كما اخرج الكاتب الاسباني ( ميجيل سرفنتس) بطله( دون كيخوته) من قريته الصغيرة يحمل درعه ورمحه ، ويمتطي حصانه ليملا الأرض عدلا بعد أن امتلأت ظلما ، ولم يكن البطل يعرف وجهة يسير إليها ، ولكنه كان على ثقة من أن هنالك مخاطر لابد أن يخوضها لكي يحقق في الحياة هدفه النبيل ، ويصل بالبطل السير إلى مفترق تتشعب عنه الطرق فيقف هنيهة وهو يعلم أن لامناص من اختيار طريق يسلكه وغلبت عليه الحيرة ولكنه اهتدى أخيرا إلى مخرج مما هو فيه ،لقد أطلق لحصانه العنان وترك له حرية الاختيار ثقة بحصانه الذي كان رفيقه ، عله يهتدي بحسه وبغريزته إلى حيث تكون الإخطار ويكون المجد ..
كان )دون كيخوتة( يجهل أين يكمن الخطر فسار على سجيته لملاقاته والقصة معروفه ، لكننا اليوم نعيش تلك الأخطار ، وهي تأكل وتشرب معنا في كل يوم وكل ساعة ، حيث نتعرض إلى أخطار حقيقية تفرضها علينا أجندات احزاب وتكتلات سياسية مهيمنة ، عدوها الأول والأخير هو المثقف المتنور وكل ما يمت للثقافة والفنون بصلة ، ذلك المثقف المتمرد كاشف الزيف وفاضح الأسرار ، وأمام هذا التحدي ، لابد للفنان و المثقف من الاختيار ، أما طريق السلامة، أو طريق الندامة أو الاختيار الأصعب وهو طريق من يروح فلا يرجع ، هكذا تكون الخيارات صعبة أمام المثقف العراقي اليوم. .
لاشيء البتة يمكن أن يحمل إلي السعادة، ورغما عن ذلك أحيانا تغمرني البهجة وأشعر بالمرح ولو للحظات ، ينتابني ذلك الشعور وأنا أمد أناملي لأعترض شعاع ضوء يسقط بكثافة وسط ظلمة داجية ، أو يقع بصري على حركات قطة صغيرة تثب جذلة عابثة بذيل أمها ، وأسعد وأنا أتطلع إلى قطعة عشب خضراء وسط مساحة رمادية قاتمة من الظل، فوسط أكوام اليأس التي تحوطني ومع غباره الذي أستنشقه أشعر بخفقة الحياة قوية ، خيط دقيق يشدني إلى الطفل الذي يحبو فأخشى عليه قسوة الأرض ، ونفس الخيط يشدني إلى أنين مريض يحتضر في جوف الليل فأشعر بأستعدادي أن أضحي بكل شيء في سبيل منحه الحياة ، أدرك هذا وأحسه وأعانيه .
نضغط على أنفسنا ونقتنص الوقت من سبل عيشنا وكفاف أرزاقنا وما نلاقيه من صعوبة الحياة المكتظة باللهاث ، لنقول كلمة حرة مخلصة ربما تفضح اجرام مجرم فيساق الى العدالة انتصارا للقانون، أو حاكم متسلط فيتعظ ، أو مسئول فاسد فيرعوي ، أو رجل دين سفاح فيكف عن فتاواه المحرضة القاتلة وتدخله السافر في شؤون الناس الخاصة والعامة ،أقول رغم كل ذلك اضغط على نفسي لكي أنسى وأشغلها بالعمل فتتقاذفني الأفكار فأتمرد وأشعر بشيء يموت في أعماقي ، فلا يسعني سوى أن أتمرد ثانية ولكن على يأسي ، لماذا يفقد الناس هذه الطاقة الجبارة !؟ طاقة التمرد على اليأس والفشل كأنهما أعداء الداء يجب التخلص منهما .
ضمير الإنسان كاتبا كان أو مثقفا أو أديبا او فنانا ليس نظرية مثالية ؛ ولكنها ظاهرة طبيعية تجدها في كل الأزمنة والبلدان ، سيان كانت المعانات ، فأن الشعلة المتقدة بي وفي غيري من المثقفين تلك الشعلة تربطنا بالواقع وعلينا تقع مسؤولية بقائها متوهجة بالفن والإبداع والكلمة الحرة الجريئة الصادقة ،
وتتضاعف مسؤولية الكاتب أو الفنان أو المثقف كما يتضاعف عذاب ضميره وصراخه مع نفسه وإحساسه بالعجز إزاء أوضاع بائسة ليس من شانها التغير تحرسها قوى متغطرسة تصر على تغليب افكارها السود ، ولاقبل للمثقف مقارعتها بمفرده ، ولكن ما يمده بالقوة على الاستمرار والصمود وثوقه من أنه إذا أنهار أو تنازل أو تهاون في أية قيمة من القيم التي عاش من اجلها ، فان حياته ستصبح جحيما ، وعذابه الداخلي سيكون اكبر من أي تضحية، ولكن الأمر يغدو اشق على النفس إذا تعارض مع أفكار زملاؤه الذين يشابهونه في الأهداف أو مع ما ينادي به ، فهل يمكن للكاتب أو الشاعر أو الفنان أن يضحي بما يؤمن به في سبيل تحقيق وحدة الهدف وهو بحكم تكوينه النفسي يحترم العمل المتواضع كما يحترم العمل الكبير، هنا تبدأ المعانات مضاعفة ومعقدة ،
أن الدعامة الوحيدة التي يمكن أن نعتمد عليها كمثقفين هي تضامننا حتى لو توهم احدنا أن من حوله يضطهدونه أو أنهم غير راضين عن تفكيره وسلوكه الذي تشي بهما كتاباته ومواقفه وهذا شأنهم لمعضلة ما أوهو الاختلاف في طريقة التفكير، فما نمر به اليوم ليس محنة فحسب بل هو امتحان لصلابتنا ، وليس أمامنا سوى أن تصبح صلابتنا مقرونة بإخلاصنا لما ندفع به من أفكار وتطلعات تنقل حياة مجتمعاتنا البائسة إلى حال أفضل .
مجتمعاتنا تمر بمرحلة جديدة من السبات العميق وواجبنا أن لانخون أو نبخل أو نتكاسل وندع اليأس والفشل يغزونا حتى لو استعصى عليهم فهم ما نناضل من اجله ، ليس أمامنا سوى أن نعبر عن أنفسنا من خلال تضامننا إن أردنا لأحد أن يسمعنا ، وان لانعيش على هامش زمننا الذي ينبذنا لأنه لا يفهمنا أو هكذا ثقف ، وهذا ما نعنيه بالسبات ،ليس إمامنا سوى هذا الطريق لو أردنا أن نكون بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا ،
كيف نستطيع أن نحول عذاباتنا وآلامنا وبؤسنا وتمردنا إلى طاقة ايجابية تزخر بالإنتاج الفكري والفني والأدبي ، ذلك لان أجيال جديدة ستستفيق من سبات الإباء والأجداد حتما وستقرأ ما كتبنا من أفكار وما صنعته أيادينا من فن جميل معبر ؛ وستكون كتاباتنا آنذاك نبراسا تستضيء به ، هذه هي المعركة الحقيقية للفكر أليوم.
الخطورة أن نتوهم إن المسالة بسيطة وحلها يكمن في الهرب ، إن ضاقت بلادنا بنا فثمة درب لايفنى هو طلب اللجوء في البلدان الأوربية أو الهجرة إلى قارات في النصف الآخر للكرة الأرضية ،وكفى المثقفين شرور المواجهة مع سدنة معابد الحكم الجدد ، هناك حيث الأمن والأمان والعيش الرغيد ، أو أن يمكث المثقف في بلده ويصمت حيث لاضرر ولاضرار !؟ يتابع الإحداث عن طريق الإخبار التي تعج بها الفضائيات ليل نهار كل حسب أجندتها ومزاج مالكيها، وفي الصباح يتاح لمثقفنا المتعاون جدا أن يعلق على تلك الإخبار والأحداث بطريقة جدلية بلا هدف ، وبعد أن ينهي تعليقه يمنح أجره بعدد الكلمات التي تفوه بها أو يتم التعاقد معه على أساس القطعة فلكل هذار تسعيرة، وبعدها يتحول في هجيع الليل إلى عبقري مناضل وفنان واع يشارك في الإحداث من مخدعه ويتفاعل معها وهذا يكفي فقط كي تظهر الأمور سافرة بعد وقت قليل فينكشف له انه كان ممثلا محتالا هزليا من الدرجة العاشرة يخدع نفسه ويفتعل حياته كما أرادوا لها ويفتعل فنه وأدبه كما يفتعل جدالاته في المناقشات إذ يلبس ثوبا مهلهلا ليس بثوبه .
حين تصبح إرادتنا أقوى من أي جدل نستطيع فقط أن نبدع شيئا ذا قيمة ووزن ، والكلام الكثير عن الحتميات التاريخية لايصنع إبطالا ، البطولة الحقة تكمن في أولئك الذين يأخذون على عاتقهم مسؤولية شحن العقول بالوقود ، بمعنى كشف الحقائق لأطمرها في مستنقع الأكاذيب ، حتى لو كان غيرهم يفكرون بعقلية مختلفة ،سيما وان من بيده السلطة والثروة أليوم هم ألد أعداء الثقافة والفن والتقدم ، والتحضر والمدنية والتنوير، أولئك هم رعاة التغيير الوهمي بشقيه – طائفي وعنصري- والذين يخشون على مكتسباتهم الجديدة من الفقدان فيحاربون المثقف بشتى صنوف الأسلحة لوئد صوته وكسر قلمه.
إن تخاذل احدنا فزعا وخوفا فسيتخاذل وراءه آخرون ، وهذا مرادهم وغايتهم. كل مبدع فنان كان أو كاتب أو مثقف يشعر بهذا الشعور ألان ولكن هذا الشعور يجب أن لا يلقي بنا إلى أحضان التردد والنكوص ليتلقفنا بعد ذلك اليأس.
إن خفقة الحياة أقوى من أي شيء ، نحسها واضحة مع حشرجة شيخ كادح يزاول مهنة البقالة في السوق على كبر سنه ،أوفي خطوات امرأة كادحة تشرخ احتضار الليل لتسعى للعمل مع الفجر كما تشرخ يأسنا رغم إعجابنا بها والناس نيام ،نشعر بها مع نملة تحمل أضعاف وزنها وهي مستمرة في مسيرها نحو مهجعها مهما اعترضتها العوارض ، نتلمسها في حركة الناس في الشوارع والساحات وفي الأسواق والمقاهي ، في المدارس وحركة التلاميذ عند كل صباح ، كل هولاء يمثلون دفق الحياة ، حقيقتنا بصراحة إننا نخشى ذواتنا فلا نناقشها في العلن لخوف فينا ونخشى الآخرين فنرتاب ممن حولنا وتكبلنا رواسب الماضي الذي أفلس ولم يعد صالحا ، كيف نستطيع أن نكنس كل ذلك ونجعل من الإيمان بالحياة سطرامل على قصاصة ورق ، وعمود في جريدة حرة مستقلة ، أوعمل فني معبر ،او مقال في صحيفة الكترونية واسعة الانتشار يسرد فيها المثقف أفكاره وآرائه.
جميل أن نشعر بروعة بريق النجوم في السماء ، وخرير الماء لساقية في بستان دائم الخضرة ،جميل أن نحب ونعشق ونسمع موسيقى زقزقة العصافير وهي على أغصان الأشجار المورقة في الصباح ، ومن وحي ذلك الجمال ننظم شعرا أو نكتسب فكرة ونرسم الجمال لنعكسه إبداع ،ولكن كم يكون هذا أجمل إذا شعرنا بهكذا إحساس ونحن مدركون إن هناك من يسعى لقتل بهجة الحياة ، ويجهد في بث الظلام وفرض افكاره ومايعتقده على الاخرين بالقوة ، وكم يصبح أي فن بلا معنى لو شعر المثقف انه لم يعد له دور في الحياة سوى دور المتفرج !؟.