23 ديسمبر، 2024 3:56 م

محنة اللاجئين العالمية

محنة اللاجئين العالمية

صورة الرضيع السوري الذي لقى حتفه غرقا
الهجرات البشرية على مر التاريخ لم تتوقف وكانت تدفعها عوامل عدة منها اقتصادية، كوارث الطبيعية، حروب، امراض لم يكتشف العلم لها علاجاً، هكذا تحركت الموجات البشرية من منطقة الى اخرى، وكما هو معروف يعتمد لون البشرة وبنية الانسان ووضعه الفكري والصحي والنفسي بشكل رئيسي على العوامل المناخية التي تتدرج من البرودة الشديدة الى الحر الشديد، فكلما كثفت الشمس اشعتها كلما اسمرت البشرة واسودت وتتفاعل تلك مع الاجواء الجبلية او الساحلية المشبعة بالرطوبة او الصحراوية القارية، وتنعكس على شكل ونوع الملابس او الازياء وعلى نوع الطعام الذي يتناولوه. كانت نتائج تلك الهجرات عبر مناطق مختلفة التضاريس اختلاط الاجناس وتزاوجها، فنشأت اجيال من الالوان المتداخلة والهجينة، وبات من الصعب تحديد الجنس الاصيل، لذلك عندما يتزوج الاسود الافريقي بفتاة اوربية بيضاء يكون الوليد ذو ملامح شرق اوسطية.

عندما يتأقلم بني البشر في بيئة معينة ولنفرض البيئة المناخية في افريقبا حيث قربها من خط الاستواء واشتداد ضربات الشمس ووجود الغابات الاستوائية الكثيفة والغنية بمختلف انواع الحيوانات البرية، فعند نقلها قسرا الى اماكن باردة فمن الصعوبة التأقلم والتعايش مع الجو الجديد، وقدتعاني لاجيال مديدة حتى تبدو متوافقة مع بيئتها الجديدة وقد لا تنسجم ابدا، وانا اشبهها باشجار تنمو في اماكن معينة ولا تنمو في اماكن اخرى، او حيوانات تعيش في اجواء ولا تعيش في اجواء اخرى والامثلة كثيرة ومعروفة، هناك فكرة تقول بان عملية تحويل لون البشرة تحتاج الى الاف السنين لكي تتم بصورة طبيعية، هكذا البشر لا يجوز بتقديري تغيير بيئته التي نشأ فيها والتي تحددت بموجبها خصائصه النفسية والسلوكية والاجتماعية.

لا يصح نقل او انتقال مجاميع بشرية اعتادت العيش في المدن المثلجة الى المناطق الحارة في اسيا او الشرق الاوسط او افريقيا والعكس صحيح، الظروف الاقتصادية في البلدان الشمالية( اوربا مثلا) حيث النمو والتطور والازدهار، مقارنة بينها وبين التخلف والفقر والتدهور في كل مناحي الحياة في البلدان الجنوبية مثل الشرق الاوسط، شبه القارة الهندية، وافريقيا وجنوب شرق اسيا وامريكا اللاتينية، هذه الفروق ايضا قادت الى الهجرات الى الشمال، فيما التاريخ يحدثنا بان الموجات المهاجرة كانت تتجه من المناطق البالغة البرودة الى مناطق المياه الدافئة. في المناطق الباردة في قديم الزمان كان جل وقت قاطنيها يقضي بتوفير مستلزمات التدفئة، حتى في الصيف القصير كان الانسان يجمع الحطب للشتاء، فيما المناطق الحارة قرب خط الاستواء كانت الشمس الشديدة تعيق تقديم العمل وتقديم الافضل لرقي البشر، وافضل المناطق التي اتسمت بمناخ معتدل قامت فيها حضارات واقام فيها مفكرون وفلاسفة العهد القديم وهو خط معروف منذ القدم يمتد من وادي النيل الى وادي الرافدين، الى وادي السند، ولا ننسى ضفاف البحر الابيض المتوسط بما فيها اليونان وروما.

اما الحروب فقد اجتاحت حروب كثيرة عبر التاريخ احرقت الاخضر واليابس، ولعل الحربين العالميتين في القرن العشرين اشرسها واكثرها ضراوة، وقد حصدت الملايين وكانت اسبابها التنازع على مناطق النفوذ اي صراع الدول الكبرى المتطورة صناعيا بعد الثورة الصناعية في اوربا في القرن الثامن عشر وما بعده، فجدّت في البحث عن اسواق جديدة، وتوفير المواد الخام، والتسيد والشعور بالتفوق العنصري، كما فعلت المانيا النازية، وايطاليا الفاشية.

هناك ايضا الكوارث الطبيعية التي تجتاح غالبية بلدان ومناطق العالم كالزلازل، البراكين، الفيضانات، التصحر، التسونامي( زلازل تحت الماء) ، الاعاصير، والحرائق، ومدى تاثير تلك العوامل يتناسب مع استعداد البلد نفسه، والذي يتخذ الاحتياطات اللازمة، يتغلب في وقت قياسي على اثارها، وبالتالي يثبت ما تبقى من البشر في اماكنهم.

اما اذا عصفت تلك الاحداث كالحروب، والكوارث، والمجاعات بسبب قحط الانتاج الزراعي والحيواني، بدول لها كثافة سكانية وفيها ضعف بقاعدتها الاقتصادية، والتي تعكس نظاما سياسيا هزيلاً او دكتاتورياً عنيفاً او مغامرين متزمتين دينياً، هنا تضطر مجاميع للهرب من تلك الاماكن نحو الشمال ولعبور البحار التي تفصلهم عن اوربا، خصوصا البحر الابيض المتوسط، الذي تحول في الفترة الاخيرة الى مقبرة لآلاف المهاجرين ومن انقطعت بهم السبل، هذا الهروب ليس حلا بل هو الخروج من سيء الى اخر، تظل تعاني منه تلك المجاميع طويلا في بلدان(ها) الجديدة.

اوربا اليوم تجابه هجرات مليونية اليها من مناطق الصراع والكوارث، ولكن الصراع الذي سببته الاخفاقاات الاقتصادية او لنقل عدم تمكنها من النمو والمنافسة في السوق العالمية انعكس كل ذلك لمعاناة الطبقات الشعبية السحيقة، وفي ظل ازدياد عدد سكان الارض المفرط، اذ ربما لا تستوعب خيرات الارض تلك الزيادة الهائلة من توفير الغذاء الجيد، والنظام التعليمي المتكامل، والادوية الوقائية، والمنظومات الصحية الشاملة، كل ذلك يؤدي

الى صعود فئات تستثمر هذا الواقع البائس لا لتعالجه وانما لتوغل في تخريب ما تبقى خدمة لمصالحها، وحتى تنفرد بما ينتج في البلاد وفي حرمان غالبية السكان، فيضطر هؤلاء الى الهجرة والمجازفة ليصبحوا اولادهم واجسادهم في احيان كثيرة طعما لأسماك البحار.

تتحرك المنظمات والجمعيات والرأي العام في اوربا واميركا لمساعدة هؤلاء البؤساء، حسنا يفعلون، ولكن هذه المعالجات هي سيف ذو حدين، حيث ستنعكس سلباً على استقرار وتطور البلدان الاوربية، والتي نسيت او تناست ان هذه الهجرات ستؤدي الى تغييرات نوعية في مجتمعاتها مستقبلا، فيتراجع الارتقاء والنمو والتطور فيها الى مديات منخفضة، ان لم تنتبه بحل المشكلة من اساسها، من منبعها في البلدان التي تتحرك منها قطاعات واسعة للهجرة الى اماكن تسودها الحرية النسبية، ويزدهر فيها الاقتصاد، وهذا الحال لن يدوم لاوربا طويلا، اما اميركا فالوضع مختلف حيث لها ارض واسعة فيها مختلف التضاريس والاحوال البيئية من جبال الى صحارى الى شطآن انهر ومحيطات، فتستطيع ان تستوعب بضعة مئات من الملايين اليها، وهي تختارهم بعناية وتضعهم على غربال مصالحها، لتاخذ ما يخدمها لعشرات السنين القادمة، اما اوربا التي تصغر مساحة دولها جدلا مع زيادة السكان، بفضل الوافدين اليها واتباعهم نظام عير محدد للانجاب( قارن عدد سكانها قبل نصف قرن مثلاً) .

منذ اوائل فهمنا بمجريات امور العالم عرفنا وتاكدنا بعمق ان الدول المتطورة لا تعطي خبراتها الى الدول النامية او الفقيرة وما كان يطلق عليه بالعالم الثالث، تغرق تلك البلدان بمنتوجاتها الصناعية، وتمدها بمختاف انواع الاسلحة، ولكنها لا تكفل امدادها بادوات الانتاج كالمصانع الانتاجية الضخمة، والمكائن المنتجة للسلع وبدورة متكاملة. اذا فعلت ذلك وهذا لا يبدو ممكنا في الافق المنظور، فان تلك الدول تنال استقلالها فعلاً، وتنمو وتزدهر، لتزيد رفاهية الانسان فيها، وتنخفض الفروق في مستوى دخل الافراد، عندها فقط تنشأ الديمقراطية في تلك البلدان، ويتناقص جنوحها للتطرف والارهاب، وتصبح قضية تداول السلطة حائلة دون صعود دكتاتوريات او فئات متطرفة الى الحكم، فتحرم الجموع حريتها

ولقمة عيشها وتتحول حياتها الى كوابيس، فتضطر لترك قبور ابائها واجدادها خلفها ومعهم تاريخها وعاداتها وتقاليدها ولغاتها الثرية، وتضطر الى الهجرة نحو المجهول ونحو مصاعب جديدة متنامية تصل الى الانصهار في المجتمع الجديد، الذي قلنا في البداية لا يتفقق مع بنيتها ولون بشرتها وموروثها الجيناتي عبر الاف اذا لم نقل ملايين السنين.

[email protected]