23 ديسمبر، 2024 12:24 ص

محن المعلمين في المجتمع النمطي

محن المعلمين في المجتمع النمطي

أن أشد المعارك خطورة على الإنسان ليست تلك التي يرابط فيها على سواتر العدو ويواجه قذائف المدافع ورشقات البنادق، فهنالك ان قتل صار شهيداً وان عاش عاش بطلاً .. بل ان المعركة الأشد خطورة هي معركة ايجاد الذات في مجتمع لايسمح بحرية الإرادة والاختلاف، فثقافة مجتمعنا النمطية يمكن تشبيهها ببودقة تصهر كل مايقع في جوفها وتجرده من خصائصه وسماته التي تميزه عن الاشياء الأخرى فتغدو الأشياء المقاومة للانصهار ناشزة وشاذة وتُقذف في حاوية النفايات (كأشياء منبوذة) ..
تتجلى تلك الصورة في حياة المعلم العراقي إذ لايملك في وظيفته، التي تفرض عليه أن يكون عادلاً في التعامل مع جميع تلاميذه، سوى خيارين اما مجاراة المجتمع ومجاملته على حساب اخلاقيات المهنة والمبادئ الشخصية، خضوعاً لرغبات انانية تعصف في نفوس هذا المجتمع، وبالتالي انتاج جيل فاشل من الخريجين والموظفين، او ان يدخل في مواجهة ويخوض معركة قاسية ضد تلك الأنانية للمحافظة على مبادئه والأمانة التي حٌمل بها مع تلك الوظيفة، وستكون نتيجة هذه المعركة الدخول في حالة من الاغتراب والنبذ احياناً.. وعلى اية حال فانه في كلتا الحالتين سيكون خاسراً ..
قد لاينجو معلم واحد من الضغوط الاجتماعية الكبيرة، التي يقودها أولياء أمور الطلبة او الطلبة أنفسهم، مستخدمين شتى الوسائل والأدوات، كالاعتداءات الجسدية والتهديدات والواسطات، للضغط على المعلم وإجباره على إنجاح الطلبة المهملين لدروسهم او المستخفين بالكوادر التدرسية، وبأي طريقة كانت، متجاهلين المسؤولية الأخلاقية والقانونية المترتبة على عاتق المعلم، غير مكترثين لسوء العاقبة اذا ما آل مصير المجتمع والدولة في يد اناس فاشلين دراسياً .. لكنهم مستعدون لشن حرب تسقيطية على كل من يقاوم تلك الضغوط ويكيلوا عليه شتى الاتهمات الباطلة ..
كان لامتحانات الدور الثالث، للعام الدراسي السابق، أثراً عميقاً في نفس احد الأصدقاء المعلمين – وهو مدرس رياضيات من شمال البصرة – حيث بدأت محنته حين ورده اتصال هاتفي من مسؤول رفيع في مديرية تربية البصرة يحثه فيه على إنجاح احد الطلبة الراسبين في مادته، وذلك بتغيير درجة الامتحان النهائية المثبته على الدفتر الأمتحاني لذلك الطالب. فبعد ان اخفق في امتحان الدور الأول والثاني والثالث رفض الوالد نتيجة رسوب ابنه ورأى ان الامتحانات ليست هي الطريقة الوحيدة لأنجاحه، فأستخدم علاقاته الحزبية للضغط على صديقنا المعلم محاولاً إرغامه على إنجاح ابنه بطريقة مهينة وغير شرعية.
كما تحدث معلم آخر – وهو مدرس كيمياء من شمال البصرة ايضاً – عن مشكلته التي بدأت، كذلك، مع نهاية العام الدراسي السابق حين استخدم احد أولياء الأمور اسلوب التهديد المبطن والضغط على أقارب ذلك المعلم، ملمحاً باحتمالية حدوث نزاع عشائري إذا لم يوافق هذا المعلم على إنجاح ابنه -الذي كان من التلاميذ المهملين – طالباً منه تغيير درجة ابنه الأمتحانية او إجراء امتحان (دور رابع) خاص به، بعد ان اخفق في الادوار الامتحانية الثلاثة .
في كلا المثالين السابقين لم يخضع إي من المعلمين للضغوط التي تعرضا لها، وكلً خاض معركته الخاصه.
ولم تكن تلك الضغوط، التي عادةٍ مايتعرض لها كافة موظفي الدولة، بهذه الحدة، فقد ازدادت حدتها، نتيجة لسيطرة قوى سياسية رجعية على إدارة شؤون الدولة، عمدت على تغييب القانون وجعلت من الفساد السياسي والإداري “ثقافة”.