18 ديسمبر، 2024 8:48 م

محنة نصر حامد أبو زيد

محنة نصر حامد أبو زيد

قضية التكفير وابعاد الشخص عن وطنه واهله وناسه ومحبيه اضطراراً، لهي محنة ما بعدها محنة اذ يتعرض لها الانسان، وأي انسان؟، خصوصاً اذا كان هذا الانسان اديباً، فيلسوفاً، مفكراً؛ فأن المحنة -هذه – سوف تكون عليه اشد واصعب وطأة، لأنه يشعر بما لا يشعر به سواه بحكم عمله الفكري الذي اخذه على عاتقه من ذلك الواقع.
هذا ما تعرض له من محنة عصيبة: المفكر الكبير نصر حامد ابو زيد، صاحب اطروحة “مفهوم النص” والتي على اثرها حكمت عليه السلطة الدينية بالإلحاد والتكفير، والارتداد عن الدين الاسلامي، مما اضطر الرجل الى مغادرة وطنه بعيداً عن سهام التطرف الديني المتمثل بالسلطة الكهنوتية للإخوان المسلمين؛ وظلت زوجته في مقر اقامتها في بلدها مصر، وما كان من رجال الكهنوت الا أن يطلقوا زوجته منه عنوة، على اعتبار أن المسلمة لا يجوز لها البقاء في كنف زوجها المرتد!.
اذن، هي ليست محنة واحدة، وانما هي محنتين: محنة الابعاد القسري عن الوطن، مسقط رأس الانسان وبه الاعزة والاحبة، والمحنة الثانية، وقد تكون هي الاصعب، وهي الابعاد – تحت الضغط – عن زوجته وشريكة حياته بالمحن والصعاب، بالأفراح والاتراح. هذه وغيرها شكلت نقطة الم في قلب ابو زيد ، وكلم ظل يحز في روحه الشفافة، الى أن فارقت روحه جسده.
أن مثل هذه المحن التي تعرض ويتعرض لها الاديب والمفكر والفيلسوف، جُل اسبابها التطرف الديني النابع من الحس المعادي لهؤلاء النخبة المفكرة من قبل رجال اللاهوت، ومنها انهم لا يستوعبون هؤلاء المفكرين لأن منظومة المفكر لديهم عالية التوهج وتقدح فكراً يستوعب جميع القضايا الدينية والاجتماعية والثقافية والفكرية، بينما رجال اللاهوت فكرهم منصب في قضايا الشريعة وما يتعلق بها فحسب الا شيئا بسيطاً يهتم بجوانب اخرى. و احيانا رجال اللاهوت لا يفقهون اطروحات المفكرين فيعدونها بأنها مخالفة للشريعة ومعادية للنص المقدس، بينما المفكرين يجعلون النص متحركاً مطاطيا يسير مع متطلبات العصر، عكس ما يفعله المفسر المؤدلج الذي يفهم النص مفهوم كلاسيكي قديم، يفهمه بمفهوم عصر التنقل على الجمل والحمير والحصان، بينما نحن في عصر العالم الرقمي والطائرات النفاثة والعالم الافتراضي، ومتطلبات العصر الاخرى من علم وتكنولوجيا والتي لم يخل منها أي منزل في عصرنا الراهن.
نصر حامد ابو زيد هو ليس المفكر الوحيد الذي تعرض الى مثل هذه المحنة، بل تعرض غيره الكثير، من قبله ومن بعده، الم يقتلوا المفكر فرج فودة، ويطعنوا بالسكين الاديب الكبير نجيب محفوظ، وقبلهما الم يحكموا على عميد الادب العربي طه حسين بالارتداد اثر اطروحته الخالدة “في الشعر الجاهلي” وكادوا أن يصعدوا به الى المقصلة لولا عناية السماء به.
ابو زيد –هو اذن- ضحية الفكر التكفيري، الفكر الداعشي، هذا الفكر الذي اكتوى بناره من اكتوى. ولا شك أن هذا الفكر له جذور تاريخية متطرفة، هي بقايا من فكر ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومن لف لفهما، ومن نصوص ينسبونها الى نبي الاسلام زوراً.
وقضية ابو زيد لم تنه بمغادرة الحياة، وانطوت كطي السجل للكتب، بل هي شاهد عصر على عنجهية هؤلاء المتطرفين، الذين يعيشون اليوم بين ظهرانينا، كذلك ظل ابو زيد كمفكر وانسان حر كان يفكر بعقلية العاقل المتدبر الذي كان همه نشر التنوير كرسالة انسانية تقع على عاتق كل من له قلب نابض.