رفض الهجرة والمطالبة بالدولة القوية أو في العودة إلى نزعة الانعزال عن العالم. لا تشمل نهاية الاستثناء الأميركي الداخل بل سينعكس الأمر على صورة أميركا وحراكها العالمي.

منذ عقدين من الزمن قالت مادلين أولبرايت إن “الولايات المتحدة الأميركية قوة لا غنى عنها في العالم”. ووصل التبشير مع المحافظين الجدد لتسويق الأحادية الأميركية مع التركيز على استثنائية المشروع الإمبراطوري الأميركي. في أواخر القرن العشرين بدت واشنطن وكأنها روما وأثينا وإسبارطة ومقدونيا في آن معا. وبالطبع فإن النجاحات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية والثقافية كانت تؤكد على استثنائية القوة الأميركية في العصر الحديث.

انتهت اللحظة الاستثنائية للقوة الأميركية مع مغالاة واشنطن في الإدارة الأحادية للعالم بعد نهاية الحرب الباردة والتي تلتها عودة روسيا وصعود الصين والأزمة النقدية العالمية منذ 2008 وما تبعها من انتقال مركز الثقل الاقتصادي نحو جنوب الكرة الأرضية. حتى إشعار آخر لن تُسلّم أميركا بفقدان دورها القيادي مع تعمق نزعة التعالي وصعوبة إصلاح السياسات الأميركية.

ويصرّ البعض داخل المؤسسة الأميركية على التسويق لمشروع إمبراطوري يهدف إلى تثبيت التفوق الأميركي وتحويله إلى سلطة عالمية تفرض سطوتها على القرن الحادي والعشرين (على الأقل). بالطبع تحافظ واشنطن على الكثير من عناصر قوتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا، بيد أن تشكيل العالم وفق التصور الأميركي والرغبة الأميركية ليس ممكنا في ظل التحولات المتسارعة وخلط الأوراق في اللحظة الراهنة من العلاقات الدولية.

الترامبية تمثل بعد أكثر من ستين عاما عودة شكل من المكارثية إلى الواجهة من جديد عبر نفس الحزب الجمهوري، مع الاختلاف في تسمية العدو في الوقت الراهن حيث يبدو الإسلام في هذه الحقبة بمثابة العدو الأبرز لأميركا.

لكن الترامبية تعكس في العمق المأزق في المسار الأميركي بعد نهاية الحرب الباردة لأن “نهاية التاريخ” لم تحصل ولأن عصر الرخاء والسلام لم يحلّ ولأن التبشير بالديمقراطية أو فرضها لا يمرّان من دون مقاومة ولأن العولمة الشمولية غير الإنسانية أصبحت عبئا على الولايات المتحدة التي قادتها. إزاء هكذا تحديات تتركز أجوبة ترامب على مواجهة الآخر وتحبيذ التمييز العنصري من جديد والانعزال.

مع تمركز دونالد ترامب هبّ إعصار سياسي وقانوني وبرز ذلك مع الصخب في المواقف وكمية القرارات التنفيذية الموقعة وبعضها مثير للجدل، ومن أبرزها قرار منع دخول الأراضي الأميركية على رعايا من سبعة بلدان غالبيتها إسلامية تحت عنوان الحماية من خطر الإرهاب.

ومن الواضح أن ترامب، الذي يريد أن يثبت بدء عهد جديد في واشنطن والعالم وأنه كان يعني ما يقول خلال حملته الانتخابية أو في المرحلة الانتقالية قبل تسلّمه الحكم والذي تطرق سابقاً لاحتمال فرض حظر على المسلمين، استعجل إصدار قراره حول التأشيرات والإقامة من دون أن يستشير بقية المؤسسات ويفحص قانونية القرارات.

الترامبية تعكس في العمق المأزق في المسار الأميركي بعد نهاية الحرب الباردة لأن “نهاية التاريخ” لم تحصل ولأن عصر الرخاء والسلام لم يحلّ ولأن التبشير بالديمقراطية أو فرضها لا يمرّان من دون مقاومة ولأن العولمة الشمولية غير الإنسانية أصبحت عبئا على الولايات المتحدة التي قادتها.
في كتابه “روح القوانين” الصادر في عام 1748 أرسى الفرنسي شارل مونتسكيو نظرية فصل السلطات ومن أهم مبادئها ” السلطة تحد السلطة”، واليوم تبرز أهمية هذا المبدأ في الولايات المتحدة الأميركية حيث تنبري السلطة القضائية للوقوف في وجه سيد البيت الأبيض الجديد لكي لا تخالف قراراته التنفيذية الدستور الأميركي ومنظومة قيمه التي تحرم التمييز على أساس الدين والجنسية.

في النظام الرئاسي الأميركي لا يعدّ الرئيس طليق اليدين وهو مقيد باحترام لعبة المؤسسات ابتداء من حزبه إلى الكونغرس المكوّن من مجلسي النواب والشيوخ. وفي هذا النظام الفيدرالي تمثل المحكمة العليا رأس السلطة للحكم في دستورية القوانين وشرعيتها.

تبعا للارتباك الذي حصل داخل المجتمع الأميركي الذي يعاني من انقسامات تهدد تعدديته وتذكّر بمراحل التمييز العنصري لا تبدو مهمة ترامب سهلة في إدارة نظام ديمقراطي عريق بمراسيم وقرارات تنفيذية غير مدروسة تضرب صورة الولايات المتحدة البلد الذي تكوّن من المهاجرين وقدم نفسه زعيماً للعالم الحر في فترة الحرب الباردة.

بالفعل يهز “الإعصار” دونالد ترامب الغرب ويهدد وحدة موقفه. من ترحيب الرئيس الأميركي بالبريكست وتأييده الضمني لإضعاف أو انفراط عقد الاتحاد الأوروبي يخشى الغرب الأوروبي من التغريد المنفرد للغرب الأميركي إذ لم يتردد ترامب عن التشكيك بحلف شمال الأطلسي دعامة الغرب العسكرية .

كما يتنوع “الشرق” جغرافياً وسياسياً وحضارياً ويختلف من أدناه إلى أقصاه يرتسم في الأفق تنوع مماثل في “الغرب” بمعناه الأوسع مع احتمال تحلل الرابطة الغربية بجناحيها الأميركي والأوروبي. تطالب الكثير من الأوساط الأوروبية بتعويض احتمال انشطار الغرب السياسي “حتى لا يضيع الغرب بالكامل كنموذج وقدوة لحقوق الإنسان والحرية والكرامة ودور الفرد”.

بيد أن هذا النموذج يواجه ضغوطاً داخل أوروبا من قبل الحركات القومية المتشددة والشعوبية في فرنسا وهولندا وألمانيا التي يمكن أن تحرز نجاحات تدفع للمطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي. ولذا ترتبط حيوية الغرب الأوروبي وموقعه على الساحة الدولية بقدرته على الدفاع عن نفسه إزاء التوجهات الأميركية الجديدة ولا يمكن ذلك من دون إعادة بلورة المشروع الأوروبي بصيغة أكثر تماسكاً. كما يبدو من المهم رفض الاستشراق العنصري في أوروبا وضرورة اشتراك النخب العربية والمسلمة في السجال الفكري الدائر حول الإسلام وتطويره.

في مواجهة المكارثية الجديدة والحملة ضد الإعلام وإشهار سيف التخوين يمكن أن تحصل صراعات مفتوحة خالية من القواعد ومن الموانع في سبيل تحقيق القوة والنفوذ السياسيين، وهي صراعات ستشكّل من دون شك تهديداً خطيراً للنظام الدستوري والاستقرار الداخلي في الولايات المتحدة.
نقلا عن العرب