– مدخل
لطالما يطرح هذا السؤال هذه الأيام، لماذا قامت الثورة في العراق الآن؟ وتحديداً في الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، وبعد مرور 17 عاماً من سقوط النظام السياسي السابق، وإقامة نظام ديني تقوده في معظمه أحزاب دينية شيعية، إلى جانب أحزاب كردية، وفصيل مسيحي أشوري، وعدد من السُنّة الملتحقين بهم بتشجيع أمريكي على دخول هذا النظام.
ورغم التبجح بإقامة نظام ديمقراطي إلاّ إن الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 لم يستطع أن يقيماً نظاما سياسياً متوازناً ومنسجماً، بل قسَّم الشعب العراقي الموحد إلى أربع مكونات بشرية، هي: (الشيعة، الأكراد، السنة، والأقليات) ليسهل السيطرة عليها. وألقى أسباب الفشل في ذلك على التوجه الشيعي الموالي لإيران، والذي إستلم السلطة فعلياً بعد سنة واحدة فقط من حكم إنتقالي أقامه الحاكم المدني الأمريكي تحت مسمى “مجلس الحكم”.
إنسحاب أمريكي من العراق
وبمغادرة بريمر عام 2004، وبإنسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2009، وقع العراق فريسة لإيران لتستخدمه ورقة رابحة في مفاوضاتها وتعاملها مع إيران مستغلة التقارب المذهبي والهيمنة على المرجعية الدينية والأحزاب السياسية الموالية لها، وأصبحت مقدرات هذا البلد الغني نهباً لكل الطامعين من دول أجنبية وأحزاب وأشخاص فاسدين.
السقوط في فخ التمرد والقمع
الثورة نتيجة وليست سبباً، وهي كالولادة تمر بمخاض طويل، وقد رأى العراق حلم في الديمقراطية يتبدد، منذ الأيام الأولى للإحتلال الأمريكي. ونتيجة لذلك، ثارت المحافظات ذات الأغلبية السنية مثل الأنبار وديالى وكركوك والموصل مطالبة بتحسين الأداء الحكومي وتقديم الخدمات وإعطاء الحقوق، إلا إنها جوبهت بقسوة وقُضيّ عليها بإتهامها بالإنضمام للجماعات الإرهابية الجهادية السُنيّة مثل القاعدة وغيرها، فدفعت ثمناً باهضاً ثم أخضعت تماماً لإيران من خلال جماعات سنية موالية دُعيت (سُنّة السلطة أو سُنّة المالكي)، فداروا حول الفلك الإيراني.
أما الموصل، وهي أعرق تلك المدن وأصلبها، فقد تعاون الجميع ضدها من خلال تسهيل دخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فقد كانت غاية الأمريكان إحراج السلطة الشيعية الموالية لإيران في العراق، فيما وجدت فيها إيران ذريعة لسحق قلعة المعارضة التاريخية ضدها، بينما وجدت تركيا في ذلك، طريقة للإنتقام من جزء عزيز إنفصل عنها برغبته عام 1925 وفقاً لقرار عصبة الأمم المعروف في قضية الموصل. ونظراً لتظافر كل تلك العوامل الدولية القوية، سقطت المدينة في حزيران 2014 بيد داعش التي لم تخرج منها إلا بعد 3 سنوات متواصلة من الحرب على الإرهاب وفق خطة الأرض المحروقة التي إنتهت عام 2017، بكلفة بشرية ومالية باهظة جداً. ضاعت فيها ميزانية عام 2014 بأكملها ولا يوجد حتى الآن ما يفسر أسلوب صرفها. ولحقتها مليارات 3 سنوات أخرى قدرت ب 450 مليار دولار أمريكي، ناهيك عن التضحيات البشرية الهائلة. وخرجت إيران منتصرة أوباما من خلال إنشاء قوة مسلحة مؤلفة من عدد كبير من الميليشيات زادت عن 250 فصيلاً متنوعاً، من بينها ميليشيات مسيحية وأشورية وشبكية وحتى يزيدية، وكلها تعمل وفق فتوى المرجع الديني الشيعي (السيستاني – إيراني الأصل) وكلها -حتى المسيحية منها- تبحث عن يزيد الخليفة الأموي الثاني (647م – 683م) قاتل الحسين بن علي، للإنتقام منه. في حركة مجنونة أعادت العراق الحضاري إلى الوراء لأكثر من 13 قرناً بأكملها. فتعطلت الدولة وأصيبت مرافقها ومؤسساتها وصناعتها وزراعتها ومدارسها ومستشفياتها بالشلل شبه التام. فسادت الفوضى عموم العراق، مع إستثناء طفيف في أقليم كردستان العراق المختلف مذهبياً والقائم على أساس قومي.
رغبات قديمة من زمن الإستعمار البريطاني
وقد وجد الأكراد في سقوط الموصل بيد داعش، وإنشغال الحكومة المركزية بمحاربتها، فرصة ذهبية لطالما تمناها مؤسس الحركة القومية الكردية في العراق مصطفى البارزاني منتصف القرن التاسع عشر، فأعلن ابنه مسعود رئيس إقليم كردستان العراق الأستفتاء الشعبي الكردي على إستقلال كردستان العراق تمهيداً لإنفصاله عن دولة العراق في 25 سبتمبر 2017. فثارت إيران وهاجمت محافظة كركوك الغنية بالنفط والعزيزة على قلوب الأكراد، ولم تتدخل الولايات المتحدة لحمايتهم بل تخلت عنهم تماماً، فإضطروا هم إيضاً إلى الانضواء تحت النفوذ الإيراني، وكانوا أخر الفرسان الذين بقوا يقارعون النفوذ الفارسي في العراق، مقابل إستعادة مكتسباتهم من الحكم الشيعي والحفاظ عليها. وبسقوط مقاومة الكرد لإيران خلت الساحة للأخيرة بشكل كامل.
– أحلام كسرى
وكانت إيران قد توصلت إلى إتفاق نووي مع الولايات المتحدة والدول الخمس الكبرى عام 2015 مستفيدة من نفوذها في دول الهلال الشيعي (العراق-سوريا-لبنان) حتى قارب أن يصبح بدراً، على حد وصف المندوب الأمريكي برايان هوك. وأخذ النظام الإيراني يفتخر بهيمنته على أربع عواصم عربية بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، مستذكراً مملكة كسرى فارس، ورفعت صور خميني وخامنئي فيها علانية، وبكل وقاحة.
إلا إن هذه الفوضى قادت -كما أرادت مهندستها كوندليزا رايس- إلى ظهور حركة وعي قومي متمرد للواقع المختلف، تبلور من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمؤتمرات والمؤلفات والأنشطة المختلفة، فنما جيل جديد لم يشهد قسوة البعث ولم يقبل تخلف الحكم الشيعي. وساعد على تنامي ذلك، هو تغيّر الإدارة الأمريكية، ومجيء رئيس جديد مغاير تماماً في توجهاته نحو إيران، فألغى الاتفاق النووي في مايو/أيار عام 2018، وألحقها بعقوبات متتالية قاسية.
أسباب ثورة العراقيين
إزاء تغيير الرياح الدولية، وجد العراقيون أنفسهم منقسمون مجتمعياً، عراة من الحقوق ومتخلفون عن الحضارة، ولم يبقى من مكونات الشعب وفرسانه من لم يسقط سوى الشيعة العرب في العراق، فثارت أول محافظة شيعية جنوب العراق وهي البصرة عام 2018 وأحرقوا القنصلية الإيرانية في 7 سبتمبر من ذلك العام، وردّت إيران من خلال عملائها في العراق بحرق القنصلية الأمريكية بعد أيام. وقمعت حركة الإحتجاجات تلك، إلا إنها لم تخمد، بل بقيت جذوة النار تحت الرماد، لتندلع مجدداً في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، فدفعت في الأسبوع الأول منها أكثر من 130 قتيلاً وأكثر من 7000 جريحاً، ونظراً لمصادفة مناسبة دينية شيعية هي أربعينية الحسين، فقد تقرر تأجيلها إلى يوم 25 من ذلك الشهر، لتنطلق بشكل أقوى ويسقط خلال اليوم الأول منها 40 قتيلاً، و2312 جريحاً.
ويمكن تحديد الأسباب التي قادت إلى ثورة العراقيين، وكما يلي:
الإنحراف عن المعايير الصحيحة والصورة النمطية وتنامي عدم مقبولية الشعب لهذا النظام، فلكل شيء قياساته وحدوده في العموم، أما الإستثناء فلا يبنى عليه. وعلى سبيل المثال، عندما يجري الحديث عن طبيب، فإن الذهن ينصرف تلقائيا إلى شخص درس الطب ويعالج المرضى، أما أن يكون الحديث عن طبيب يعمل في تصليح السيارات، فهذا يشكّل صدمة وإستهجانا وحتى إستهزاءاً، لأن الأمر على خلاف المعتاد، وخارج السياق الطبيعي. وهذا ما حدث في العراق، فقد رأينا عدد كبير من هذه الحالات، وما زال الشعب يردد بأن نوري المالكي كان يبيع السِبَحْ في سوريا، قبل أن يبح وزيراً للخارجية، وكان لدينا في الخارجية سفير يدعى (ح. صالنصة) لأنه كان يصلح صالنصات السيارات قبل أن يصبح سفيراً. ويمكن تعداد ألاف الحالات من هذا القبيل.
غياب الولاء الوطني: معظم الذين دخلوا العراق بعد سقوط النظام السياسي السابق، هم من حملة الجنسيات الأجنبية، ولا حاجة لتعداد هؤلاء، ولكن يكفي القول إنه ومنذ عام 2003، لم يتقلد منصب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو وزير الخارجية شخص عراقي حتى يومنا هذا. وفي وزارة الخارجية فقط، هناك 60 سفيراً يحملون جنسيات أجنبية (بضمنهم وزير الخارجية الحالي) من بين 84 سفيراً. وظلّوا متمسكين بجنسياتهم الأجنبية لضمان طريق هروب آمن عندما تسوء الأحوال.
التراخي والتهاون أمام التأثيرات الخارجية والسعي لفرضها ضد إرادة الشعب: تعرّف سيادة الدولة بأنها الحق والقوة لهيئة ما لكي تحكم نفسها بنفسها، بدون أي تدخّل من مصادرٍ أو هيئاتٍ خارجيّة. ومنذ سقوط النظام السابق على يد القوات الأمريكية، فقد العراق سيادته وقدرته على حرية التصرف، وإتخاذ قراراته بحرية ودون تدخل خارجي. لذا فإن التاثيرات الأجنبية أصبحت واضحة في العراق، وفي مقدمتها التأثير الأمريكي والإيراني، ودول أخرى بالدرجة الثانية. وكما الحاكم الأمريكي بول بريمر ديكتاتوراً أكثر من صدام حسين بثلاثة أضعاف، واليوم يتحكم قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني بكل قرارات مؤسسات الدولة في العراق.
إشاعة الفساد والرشوة وبيع المناصب والتزوير: بغياب القانون يظهر الفساد، ومنذ بداية الغزو الأمريكي للعراق تم تغييب القانون، فإنتشر الفساد، وكانت الطبقة السياسية التي إستلمت الحكم منذ 2004، طبقة من اللصوص وحثاله البشر في معظم دول المهجر، ومنحتهم السلطة الحكم القدرة على إختلاس المال العام وضمان عدم المحاسبة، لذا لم يقدم أي فاسد للمحاكمة طيلة 17 سنة، بل حتى الذين كانت تسلمهم الشرطة الدولية للعراق يتم الإفراج عنهم بوقت قصير جداً. والتقديرات الأولية لحجم الفساد وهدر أموال الدولة والثروة القومية بلغت أرقاما فلكية قدرتها بعض المصادر ب (تريليون وأربعمئة مليار دولار) خلال 11 سنة الماضية فقط. أما تزوير الشهادات فقد قدّرت الشهادات المزورة بحدود 3000 شهادة، يحملها المسؤولون الذي لم يتلقوا تعليمهم في شبابهم خارج العراق.
فرض الدين كسياسة وليس كعبادة: يلعب دورا كبيرا وخطيرا في حياة الشعب العراقي. وقد وجد السياسيون ضالتهم فيه، فجرى توجيهه الوجهة التي تخدم مصالحهم. ومعظم الأحزاب التي نشأت خارج العراق، قامت على أساس ديني. مثل حزب الدعوة الإسلامية، والمجلس الإسلامي الأعلى، والحب الإسلامي وغيره. كما أن المؤسسة الدينية قد وجدت مجالا كبيرا للتدخل في السياسة العامة، لذا فالمشهد العراقي ملئ برجال الدين من كل الأديان والمذاهب والطوائف وهم يمارسون السياسة بطريقة بشعة، تذكّرنا بالعصور الوسطى. ومن البديهي أن ينشروا أفكارهم القديمة وتصوراتهم الغيبية ويفرضونها على الناس، وهذا ما ولّدَ كرهاً للدين ورجاله في العراق.
إنعدام الخدمات وموت حركة البناء: طيلة 17 سنة لم تستطع سبع حكومات من أن تحسنَّ خدمة الكهرباء رغم إنفاق أكثر من 60 مليار دولار عليها، وهكذا خدمة الماء الصحي والصالح للشرب. ولم تستطع هذه الحكومات حتى من بناء مبنى لسكنهم، وما زالوا يقيمون في القصور الرئاسية التي بناها وتركها صدام حسين.
إشاعة الجهل والمرض والتخلف: من البديهي أن السياسي المتخلف سيكرس التخلف والجهل، وزادهم حقدهم على العراق، وبتوجيه من إيران على تدمير مؤسسات الدولة العلمية والصحية، وتردي الواقعين التعليمي والصحي، مما دفع وزير الصحة إلى الإستقالة في سبتمبر 2019.
توزع السلاح على الأحزاب والمليشيات وعدم حصره بيد الدول: بعد القرار الأمريكي بحَل الجيش العراقي، قامت المجموعات المسلحة الموالية لإيران والتي ساعدت على إنشاءها من أسرى الجنود العراقيين الشيعة مثل قوات بدر وغيرها، وزادت من عددها بعد سقوط الموصل، واليوم هناك أكثر من 250 ميليشيا مسلحة تمارس الإرهاب بحجة حفظ النظام. ويكفي القول إن هناك 7,5 مليون قطعة سلاح خفيف ومتوسط لدى الشعب، مقابل 700 ألف قطعة سلاح فقط لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية.
ضياع الحقوق واختلال ميزان العدالة الاجتماعية، وإنعدام المستقبل للشباب: كل هذه العوامل مجتمعة قادت إلى ضياع حقوق العراقيين، وفقرهم إلى جانب الإثراء الفاحش للطبقة السياسية الأجنبية عن البلاد، والتي حتى عوائلها وأبناءها تقيم في خارج العراق، فزادت البطالة الى أكثر من 30% من الشعب، وزادت نسبة الفقر إلى أكثر من ذلك، وغابت العدالة الاجتماعية، وإنعدمت الفرصة أمام الشباب، ولم يعد هناك ضوء في نهاية النفق، وأصبح المستقبل مظلم أمامهم، ولم يبقى غير طريق الثورة الذي أعاد للعراق هيبته، وإستعاد الشعب العراقي وعيه وحسَّه الوطني، فإنكشفت عدم وطنية الحكومة والبرلمان ورئيس الجمهورية، فتواروا عن الأنظار، وهربوا بعيداً عن المقر الحكومي، وسافر الكثير منهم إلى البلدان التي جاءوا منها، وبذلك دخل هذا النظام السياسي في العراق مرحلة الموت السريري في إنتظار الموت الرحيم.
تحية لثوار العراق.