23 ديسمبر، 2024 8:51 م

محنة الاكراد واشكاليات القيادات الكردية

محنة الاكراد واشكاليات القيادات الكردية

تعد المسألة الكردية، اشكالية لها اسبابها الموضوعية الراسخة، فليست مصطنعة وليست مدعاة، وليست صغيرة الحجم، ولا هينة الشأن، ومن ثم فانها تطرح نفسها بقوة على ذوي الفكر وذوي القرار في آن واحد.
ان محنة الاكراد تتلخص في ان حقيقة القومية الكردية لا يماثلها الا استحالة وجود الدولة الكردية على الاقل، في اطار الظروف الاقليمية والدولية الحاضرة والمستقرة. واذا كانت هذه الاستحالة ناتجة عن توزيع الاكراد بين دول لا يتصور تنازلها عن اجزاء من ارضها- العراق، تركيا، ايران، سوريا- فقد زادها وعقدها عاملان:
الاول- الانقسام والصراع الداخلي الكردي- الكردي.
والثاني- الاستخدام المصلحي والانتهازي للمسألة الكردية من جانب اطراف اقليمية ودولية عديدة.
درجة الصراع الكردي مع الدولة الحديثة في العراق وتركيا وايران وسوريا، تختلف من الشدة الى اللين، ومن القبول الى الرفض، الا انه من المؤكد ان القومية الكردية كثيرا ما يشار اليها القومية المسلوبة الحقوق، كونها الوحيدة بين القوميات الكبرى الثلاث- العربية، التركية، الفارسية- التي لم تحصل على وطن في طفرة التشكل القومي آبان سنوات القرن العشرين المضطربة. هذا لا يعني تفردها، فالعرب ايضاً لم يشكلوا دولة قومية واحدة وان حصلوا على دول مختلفة في مناطق عيشهم.
وعلى الرغم من الاراء التي تشكك في طبيعة الهوية القومية بالمعنى الكامل للكلمة لدى الاكراد، الا انه يظل من الصحيح تمايزهم كجماعة عرقية وثقافية وارتباطهم منذ التاريخ القديم، ربما ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، بمنطقة محدودة من الارض الشهيرة بجبالها ومرتفعاتها الصخرية التي اثرت بدورها على طباعهم وحياتهم الاجتماعية ومثل القوميات الاخرى في المنطقة، فقد تبلورت المشاعر القومية الكردية في مواجهة الحكم العثماني الطويل، واذا كان انهيار الامبراطورية العثمانية في بداية القرن العشرين قد واكبه سعي ابناء القوميات الخاضعة لها لتحقيق استقلالهم، فان الاكراد لم يتمكنوا من تحقيق حلمهم القومي في وطن خاص بهم.
وعلى الرغم من اقرار حقهم في تقرير المصير وفقا لمبادئ ويلسون ومعاهدة فرساي ومعاهدة سيفر، الا ان هذا لم يؤد الى ميلاد دولة كردية…
اولاً-لأن القوى الاستعمارية التي كانت مسيطرة على المنطقة في ذلك الوقت لم تشأ قيام تلك الدولة، حيث اقتضت مصالحها تقسيم المنطقة الكردية بين الدول التي كانت ترسم حدودها في ذلك الوقت – العراق، تركيا، ايران.
وثانياً- لأن كمال اتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، رأى في التركية سمة تجب أي انقسامات عرقية او قومية اخرى، واصبحت وحدة الوطن التركي عقيدة تستعصي على أي مساس بها. وكان من الطبيعي ان يكون اكراد تركيا الذين يشكلون في الواقع ما يقرب من نصف الاكراد جميعاً، اول ضحايا ذلك المبدأ.
وثالثاً- وكما يرى بعض المؤرخين، فان الاكراد انفسهم ربما لم يحسنوا استغلال الفرصة التي هيئت لهم عقب انهيار الامبراطورية العثمانية او ربما لم تهيأ لهم اصلاً الظروف لاستغلالها.
الجذور التاريخية للشعوب الكردية ضاربة في القدم. جمهرة المؤرخين تعيد وجود او اصل الاكراد في المنطقة التي يعيش معظمهم فيها الى 2500 سنة قبل الميلاد. وقد اسسوا دويلات ومماليك عديدة عبر ذلك التاريخ الطويل في تلك الجبال الوعرة والمعزولة جغرافياً.
الاكراد الحديثون هم من مواليد عدد من الهجرات المختلفة والغزوات الخارجية التي اختلطت بالسكان الاصليين. لقد مرت على مناطقهم شعوب وامبراطوريات عديدة خلفت الكثير على ارضهم من ثقافتها واعرافها ايضاً… وتركت تأثيراً من نوع ما في الاكراد الحاليين. فالاكراد خليط من السكان الاصليين ومن اولئك الذين احتلوا هذه المنطقة لفترة من الزمن، وجميعهم اسهموا في هذا التكوين الانساني المعروف اليوم بـ الاكراد.
عدد الاكراد الذين يعيشون في الشرق الاوسط اليوم غير معروف على وجه اليقين. هناك تقديرات مختلفة تخضع في بعضها للظروف والاهواء السياسية، اما بسبب نقص في المعلومات الاولية المؤكدة واما بسبب رغبة سياسية.
لقد حظيت المسألة الكردية في عمومها بتركيز اعلامي واهتمام بحثي واسع انتقل بها الى افاق دولية غير مسبوقة. وبدا للمرة الاولى ان هذه المسألة صارت قادرة على ان تكون عنصراً فاعلاً في تفجير الحروب في المحيط الاقليمي للتواجد الكردي. وعلى هذا الاساس اعيدت طرح ملفات المسألة الكردية باعتبارها احدى القضايا الحاضرة والمنسية في آن واحد.فقد كان ذلك نتيجة لتقدير ان تلك المسألة سوف تطرح نفسها بقوة على صعيد السياسة الاقليمية والعالمية في السنوات القادمة، وربما لفترة طويلة.
اكراد العراق، مثلوا الحالة شبه الخاصة في تطور الرغبة الكردية للاستقلال والرغبة في تأسيس دولتهم القومية. فقد ساعدت ظروف عديدة ومتغيرة وفي بعضها دراماتيكي على وصول اكراد العراق الى ما وصلوا اليه اليوم. فعراق البعث الذي حكم ما بين 1968- 2003، دخل في معارك سياسية بعضها عسكري مع الاكراد في العراق. كان هناك صدام حاد ايديولوجي في اساسه، حيث رفع البعث شعار القومية العربية، في الوقت الذي يشكل الاكراد حوال 3% من مجموع الشعب العراقي، اضافة الى ذلك شكوك عميقة في مواطنة الاكراد العراقيين حتى قاد الامر الى حرب شبه مستمرة ثارت وتراجعت اكثر من مرة، فحصل الاكراد على حكم ذاتي محدد في عام 1970، ما لبث ان انفرط حتى قادت الشكوك المتبادلة في نهاية المطاف الى استخدام غازات الابادة الجماعية في حلبجة او القتل الجماعي في ما سمي بحملة الانفال.
لقد ادان الرأي العام العالمي كلا الحملتين، الا ان العراق لم يعاقب بسبب التواطؤ والتشابك المصلحي للقوى الغربية ، فبعد حرب الخليج الثانية 1991، ظن الاكراد ان فرصة تاريخية قد سنحت فقاموا بانتفاضة واسعة سرعان ما قمعها الحكم البعثي الذي وجد نفسه مطلق اليد او اعتقد ذلك، وهذا ما ألب عليه الرأي العام العالمي فقرر مجلس الأمن اتباع سياسة المناطق الآمنة. فالأكراد الذين فروا الى كل من ايران وتركيا نتيجة خوفهم من تكرار انفال ثانية، وجدوا انفسهم بين حجر الرحى. فالدولتان تحتضنان عدداً كبيراً من الاكراد وأي تآخٍ بينهم قد يسبب في نظر السلطات، اضافة الى النار تحت الرماد.
غير ان محنة الاكراد لم تنجم فقط عن تلك الظروف التي حالت دون تحولهم من جماعة قومية الى دولة قومية وانما زاد منها الصراع الداخلي المزمن بين اماراتهم وقبائلهم وعشائرهم واحزابهم، بحيث بدا ذلك الصراع وكأنه سمة مميزة للتاريخ الكردي قديمه وحديثه، واذا كان الصراع المرير في السابق – قبل 9/نيسان / 2003-  بين مسعود البرزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني) و جلال الطلباني (الاتحاد الوطني الكردستاني) في العراق، ابرز تجسيد لتلك الحقيقة الكردية، فان الامر يتكرر في كل المناطق الكردية بصيغ او اشكال اخرى عديدة، حيث لم يستطيع الاكراد العراقيون حتى في ظل الحماية الدولية في ما بين 1990، وحتى نهاية ذلك العقد تقريباً ان يتعايشوا بسهولة. فقد انقسموا الى فئتين متحاربتين طامحتين للهيمنة والتفرد بالسلطة هما حزب برزاني وحزب طلباني. الاول استنجد في صراعه مع الثاني بحكومة بغداد البعثية والثاني بطهران، وكلاهما، أي بغداد وطهران لا يريد ان يرى ارض كردستان في العراق او غيرها مستقلة. تفاقم الصراع بين الطرفين حتى سالت الدماء غزيرة، وبوجود طرف ثالث وقتئذ –انصار الاسلام- وجدت واشنطن ضرورة قصوى للتدخل، فكان الحل هو تقسيم الارض الآمنة الى قسمين اداريين كل له سلطة شبه مطلقة.
كان التحضير للعام 2003، يؤشر لوقوع العراق في ظل ادارة سياسية مختلفة وغير مسبوقة وجدت الاطراف الكردية نفسها ملزمة بالسير وفق الجدولة الجديدة التي كان من شأنها ان وسعت من نفوذ السلطة الكردية، فوجد اكراد العراق انه بات في امكانهم الاستحواذ على كركوك المدينة النفطية المهمة، وكذلك على جزء كبير من الموصل، بل واصبح احد قادة الكرد وللمرة الاولى في التاريخ رئيسا للجمهورية العراقية.
لعل تلك الصراعات الكردية- الكردية، فضلاً عن التشتت الجغرافي للأكراد، هو ما جعل الاكراد اداة للصراعات الاقليمية والدولية بالمنطقة، على نحو مأساوي فريد. فالدول الاقليمية ذات الاقليات الكردية نفسها دأبت على استغلال الاكراد في صراعاتها وتنافساتها، مثل دعم ايران لاكراد العراق عقد السبعينات والثمانينات، ودعم سوريا لاكراد تركيا، ناهيك عن تحالفات كردية مع حكومات الدول المعنية ضد اكراد آخرين من الواقعين تحت حكمها طبقاً لتقسيمات مذهبية سياسية او دينية، ولكن اكثر جوانب تلك الصورة مأساوية هي الاستغلال الانتهازي الفج للورقة الكردية من جانب القوى الاخرى الاقليمية او الدولية، في حين دعمت الولايات المتحدة اكراد العراق سعياً الى اضعاف صدام حسين، وقفت بشدة ضد حزب العمال الكردستاني في تركيا مناصرة للحكومة التركية ومعتبرة اياه مجرد تنظيم ارهابي. والموقف نفسه ينطبق على اسرائيل التي دعمت الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، في حين وقفت بشدة مع النخبة الحاكمة التركية ضد حزب العمال الكردستاني، وهو ما وصل الى ذروته في الدور الذي لعبته المخابرات الاسرائيلية في تعقب عبد الله اوجلان والقبض عليه.
وفي واقع الامر، فان ذلك الاستغلال الامريكي – الاسرائيلي للورقة الكردية ليس الا تكراراً لنموذج ثابت للسلوك الدولي منذ ظهور المشكلة الكردية في العصر الحديث، حيث لعبت اللعبة نفسها – بريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا والاتحاد السوفيتي السابق ـــــ كل من زاوية الحفاظ على مصالحه الاقليمية ودعم موقفه في الصراع مع القوى الاقليمية او الدولية، فضلاً عن دخول قضية اللاجئين الاكراد في عواصم كثير من تلك الدول كعنصر اضافي ضاعغط على سلوكها.
نحن اذن ازاء محنة لا تلوح لها نهاية واضحة في المستقبل المنظور لاقلية (أقوامية) وجودها اصيل في المنطقة، التحم – نوعاً ما- نضالها في لحظات فاصلة من التاريخ العربي مع النضال العربي ضد القوى الغازية للمنطقة، وقيادة صلاح الدين الايوبي للعرب والمسلمين ضد الغزوة الصليبية افضل شاهد على تلك الحقيقة.
فقدان شروط النضال القومي
لا شك في ان أية حركة قومية تحررية لا تكتسب متطلبات وجودها وصفاتها النضالية الحقيقية وعوامل ديمومتها وامكانات نجاحها في تحقيق اهدافها الا بتوافر الحد الادنى المطلوب لشروط النضال القومي التحرري ذي الخصائص الاساس الآتية:
1- وجود حركة سياسية تتمثل في حزب او تنظيم يمتلك الاسس الضرورية لنشاطه اليومي في مختلف الظروف والاحوال ويستقطب الجماهير التي تطرح عليها برنامجه السياسي، ويعد مناضلين مؤمنين بالاهداف والمطامح التي تبناها هذا الحزب او التنظيم، مناضلين قادرين على قيادة الجماهير في نضالها السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي.
2- وجود قيادة لهذه الحركة السياسية تمتلك الصفات التي تؤهلها لمواصلة النشاط والنضال على اختلاف درجاته وفق الظروف التي تمر بها الحركة وتجاوز العقبات والنكسات المؤقتة وتحديد الاصدقاء والاعداء قيادة بارعة في اختيار الظرف المناسب للتقدم او التراجع المنظم، تمتلك القدرة على استخدام المرونة الثورية اذا ما تطلب الامر ذلك، قيادة تضع مصلحة الشعب وجماهيره والوطن وسيادته فوق أي اعتبار آخر، قيادة ذات فكر استقلالي في التعامل مع اطراف اجنبية معينة فلا يكون حزبها او حركتها السياسية او العسكرية تابعة لهذا الطرف الاجنبي او ذاك يحركها او يوقفها ويعطلها لمصلحته.
3- وجود عقيدة وطنية وقومية واضحة متطورة تستلهم من تراث الشعب وتقاليده النضالية وتحدد برنامج العمل السياسي في اطاره العام،  وترشد المناضلين الى افضل السبل في التوعية السياسية والفكرية وفي تعبئة الجماهير للاسهام بالنضال الوطني والقومي.
ان العقيدة الوطنية والقومية التي تعتمدها أية حركة سياسية لا بد وان تنسجم مع حركة النضال التحرري الانساني العالمي ليقف اصحابها الى جانب الشعوب المناضلة من اجل تحررها وتقدمها وضد جميع اعداء الشعوب.
4- تتبنى الحركة القومية التحررية اهدافاً مرحلية توفر لها تناقض بين الاهداف المرحلية والاهداف الستراتيجية الا في الفترة الزمنية وفي صيغ التحالفات الجبهوية، وتربط برباط وثيق الاهداف المرحلية والستراتيجية العقيدة الوطنية والقومية الشاملة والمتطورة، ولا يجوز القفز على الاهداف المرحلية وتجاوزها قبل تحقيقها كاملة لانها الاساس الوطيد والراسخ لبلوغ الاهداف الستراتيجية.
5- كل حركة قومية تحررية عمادها الشعب بجماهيره الواسعة وطبقاته وشرائحه الاجتماعية ذات المصلحة الحقيقية في التحرر الوطني والقومي وفي التقدم الاجتماعي وفي توطيد دعائم الاستقلال الوطني.
ان هذه الخصائص وما يرتبط بها من قضايا من قريب او بعيد تجعل الحركة القومية التحررية ذات شأن كبير في مصير شعبها وجماهيره ومستقبله. فهل كانت الحركة الكردية منذ نشأتها تمتلك كل هذه الخصائص؟
الوقائع الثابتة تؤكد انها لم تكن تمتلكها لا بسبب خلل في المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب الكردي في العراق ولا بسبب نقص في الوعي السياسي لدى العاملين في الاحزاب والمنظمات الكردية التي لعبت دورها بفترات معينة في تاريخ العراق الحديث على الساحة السياسية ولا بسبب افتقار الحركة الكردية لمستلزمات مواصلة مسيرتها، فما هي الاسباب والعوامل التي اوقفت الحركة الكردية خلال فترات معينة في ازمتها الحادة كانت لها اثارها السلبية الذاتية والموضوعية في حياة شعبنا العراقي بكل مكوناته الاقوامية؟
فعلى الرغم من قدم هذه الحركة بالقياس الى العديد من الحركات القومية للشعوب الاخرى، ورغم كثرة الانتفاضات المسلحة التي كانت تطبع الحركة القومية الكردية منذ اواخر القرن التاسع عشر الا انها جميعا قد باءت بالفشل واخفقت في احراز اية نتيجة منطقية تتجاوب مع مصالح الشعب الكردي بخاصة وشعبنا العراقي بعامة، لماذا؟
للاجابة على هذا السؤال لا بد من القول ان الحركة الوطنية والقومية الكردية جزء من حركة شعبنا العراقي الوطنية والقومية ، ولأن الاكراد جزء من الشعب العراقي عاشوا على ارض العراق منذ الآف السنين وارتبطوا بشعبه حياتياً وتاريخياً ودينياً واجتماعياً وسياسياً ومصيرياً، وشارك الاكراد العرب في العراق معاناتهم وآلامهم وافراحهم وانتفاضاتهم وثوراتهم وانتصاراتهم فأرتبطت حركة الاكراد الوطنية بحركة شعبنا الوطنية والقومية على امتداد قطرنا العراقي وتجاوزت حدود العراق الى ما يهم شعبنا العربي.
موقع الخلل في القيادات الكردية
1ــــ العشائرية
لا شك في ان الحركة القومية الكردية كانت حركة مجموع الشعب الكردي، كما يفترض فيها ان تمثل او هكذا في الاقل فهمها او تصورها الآخرون، وفي مقدمتهم الاكراد انفسهم الذين تقبلوها منذ البداية باعتبارها تمثل الواجهة المشروعة للطموحات الشريفة لمجموع الشعب الكردي في الوصول الى غاياته النبيلة في التحرر من ربقة الاستعمار الذي كان يحكم  طوقه حول عنق الشعب العراقي بكل اقوامه آنذاك، اضافة الى الاماني المشروعة في العيش الكريم والمستقل ضمن اطار دولة العرب والاكراد الواحدة، ولكن هل كان قادة الحركة الكردية يفهمون الحركة بهذا الشكل، ويقدرون دورهم القيادي في ضوء ذلك المفهوم وعبر ذلك المنطق؟
كلا، طبعاً، فقد اثبتت الوقائع التاريخية، ان النظرة العشائرية الى الحركة الكردية كانت تطغي عند اولئك القادة الى سواها من المفاهيم والأطر، فقط تبواء واحدهم المركز القيادي في الحركة وكأنه ما يزال شيخ عشيرة، ومن ثم أخذ ينظر الى الحركة القومية ومجمل الشعب الكردي بالمنظار ذاته الذي كان ينظر به ويتعامل به مع عشيرته… وهنا لا بد ان نلاحظ ان معظم قادة الحركة الكردية كانوا رؤوساء عشائر قبل ان يكونوا قادة للحركة الكردية.
ان الدرس الذي من الضروري استنباطه من كل الحركات والثورات الكردية، هو ان اسرة او عشيرة كردية معروفة، لا تستطيع القيام بدور القيادة الناجحة لمجرد ان لديها قوة مسلحة او نفوذاً دينياً او عشائرياً، وانما يجب ان يقوم بالدور القيادي والموجه من جميع النواحي، حزب او احزاب سياسية تستند الى الشعب، ولها تنظيم، وتؤمن بعقيدة ثورية، وباسلوب العمل الجماعي.
1- فردية القرار ودكتاتورية التصرف والتعنت في الرأي
ان القيادة بلا شك هي عملية صعبة ومعقدة تحتاج ممن يمارسها ان يبذل جهودا جادة ومضنية في سبيل انجاح وبلورة القرار الصائب الذي يؤدي الى افضل النتائج وبانتهاج ايسر السبل المتاحة، كما لا شك فيه ايضاً، ان القرار السياسي التاريخي الصادر من مركز القيادة يجب ان يكون مشبعاً بأكبر قدر ممكن من الاراء والافكار المحيطة، كي يكون ناضجاً ومستوعباً لجميع الاحتمالات والنتائج، وهنا يركز المؤرخون على ضرورة اتاحة الفرص الديمقراطية الكافية لمناقشة القرارات ذات الصيغ المهمة والخطيرة في حياة الامم والشعوب كي تأتي تلك القيادات محملة باوفى ما يمكن من مقومات النجاح، ويعزى طبقاً لذلك الفشل والاحباط الذي تعاني منه القرارات والاجراءات التي تصدر عن مراكز قرارات دكتاتورية فردية الى التفرد والانانية في اتخاذ القرارات.
وهذا بالضبط ما عانت منه الحركة الكردية طوالحياتها، فقد ابتليت بأناس فرضوا انفسهم قادة عليها، وكان معظمهم مرضى بوهم التفرد في معرفة كل الامور والدكتاتورية ونبذ المشاركة في الرأي، ابتداء من ابسط الامور الهامشية ووصولاً الى اخطر القرارات المصيرية… فكان لها ان سقطت في متاهات التخبط والعشوائية في اتخاذ القرار، وكانت في ذلك نهاية بعض هذه القيادات وفشلها الذريع.
ان القيادة الكردية لم تكن بمستوى الطموح، فان دوافعها ايضا بقيت قبلية وسلطوية. وهنا يجب اعتبار سرعة التطور في داخل كردستان كعامل آخر من عوامل فشل الحركة القومية الكردية لم يكن قادراً على تحمل عبء الحركة القومية الكردية وتقوقعها في مصالح انانية.
ان اللوم يقع على القيادة بالذات في هذا الموضوع، ان الواجب لأي قيادة او حركة هو تطوير مجتمعها سياسياً وفكرياً، ولكن هذا الواجب غالباً ما اهمل من جانب الاكراد، وبدلاً من ذلك كانت القيادات تعطي اهتمامها اكثر لمنازعاتها… وبقيت منقسمة، حتى انه في النهاية انعكس هذا الانقسام على المجتمع الكردي، مما اعطى الفرصة الذهبية للقبائل والاقطاع في البقاء واقوياء ومسيطرين.
2- الاستعداد الكامل لخدمة الاجنبي والتطلع لمساعدته
يلاحظ المتتبع لمسيرة حياة معظم القيادات السياسية للحركات الكردية المسلحة انتشار ظاهرة مشتركة يعاني منها الاشخاص الذين صعدوا الى مركز القيادة واصبحوا على رأسها، الا وهي ظاهرة الرغبة والاستعداد الكامل للتعامل مع الاجنبي والقوى المتحفزة وراء الحدود لضرب الاهداف القومية للحركة الكردية ذاتها من جهة والاهداف الوطنية لمجمل مكونات الشعب العراقي ووحدته وسيادة بلاده من جهة اخرى.
وبالرغم من تفاوت درجات التعامل والتعاون من قيادة الى اخرى ومن شخص الى آخر، فان تاريخ الحركات الكردية القومية الحديثة يظهر لنا انه ما من قائد لحركة كردية مسلحة الا وسجل تعاوناً وتعاملاً مع طرف ما من الاطراف الاجنبية.
فالشيخ محمود بن سعيد الحفيد مثلاً تعاون مع الاتراك اولا ثم تركهم واتجه للتعاون مع الانكليز ثم عاد ثانية ليتعاون مع الاتراك ضد الانكليز وحتى الروس، لم ينسى الشيخ الحفيد ان يحاول التعاون معهم، حيث ارسل رسائل بذلك الصدد اليهم.
ولكن هل خطر للشيخ الحفيد في خضم تعامله وتهاونه مع تلك الاطراف الاجنبية ان يتعاون مع الملك  فيصل الاول مثلاً، اولم يكن ذلك افضل للحركة الكردية وجماهيرها، ويحقق كسباً لها؟
ولا شك في ذلك ابداً، ولا شك ايضاً، ان الملك فيصل كان يرغب في خير الكرد وقضيتهم اكثر مما كان يرغب الاتراك والانكليز.
اما بالنسبة الى الملا مصطفى البارازاني، فانه يمثل النموذج السيء والمشين في تاريخ الحركة القومية الكردية بالنسبة لاسلوب ودرجة تعاونه وتعامله مع الاجنبي وبشكل سافر ومكشوف، متحدياً بذلك مشاعر الشعب الكردي والشعب العراقي معرضاً وحدة التراب الوطني للخطر الماحق.
ان البارازاني لم يتعاون مع الاجنبي لصالح الحركة الكردية في تصوره على الاقل ولكنه تعامل مع الاجنبي لايذاء العراق وشعبه بشكل متعمد وعن سبق اصرار. فلقد تعاون البارازاني مع الد اعداء العراق والامة العربية، اذ تعاون مع اسرائيل وتعامل مع الولايات المتحدة الامريكية واجهزة مخابراتها السيئة الصيت. فقد كشفت الوقائع القاطعة والادلة الدافعة عن تفاصيل ذلك التعاون الذي وصل الى درجة التحالف المصيري الذي لم يكن مرده يعود الى ضرورات تكتيكية مؤقتة او طارئة، بل كان ذلك خطاً ثابتاً واستراتيجياً لدى الملا البارزاني.
3- ازمة الايديولوجيا والفكر السياسي للحركة القومية الكردية في العراق
لا يشك احد في اهمية الفكر المحدد والايديولوجيا السياسية كعامل جوهري وحاسم لا بد من وجوده في أية حركة قومية او وطنية تدعي لنفسها الوجود والجماهير والاهداف. فالايديولوجيا هي التي تحدد هوية الحركة وبواسطتها يمكن التعرف عليها وتشخيص موقعها النضالي من حركة التحرر الوطني والانساني.
ان اهداف الحركة وغاياتها المرحلية والستراتيجية والسبل والوسائل المتبعة لتحقيق تلك الاهداف والغايات وتحديد الاصدقاء والاعداء وخصوصية التحرك او تبعيته. امور مهمة لا يمكن تحديدها الا باتباع منهج ايديولوجي محدد وواضح المعالم. هذه هي ايديولوجيا اذن، هذه هي اهميتها وضرورتها كمطلب اساس لكل حركة تحرر قومي. ولكن هل كانت هنالك ايدولوجية واضحة للحركة القومية الكردية التي قامت في العراق منذ مطلع هذا القرن وحتى يومنا هذا؟ هل كانت هنالك فكرة سياسية واضحة آمنت بها الحركة وجعلتها دستوراً لتحركها تلتزم به وتسير على نهجه؟ ام ان ايديولوجيتها كانت ضعيفة ومستعدة دائماً لان تخضع لايديولوجيات اخرى؟
ولا ندري هنا، هل كان القصور من قبل المفكرين الكرد الذين هم كثرة؟ ام كان القصور والخلل نابعاً من الحركة ذاتها؟ أي ان الحركة الكردية كانت اساساً وليداً مشوهاً شهد النور بعملية قيصرية ولم تولد ولادة طبيعية.
اننا نعتقد ان كلا العاملين كان لهما دور متساو ومتكاتف في عملية التشويه الايديولوجي والفكري للحركة القومية الكردية في العراق. فالمفكرون بالرغم من كثرتهم بين صفوف الشعب الكردي لم يأخذوا دورهم الطبيعي والطليعي في حركة الشعب الكردي السياسية طوال سني القرن العشرين، وهذا لا يأتي طبعاً عن تقصير متعمد او خمول فكري منهم، بل ان المذنب الحقيقي في هذه المسألة هم القادة الميدانيون للحركات الكردية الذين كانت تجتمع فيهم كلهم خصلة الكراهية والبغضاء لأي عنصر مثقف او صاحب فكر نظيف. كما ان القادة انفسهم او المسؤولين الميدانيين للحركة الكردية يتحملون وزر الاحباط في العامل الثاني ايضاً. فكلما كانت المعاناة والنضال الجماهيري للشعب الكردي تتفاعل وتقترب من المخاض التاريخي لولادة طبيعية لايديولوجية نابعة من قلب تلك المعاناة وجوهر ذلك كان اولئك القادة يسرعون الخطى ليسرقوا حصيلة نضال الجماهير الكردية قبل نضوجها ومن ثم يقومون بتزييفها وازاحتها عن ميدان تحقيق اهدافها الحقيقية التي كانت حتماً تتطابق مع اهداف مجمل ابناء الشعب العراقي والامة العربية.
ان الحركة الكردية في العراق قد التهمت اكثر من قرن من سنوات سيرتها دون ان تحدد لشعبها ماذا تريد له ولنفسها وللبلاد باسرها.
لقد كان التناقض الفكري واضحاً لا يحتاج الى بحث ونقاش بين الاهداف المعلنة على لسان قادة الحركة وبين التصرفات العملية التي كانت تؤدي الى اهداف اخرى بعيدة عن الاهداف المعلنة. وهذا يعني بشكل او بآخر ان تناقضاً فكرياً كان يخيم على الهيكل السياسي العام للحركة، فالاختلاف في تحديد الاهداف كان سمة الحركة الكردية دائماً فحتى قادة الحزب عجزوا عن الاتفاق على تلك الاهداف.
ففي الوقت الذي كان المكتب السياسي يطالبون بشيء كان البرازني يطالب بشيء آخر، في حين ان ممثلي الحزب في الخارج كانت لديهم مطاليب اخرى وهكذا… كما ان الفراغ الايديولوجي برز ايضا في اسلوب تصعيد المطاليب الكردية في كل فرصة مناسبة لفعل ذلك وطرح مطاليب تتنافى ومصلحة العراق ككل.
الخلاصة
    يعيش عدد كبير من الاكراد خارج الشرق الاوسط في اوروبا الغربية والولايات المتحدة، يتعاطفون مع قضايا شعبهم وينشطون لنصرته، لكن الاطلالة على قصة الاكراد في الشرق الاوسط ومن خلال سيرورة تاريخ القرن العشرين، تبين لنا ان هناك توقاً كردياً عارماً لدولة كردستان، كما ان امامهم طوقاً من الدول التي قد تختلف في سياسات كثيرة في ما بينها وتتفق على  التضييق عليهم، تارة بحجة الوحدة الوطنية وتارة بحجة محاربة الانفصال او بحجج اخرى مختلفة .                                                                                   
ربما القوى الكردية في العراق تغري الاكراد في مناطق اخرى بعودة احياء الحلم القديم، غير ان المفارقة التي قد تبرز هنا هي ان على خطوات القيادات الكردية في العراق سترسم السياسات المتعلقة بهم، فهي اما فرصة تسنح وتؤخذ واما متاعب جديدة ليس للاكراد فقط بل لهذه المنطقة المنكوبة بالازمات والمفتوحة عليها لاجل غير مسمى.
على من تقع مسؤولية ايجاد حل لمحنة الاكراد؟
بداهة تقع المسؤولية اولاً على الاكراد انفسهم وعلى احزابهم وزعمائهم وكوادرهم، وقدرتهم ليس فقط على تجاوز صراعاتهم المزمنة والمدمرة وانما ايضاً على ايداع الحلول الوسط الكفيلة بالمواءمة بين تحقيق حد معقول من امانيهم القومية وبين الحفاظ على مصالح الدول التي يعيشون فيها. غير ان ذلك على الاطلاق مسؤولية القوى الدولية والمجتمع الدولي لحل المشكلة الكردية.
وهنا تبرز الادوار المنتظرة من الولايات المتحدة او من الجماعة الاوروبية ككل او بعض دولها منفردة- بريطانيا، فرنسا، المانيا، ايطاليا- غير ان التاريخ المرير للتدخل المصلحي والانتهازي لتلك القوى في القضية الكردية يضع تحفظاتعديدة على ما يمكن ان تقوم به لوضع حد لآلام الشعب الكردي.
ومن الواجب هنا ان نذكر بحقيقة لا يمكن اغفالها، وهي ان القضية الكردية هي قضية اسلامية، أي قضية تخص بالدرجة الاولى العالم الاسلامي، وتقع في قلبه. فالغالبية الساحقة من الاكراد مسلمون ووجودهم اساساً هو في بلاد اسلامية، وكردستان تقع كلها في بلاد اسلامية، ومع ذلك يلفت النظر ان الجهد الاسلامي الدولي لحل القضية الكردية جهد متواضع للغاية في حين ان الضحايا من الاكراد المسلمين في معاركهم مع الآخرين، وفي الاقتتال فيما بينهم يفوق بكثير ضحايا المسلمين في اماكن اخرى كثيرة.
وهنا يثار سؤال مشروع: الا يجدر بالدول الاسلامية ومؤتمراتها ومنظماتها المختلفة ان تمسك بزمام المبادرة لحل القضية الكردية؟ وألم يحن الآوان لأن نقلل من لوم الآخرين الذين يسعون لتحقيق مصالحهم على حساب شعوبنا الاسلامية، ثم مناشدتهم ايضاً لان يحلوا مشاكلنا حلولاً عادلة؟ وهل يسهل علينا ان نتنادى للوقوف مع الشعوب الاسلامية اذا تعرضت للعدوان من الآخرين اننا نقبل ببساطة المظالم والمجازر التي يرتكبها مسلمون ضد بعضهم  ؟ تلك اسئلة مشروعة ولكن محنة الاكراد تدعونا الآن لطرحها ولطلب الاجابة عنها.
اجمالاً، ان العنصر الكردي في الشرق الاوسط لا يمكن تجاهله على خريطة المنطقة ولكنه في الوقت ذاته عنصر موزع ومقسم جغرافياً ومتصارع سياسياً ومتنازع قبلياً اذ ينضوي تحت اكثر من دولة فاختلفت طبائعه وخصائصه الى حد يتعذر معها الاتفاق. ولكن يبقى الاتفاق على ان هناك شعباً كردياً يختلف قومياً عن الشعوب الرئيسية الثلاث – العرب الاتراك ، الفرس- وان كان يتوحد معها في اطار الاسلام. وفي كل الاحوال يبقى الاجماع قائماً على ان المسألة الكردية باتت تمثل واحدة من اخطر ازمات الشرق الاوسط ومتوقع لها ان تستمر لوقت طويل في المستقبل.
[email protected]