في غفلة من غفلات الزمان العجيبة وفي لحظة من اللحظات التي لاتحدث الا في الخيال وفي ساعة انفتحت فيها الابواب والمطارات سافر فيها أخونا البسيط المسالم محيميد الى عاصمة الثلوج والقياصرة (موسكو) تلك المدينة التي لاتنام أبدا”حيث ليلها لايتجاوز الاربعة ساعات فقط، وبقية اليوم هي نهار مشمس (في فصل الصيف طبعا) وبالعكس في فصل الشتاء لاترى ضوء النهار الاماندر. على العموم سافر محيميد الى موسكو في فصل الصيف ، ومنذ اللحظة الاولى التي وطئت قدمي محيميد ارض مطارها استنشق هواء” جديدا” لم يستنشق مثله سابقا”،راى عالما” غريبا”، بشرا”بوجوها” شقراء ناصعة البياض كأنها قطعة من الثلج، شاهد على مدار الطرق التي سار بها خضارا” لم يرى في حياته بقدره، أما الشوارع فما أعرضها من شوارع كبيرة الى حد لايمكن وصفها به.لم يرى ذرة غبار واحدة بل لم يستطع أن يرى لون التراب، وعندما تنقل بالمترو(قطار الانفاق) راى حجم النظام والترتيب وسرعة الوصول من منطقة الى اخرى وسهولة وصله الى الجهة التي يروم قصدها,على الرغم من كبرمدينة موسكووكثرة اعداد سكانها, لقد بهت محيميد كثيرا” وأصبح مثل الابلة لايعرف اين يمد نظره او بصره الى العمران أو الخضار أوالشوارع ونظام الناس والتزامهم به, كل هذه الامور أرجعته الى بغداد ولاحظ مدى تخلفنا وقلة معرفتنا فالشعب في موسكو لم يبني المدينة مابين لحظة وطرفة عين , بل هذا كان عمل قرون عديدة ,ونحن وعلى قدم مدينتنا مازلنا نعيش بها وكأنها قرية كبيرة وبعيدة كل البعد عن التمدن والحضارة. هذا التمدن الذي تعيشه موسكو في وقتنا الحاضر هو نتاج لعمل أجيال سابقة عملت بجد وأخلاص من أجل بلدها, فماذا عملنا نحن ؟ تسأل محيميد والحيرة تعلو وجهه الصغير.
وأزداد تعجب محيميد من أوضاع الناس في موسكو عندما مر من أمام قصر الكرملين بالساحة الحمراء,وشاهد كثرة تجمع الناس هناك من كل جنسية وعرق ولون ومذهب ليشاهدوا مقر الرئاسة الروسية(أي المنطقة الخضراء) لم يشاهد الحمايات ولا الحواجز الكونكريتية ولم يرى القوات على مختلف أنواعها تحرس المكان, بل شاهد البساطة والرقي في التعامل مع عدد من الحراس لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة, (مع العلم ان هذا مقر الرئيس الروسي بوتين). كم هو نظام رائع أن يسير الناس بدون قيود أو خوف من أنفجارات دامية مرتقبة.
عندما وطئت قدمي محيميد أرض مطار موسكو ,وراى حالته العمرانية وأنسانية وود تعامل رجال ونساء جوازات ذلك المطار عاد بذاكرته الى مطار بغداد الدولي والذي من المفترض أن يكون واجهة الدولة العراقية, شاهد مدى تردي الخدمات فيه وصعوبة الوصول اليه وكثرة نقاط التفتيش والسيطرات الغير مبررة(تحت حجج الدواعي الامنية) أضافة الى جشع بعض العاملين فيه من عمال نقل الحقائب وسائقي سياراتGMC الخاصة بنقل المسافرين من ساحة عباس بن فرناس الى بوابات المطار الرئيسية. راى محيميد أنسانية الشعب الروسي وتعاملهم الطبيعي مع المواطن الاجنبي الغريب وعدم استغلالهم له على الرغم من انهم من دين أخر وملة اخرى,فهم لايستغلون الاجنبي بل يتعاملون معه بحب ويرشدوه الى مبتغاه على الرغم من صعوبة التعامل بسبب لغتهم الروسية.
وبالرغم من تطورهم التأريخي في موسكو الا ان محيميد أستغرب وبشدة حالات البناء والعمران المستمرة في المدينة فالحياة ومثلما هم يقولون لاتتوقف لذا فهم في حركة مستمرة بل هم في سباق مع الزمن من أجل المزيد من التقدم والرفاهية لأبناء شعبهم وأجيالهم القادمة.
روسيا أو الاتحاد السوفيتي السابق كانت تتبع نظاما” أشتراكيا”شيوعيا” صارما” وكان في الصعوبة بمكان من أن تتحول الى دولة تتبع أقتصاد السوق بعد أن ترك النظام الشيوعي السابق تركة ضخمة من المشاكل الاقتصادية الصعبة الا أن الروس وبعقليتهم المتفتحة وبعملهم الدوؤب والمستمر أستطاعوا تحويل البلاد الى الاقتصاد الحر من دون مشاكل كبيرة تؤثر على أبناء الشعب بل أزدادت ثروات الدولة وبالتالي أثرت تلك الزيادة في حصول الشعب الروسي عى المزيد من الرخاء ومستلزمات الرفاهية والراحة.أمسك محيميد بخيوط التغيير في روسيا من الناحية الاقتصادية وقارنها مع الوضع العراقي والذي أقتصاديا” يسير الى طرق مجهولة فلا هو يتبع اقتصادا”أشتراكيا”ولا هو رأسماليا”ولا أسلاميا”ولاأي نظام أقتصادي معروف أو غير معروف في العالم, وأنما هو يسير بالبركة من دون تخطيط ومعرفة,لذلك فنحن منذ سقوط النظام السابق مازلنا نعيش حالة من التخبط الاقتصادي اثرت وبشكل كبير على الحياة الاجتماعية والعمرانية والثقافية والتربوية, بل شلت الحياة في البلد وجعلته يسير في أنحدار كبير يجب تداركه قبل فوات الاوان.
الجميع في موسكو بالشوارع والمحلات التجارية والشركات العامة والخاصة ومترو الانفاق والساحات الحمراء والخضراء لاحظهم محيميد يسيرون مسرعين الى أعمالهم ، فالحياة في مفهومهم لحظات يعيشها الانسان ساعتها ولايمكن بأي حال من الاحوال أن ترجع عقارب الساعة الى الوراء, الكل يعمل بهمة ونشاط، على عكس ما أعتاد عليه محيميد من تثاقل في الحركة وقلة في النشاط وتكاسل في العمل من أبناء جلدته. وأكثر ما أثار اعجاب محيميد في موسكو هو ولع الانسان هناك بالقراءة فما أن يصعد الى الحافلات العامة أو يتجول في مترو الانفاق الا ويشاهد أغلب الروس وهم ممسكون بين أيديهم بالصحف أو المجلات أو الكتب وهم يقرأونها بنهم يحسدون عليه, مستغلين تلك الحظات في الاستفادة منها في القراءة للحصول على المزيد من المتعة والثقافة, لحظتها تذكر محيميد أصدقائه المثقفين هنا ومدى أبتعادهم عن القراءة ومتابعة أخر المطبوعات تحت حجج قلة الوقت وضيق وسرعة حركة الحياة.
حلم محيميد أن الحياة في بغداد ووسط هذا الجو الحار القائظ والكهرباء الغائبة الحاضرة والارض الجرداء اليابسة والازمات السياسية المتلاحقة وسحب الثقة عن رئيس الوزراء أو عدم سحبها أو أقالة رئيس مجلس النواب أو بقائه في منصبه أو حتى حل مجلس النواب وأجراء انتخابات مبكرة أو بقائهم في مناصبهم مدى الحياة، أقول حلم محيميد أن الحياة في العراق ، تحولت الى ماموجود في موسكو من عمران وتطور وحضارة ورقي بالحجر والبشر، لقد أجال ببصره وهو في الساحة الحمراء يرى المناظر الخلابة والبنايات الشاهقة الرائعة العمارة ، والخضار المحيط به وبها من جميع الجهات , وخيل له أنه يسير في ساحة حمراء عراقية خالية من الدماء، بل حتى وان تغير لونها الى الازرق أو الى أي لون أخر.