ونكمل المحور الثاني من المعبر الاول لمقالنا السابق، ونقول:
المحور الثاني: شرعية المحكمة الاتحادية العليا:
مازالت المحكمة الاتحادية العليا تمارس دورها الذي رسمه لها القانون بإصدار قرارات وأحكام قضائية بعدم دستورية بعض مواد القوانين ومنها قانون الانتخابات، لكن ظهر جدل واسع في الآونة الأخيرة حول صلاحية المحكمة الاتحادية بممارسة بعض الأعمال والمهام التي لم تكن من بين اختصاصها بموجب قانون إدارة الدولة أو أمر تشكيلها، وبعض الأشخاص وعلى تنوع مواقفهم منهم السياسي والحقوقي وكذلك بعض المؤسسات القضائية والقانونية والإعلامية، ولغرض الوقوف على مدى مشروعية وصلاحية المحكمة الاتحادية العليا الحالية في ممارسة الاختصاص مثلا في تفسير نصوص الدستور على أساس إنها غير المحكمة المذكورة في المادة (92) من دستور عام 2005، هناك جملة ملاحظات علينا المرور عليها سريعا عند التعرض لدستورية المحكمة الاتحادية العليا، وتنحصر بالاتي:
ألف -ان المحكمة الاتحادية العليا شكلت بموجب الامر الصادر من رئيس الوزراء المرقم 30 لسنة 2005 وطبقاً للصلاحية المخول بها المنصوص عليها في المادة 44 من قانون ادارة الدولة العراقية لعام 2004وهو دستور مؤقت والسلطة التشريعية فيه جمعية وطنية غير منتخبة، وشكلت المحكمة من قبل مجلس الوزراء استناداً للقسم الثاني من ملحق قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وبدلاً من الاستناد على القانون في تشكيل المحكمة الاتحادية العليا استعيض عن القانون بأمر صادر من رئيس الوزراء للحكومة المؤقتة المرقم 30 لسنة 2005 واعتبر الامر قانوناً.
باء – ان امر تشكيل المحكمة خول مجلس الوزراء السلطات الممنوحة له في هذا القانون في تعيين اعضاء المحكمة الاتحادية العليا وتم تعيينهم وأصدر مجلس الرئاسة بتأريخ 1/6/2005القرار الجمهوري رقم (2) بتعيين رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا، وعليه فان هذا التخويل الممنوح لمجلس الوزراء في تعيين اعضاء المحكمة الاتحادية يتعارض مع القواعد الدستورية الدولية التي تعطي للسلطة القضائية لوحدها تعيين القضاة في المحاكم التي تختص بالرقابة القضائية، ومن النتائج المترتبة على ذلك ضعف القدرة على ممارسة اختصاصاتها وبالتالي لن تكون في منأ عن التدخلات السياسية والحزبية لان تشكيلها قد تم بقرار حكومي وليس من هيئة منتخبة، وان ضمان الاستقلال والنزاهة والعدالة في احد وجوهه لن يتأتى الا عبر التقيد بالآليات والطرق المحددة دستورياً في التأسيس، لا سيما وان هذه المحكمة قد انيط بها اختصاصات خطيرة تتعلق بالرقابة القضائية وتفسير نصوص الدستور وبناء الدولة.
جيم-إن المحكمة الاتحادية الحالية مشكلة بموجب الأمر (30) لسنة 2005، الذي عُد قوة القانون وما زال ساري المفعول على وفق أحكام المادة (130) من دستور العراق لعام 2005، بمعنى عدم وجود أي نص يلغي المحكمة أو يحدد من صلاحيتها واختصاصها، وفي علم القانون أي تشريع ما لم يتم إلغائه يبقى على ما كان عليه لحين تعديله أو إلغائه بموجب قانون أو تشريع له نفس قوة إنشائه.
دال-المحكمة الاتحادية العليا في دستور عام 2005:
هل ان السلطة القضائية على وجه التحديد اعادت النظر بالمحكمة الاتحادية العليا على ضوء احكام الدستور الجديد ووفق ما جاء في الفقرة ثانيا من المادة 92 التي نصت على ان (تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الاسلامي وفقهاء القانون يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب) ؟؟
وهناك عدة استدراكات في هذا المجال، نناقشها قدر المستطاع، وندونها فيما يلي:
1- اي مراجعة قانونية للمحكمة الاتحادية العليا التي نص عليها قانون الدولة للمرحلة الانتقالية للمادتين 43و44 والقسم الثاني من ملحقه من حيث التشكيل والاختصاصات والتكوين يتضح مدى الاختلاف الكلي عن المحكمة الاتحادية المقصودة في المادتين 92و93 من الدستور الدائم من حيث التشكيل والاختصاصات والتكوين، وان استمرارها في القيام بمهامها وهي غير مشكلة طبقا للأسس والمقومات الدستورية والأحكام الواردة في الدستور الجديد النافذ يجعل عملها مشوبا بالتناقض والغموض، ومرد ذلك عدم الامتثال للوجوب الدستوري المتمثل بنص المادة(92 /ثانياً) من الدستور الدائم رغم تمتعها بالأثر الفوري والعاجل غير القابل للتأخير، وهذه الحالة تتعارض ايضاَ مع مبدأ وجوب احترام الدستور والخضوع الى احكامه.
2- ان الزامية المادة (92) من الدستور تقضي سن قانون خاص بالمحكمة الاتحادية العليا تقره أغلبية كبرى اي بموافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب حتى تستطيع المحكمة ممارسة اختصاصاتها المنصوص عليها في المادة(93) من الدستور ومنها الحق في تفسير نصوصه بما يحقق حالة القبول والطمأنينة لقرارتها، وبهذا نوفر الحدود الدنيا لاشتراطات قيام قضاء رقابي يمكن الركون اليه والقبول بقراراته وتفسيراته، وان احكامها وتفسيراتها لا تقبل الطعن او المراجعة لدى اي سلطة قضائية اخرى.
3- ان المحكمة الاتحادية العليا المشكلة بموجب الامر 30 لعام 2005 لم تكن هيئة قضائية دستورية مستقلة ماليا وإداريا كما أراد الدستور، وقد مارست المحكمة مسؤوليات هامة، مثل المصادقة على الانتخابات وتفسير الدستور، ولا زالت تواصل هذه المحكمة عملها إلى حين البت بالقانون الخاص به، والحالة هذه أن يصار إلى أقرارها كمحكمة تمشية أمور مؤقتة، وإذا حصل هذا فان المحكمة لن تتمتع بالشرعية اللازمة التي يمحضها قانون يقر بأغلبية الثلثين.
ان هذا الراي تم طرحه من قبل أحد أعضاء مجلس الرئاسة في سنة 2009 تقريبا وبكتاب رسمي وجه الى المحكمة الاتحادية العليا، وكنت قد عارضت مضمون الكتاب في وقتها، كونه سيؤدي الى اختلال بالعمل القضائي وفوضى قانونية خصوصا ان هناك قرارات عديدة تم اتخاذها من قبل المحكمة وتمت المصادقة على الانتخابات من قبلها وهذا سيؤدي قطعا الى تخريب العملية السياسية، لكني لم أؤيد الاجتهاد الذي يقول: إن المؤسسات القضائية تستمر بأعمالها حتى يصار إلى إحلال بدائل أخرى محلها، والذي ورد بكتاب رسمي موجه الى رئاسة الجمهورية.
وهناك تفسير اخر لممارسة المحكمة الاتحادية لاختصاصات وردت في الدستور ولم ترد في قانونها وهو راي مقبول سارت عليه السلطة القضائية حاليا إضافة لما ورد في اعلاها ملخصه:
اعتبرت المحكمة الاتحادية العليا بمثابة المحكمة الدستورية، لأنها تتعامل مع الأحكام التي تنظم أعمال الدولة العراقية ومؤسساتها، حيث إن العبرة بمضمون القانون وليس بعنوانه، وإن المنظومة التشريعية سبق وان تعاملت مع الأحكام الدستورية بمسمى قانون وليس دستور، حيث صدر القانون الأساسي عام 1925، ويسري ذلك على تسمية المحكمة الاتحادية العليا أيضا، عندما لم تسمى بالمحكمة الدستورية، إذ تتوفر في دول العالم محاكم تمارس دورها في الرقابة الدستورية بمسمى مجلس أو محاكم عليا أو ما شابه، لذلك فان المسمى لا يغير من المضمون ولا يؤثر على أداء المحكمة وصحة أحكامها، وان نص المادة(1) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم(30) لسنة2005 النافذ بموجب المادة (130) من دستور جمهورية العراق، ذهب إلى ان المحكمة الاتحادية العليا تمارس (مهامها) بشكل مستقل لا سلطان عليها لغير القانون، ولم يرد في هذا النص او في غيره من النصوص مهام المحكمة بما ورد في قانونها وانما جاء مطلقا” ليستوعب ما يضاف لها قانونا” من مهام فاذا أورد الدستور أو أي قانون مهام أخرى لها إلى جانب المهام المنصوص عليها في قانونها ، كما هو الحال في نص الفقرتين (ثانيا) و(سابعا) من المادة (93) من الدستور حيث أوكلت هاتين الفقرتين إلى المحكمة الاتحادية العليا مهام(تفسير نصوص الدستور) و(المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب) والمحكمة في هذه الحالة ملزمة بممارسة هذه المهام، بموجب احكام المادة(13) من الدستور التي تنص الفقرة (أولا) منها على (يعد هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق)، ويكون ملزما في أنحائه كافة، وبدون استثناء.
ونؤكد، ان هذا الراي اصبح مقبولا بحكم الواقع، ولكن، إن الدستور نظم عملية تشكيل المحكمة الدستورية العليا والتي تضطلع بمسئوليات كبرى ولا يجوز مغادرة هذه النصوص وايكال اختصاصات دستورية لمحكمة مشكلة بموجب امر رئيس مجلس الوزراء، فكان الأولى مراعاة تشكيل المحكمة قبل النظر بالاختصاصات التي لم ترد في قانونها، فمن الناحية الموضوعية إن اختصاص المحكمة هو النظر في القوانين التي تتقاطع مع قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ولا يحق لها النظر في ما جاء به دستور عام 2005، ولكن بما ان انه لم ترد إشارة في نص الدستور إلى وجود جهة أخرى تمارس أعمال المحكمة الاتحادية العليا واختصاصاتها لحين تشكيلها، وإنما سكت النص الدستوري عن ذلك، وهو ما جعل باب التأويل مفتوحا لغير المختص في قراءة النص الدستوري على وفق مشيئته وتوجهاته، ويجب أن يعترف للمحاكم القديمة بحق الاستمرار بممارسة اختصاصها لعدم جواز توقيف سير العدالة، بمعنى ان تبقى المحكمة الاتحادية العليا القائمة حاليا تمارس أعمالها واجتهاد الفقه القانوني يذهب،
لان المحكمة الاتحادية الحالية مازالت قائمة وفاعلة، وان موضوعها بموجب أمر تشكيلها هو قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي تم إلغائه وحل محله دستور عام 2005 على وفق نص المادة (143) من الدستور، ويعتبر ذلك الدستور الحالي النافذ وريث قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الملغى، ويبقى خاضع لاختصاص المحكمة الاتحادية العليا القائمة حالياً باعتباره موضوعاً للمنازعات التي تحدث تجاهه أو من خلال مدى مطابقة النصوص التشريعية للأحكام والمبادئ التي تضمنها، كما إن انعدام النص القانوني الذي يشير إلى تعطيل عمل المحكمة الاتحادية العليا القائمة الحالية، أو تحديد اختصاصها بما فيها تفسير النصوص الدستورية، يمنحها المشروعية في ممارسة اختصاص تفسير النصوص الدستورية والاختصاصات الاخرى المشار اليها في المادة (93) من الدستور.
والأفضل الإسراع بتشريع قانونها الذي ما زال يأن من ضغط المساومات السياسية والقضائية التي ابقت مشروع قانونها طي الكتمان عن الجمهور منذ 2007، وهناك نقطة جوهرية ضرورة تفاديها، بإن طريقة تعيين اعضائها لم تكن وفق الدستور بالرغم من صدور مراسيم جمهورية في وقتها لأعضائها، وهذا الوضع يخلق ازدواجية دستورية وازدواجية قانونية تضعف النظام المدني للدولة وللدستور، وللقانون بعامه، وتقرب المحكمة من الطابع السياسي الذي وقعت به مؤسسات الدولة بعد التغيير.
ومن العرض أعلاه نجد إن الرأي القانوني الراجح يتجه صوب صلاحية المحكمة الاتحادية القائمة حالياً في ممارستها للاختصاصات المشار إليها في نص المادة (93) من دستور العراق لسنة 2005 بما فيها صلاحيتها في تفسير النصوص القانونية، وأي قول خلاف ذلك يؤثر ويعطل المصالح العليا للشعب العراقي والحفاظ على حقوقه الأساسية الدستورية.
4- هناك خطا دستوري ترتكبه المحكمة في إشارتها لمسميات سياسية ليس لها عناوين دستورية ولا قانونية ولاوجود لها حتى في النظام الداخلي لمجلس النواب رقم (1) الصادر بتاريخ 15/6/2006، حيث كان يجب على المحكمة الاتحادية العليا بهذا المقام أن تتجنب من قريب أو بعيد الخوض في تسميات سياسية، بما يعزز التكهنات على الضعف الدستوري والقانوني للمحكمة أو إنها فعلاً قد استجابت للمعايير السياسية أكثر من اهتمامها بالمعايير الدستورية القضائية المعروفة.
5- ليس هنالك نصا دستوريا ينص على ان يكون (رئيس المحكمة الاتحادية العليا) هو نفسه (رئيس مجلس القضاء الاعلى)، وحتى قانون المحكمة المرقم 30 لسنة 2005 خلا من ذلك، وهناك اقتراح في مشروع قانون المحكمة الاتحادية الدستورية بان يكون رئيس المحكمة رئيساً للسلطة القضائية من الناحية الإعتبارية امر غير موافق للأصول الدستورية، ورئاسة المحكمة الاتحادية الدستورية مهمة اتفق الجميع على إنها تسموا بالأهمية على إعمال إدارية ومالية لتشكيلات السلطة القضائية، بالوقت الذي يمكن ان يقوم بهذه المهمة العادية اي شخصية قضائية، وتقسيم المناصب على شخصيات قضائية يؤدي الى إيجاد الوقت الكافي لكل من رئيس (السلطة القضائية ورئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة الاتحادية العليا) التركيز الكافي لإيجاد حلول مهنية لملفات دستورية وجزائية ومدنية وشرعية ثبت للجميع كيف تراجع القضاء العراقي في معالجتها، لا سيما ان تجربة التركيز على راس قيادي واحد بالسلطة القضائية اضعف من فرص ظهور قيادات قضائية تساهم مع الاخرين في مسؤولية النهوض بالعملية القضائية في البلاد التي تحتاج الى جهود جبارة لإعادة النظر بالتشريعات والإجراءات القضائية كدولة إتحادية تستطيع أن تلبي معايير العدالة الوطنية والإنسانية للمواطنين ، ونعتقد أن منح كل الصلاحيات بيد شخصية قضائية تتولى رئاسة عدد من تشكيلات السلطة القضائية لا ينسجم مع فلسفة القضاء وسياقات المحاكم العادلة التي تعمل بدرجات وبشخصيات قضائية مختلفة لضمان توفير إمكانية الطعن وتحقيق العدالة.
6- ان تقديم المرشحين من القضاة لمناصب قضائية لمصادقة مجلس النواب عليهم، مهم جدا وضروري لأنهم سيكلفون بالنظر بقضايا خلافية دستورية تمس عموم مؤسسات الدولة العراقية والمواطنين، ولهذا يقتضي ان تكون شرعية اعضائها مستمده من مصادقة ممثلي الشعب، التي إعترفت بها ضمناً، بخاصة ان قضاة المحكمة الاتحادية العليا يجب ان يكونوا اعلى مراتب من اعضاء محكمة التمييز المطلوب الموافقة على تعيينهم من قبل السلطة التشريعية، ولهذا من باب أولى أن تكون شرعية تعيين قضاة المحكمة الاتحادية العليا مستمدة من ممثلي الشعب حسب ما معمول به بكل الدول الدستورية.
7- ان تعطيل تشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا بهذه الطريقة التي تتم في أروقة البرلمان والكتل السياسية بحجج منها الجمع بين رئاسة المحكمة الاتحادية الدستورية ورئاسة السلطة القضائية وموضوع خبراء الفقه الإسلامي التي تعترض تمرير مشروع قانون المحكمة الإتحادية العليا كل هذه الفترة فأنها مسرحية بدون مخرج غرضها تعطيل تمرير القانون بمسلسل التأجيل الذي سيكون سابقة مؤسفة بالعمل التشريعي، حيث اصبحت هذه اللعبة مكشوفة للمختصين وللرأي العام.
وسنكمل مقالنا في جزئها الثالث وسنتناول المحور الثالث من المعبر الاول بعنوان شرعية محكمة التمييز الاتحادية