يجيء كتاب: ” أبو حيان التوحيدي إنساناً وأديباً”، لمؤلفه الكاتب العراقي محمد رجب السامرائي، الصادر عن دار الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية في دمشق، بصفحاته ألـ” 208″ من القطع المتوسط، ليلقي الأضواء عبر مقدمته وفصوله الثلاثة والخاتمة، على بيان جوانب من سيرة التوحيدي أبرز أعلام النثر العربي بعد الأديب الكبير الجاحظ” ت 255هـ”، ولأدبه في ميدان النثر، ثم اختيار جانب من أدب أبي حيان في ميدان التراث الشعبي في كتابه المعروف: ” الإمتاع والمؤانسة”.
أشار محمد السامرائي في مقدمته إلى توسع النثر الفني في العصر العباسي في العراق إلى حدّ كبير في موضوعاته، حتى أنّه أخذ يزاحم الشعر في إبراز أغراضه في المح والغزل والهجاء والرثاء والشكوى، كما صوّر النثر الحياة عامة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو عقلية؛ من خلال الرسائل المختلفة الأدبية والإخوانية والرسمية ” الديوانية”، وآداب السمر والحكايات التي تمثل ضرباً من الاتجاه الشعبي في هذه الجوانب من النثر العباسي. ثم بين المؤلف لتميز القرن الرابع الهجري، بما كوّنه من نضج واضح في تاريخ الثقافة العربية بعد أن تفاعلت تلك الثقافة ولعدة قرون مع ثقافات الأمم المجاورة وتمازجت معها، إلى أن تكونت من خلال التفاعل الفكري والثقافي هذا، ثقافة عربية- إسلامية استوعبت تلكم الثقافات واحتوتها، وأضافت إليها أشراقات علمائنا ومفكرينا مما طبعها بطابع الهوية العربية، ويتضح ذلك النضج المعرفي والثقافي جلياً في ازدهار حلقات العلم ومجالس الأدب التي ازدانت بها قصور الخلفاء والحكام، سواء أكانت في بغداد السلام عاصمة الخلافة العربية أيام العباسيين، أم في عواصم الأقاليم التي استقلت عملياً عن الخلافة العباسية فبرزت في بغداد حلقة الوزير المهلبي، وحلقة الوزير ابن سعدان، وظهرت في حلب حلقة سيف الدولة الحمداني، وعرفت في مدن الري وشيراز وأصفهان حلقات الوزير ابن العميد، وعضد الدولة البويهي، والصاحب بن عباد، وضمت هذه الحلقات مجتمعة طائفة من أبرز شعراء وأدباء وكتاب ومفكري العصر.
كذلك أوضح في مقدمة الكتاب إلى أنّ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري قد عُدَّ عصراً مغبشاً بالظلام، إبّان تسلط البويهيين الفرس على حكم العراق للفترة ” 334-447 هـ وعلى الرغم من الظروف القاسية التي ألمت ببعض الشعراء والأدباء وقتذاك فإنّهم فئة من أبناء المجتمع، قد أصبحوا بما دونوا لنا من مصنفات، فكانوا شاهد إثبات على أولئك الحكام واستبدادهم في التصرف بشؤون البلاد والعباد، ويبرز خلال تلك الفترة الحرجة علي بن محمد بن العباس أبو حيان التوحيدي(312- 414هـ ) أحد أبرز كُتّاب النثر العربي، وصاحب المؤلفات الوافرة، التي لاقت عناية المؤلفين في تحقيقها ونشرها في مختلف ألوان الثقافة والمعارف. ونرى المجتمع الذي عاش فيه التوحيدي وقد أضفى عليه أدبه الشيء الكثير، لكن المجتمع غضّ الطرف عن مضمونه وفحواه، بمعنى أنه تسلى به ولم يستجب له. وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي عرفناها في سني حياة أبي حيان التوحيدي خلال القرن الرابع الهجري، والذي يُعدُّ من جانب الحياة الأدبية، عصر النضج الثقافي والعلمي، فأبو حيان كان بمثابة مكتبة جامعة لأكثر هذه الثقافات العامة، فهو عالم واسع الآفاق والمعرفة، خبير باللغة والنحو والأدب، والكلام والفلسفة والفقه والتصوف، وربما لم يندّ عنه إلاّ الطب والكيمياء والرياضة، فهو برأي ياقوت الحموي: ” شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وأمام البلغاء،.. فردُ الدنيا لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنه، كثير التحصيل للعلوم في كل حفظه، واسع الدراية والرواية”.
وأضاف السامرائي بأنّ التوحيدي قد جمع في رسائله وكتبه أفانين من المعرفة وزاوج بينها لأنه استقاها كما نعلم من الكتب والرسائل التي قرأها ونسخها بيده، ونجده على العكس من الجاحظ الذي كان يكتري دكاكين الوراقين، وبلا شك فإنّ حِرفة الوراقة والنسخ التي امتهنها زمناً، قد يسّرت عليه الإطلاع على النادر من الكتب والرسائل في شتى المعارف والعلوم. والحق يقال إنّ أبا حيان من الكّتاب الذين لهم الحظوة في هذا المقام لأنه مفخرة من مفاخر هذا العصر و ربما كان أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق أو أنّه الأستاذ لهذه الطريقة دون تكلف.
وختم المؤلف حديثه في المقدمة إلى إشارة أبي حيان التوحيدي في كتابه الشهير: ” الإمتاع والمؤانسة” إلى نقد عصره وبعض الشخصيات والناس ولعلّ الفضل في تأليف” الإمتاع والمؤانسة” يرجع إلى أبي الوفاء المهندس، الذي فعل خيراً بتهديده لأبي حيان، حيث انتقل الكتاب من مجرد صورته الشفاهية التي ألقاها في ليالي السّمر الثقافي إلى صورته الكتابية، ومن هيئة السماع إلى الصور اللفظية ذات الجرس اللفظي الذي يعجب السامعين.
الفصل الأول: أبو حيان التوحيدي الإنسان
جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان: ” أبو حيان التوحيدي الإنسان”، حيث مهد فيه السامرائي بوقفة لثلاث حالات أفرزتها سنوات القرن الرابع الهجري على الخطاب الأدبي خاصة ” النثر الفني” في الأدب العباسي بفنونه وأعلامه الجُدد. فقدم للحالة السياسية لمنتصف القرن الرابع الهجري بكونها تختلف عمّا قبله. فإذا كان عصر الجاحظ- القرن الثاني الهجري- عصر استقرار وازدهار، ثبتت فيه قواعد الدولة العباسية في العراق وفي عاصمتي الخلافة في بغداد وسرّ من رأى” سامراء الحالية”، فإنّ عصر التوحيدي ملأته الفوضى والاضطرابات السياسية، فلقرن الذي أولده ، وشبّ فيه، وأكتهل، وشابَ، فقد فسدت عصبية العباسيين، ولم تبقَ كلمة مسموعة ولا رأي جامع ولا قوة ولا سلطان نافذان، أو حتى كيان يُرتجى معه بقاء هيبة الدولة والسلطان، إذ تغلل الأعاجم في جسد الدولة العربية الإسلامية، وتسلطت على مقادير الأمور ودفة الحكم.
ثم أوضح المؤلف إلى دخول البويهيين بغداد عاصمة الخلافة” 334-447هـ”، حتى قبضوا على الخليفة المستكفي بالله العباسي” ت 334هـ”، والخليفة المعتضد الذي أودع السجن حتى توفي في عام 338هـ. حيث عاث حُكام البويهيين في العراق فساداً وخراباً، طيلة ” 113″ عاماً، لذا نجد التوحيدي قد صوّر في كتاباته كل ذلك الأذى حيث شاءوا- البويهيون- أن يمحوا الوجود العربي، فكانوا على حدّ قوله في رسائله:” أعجوبة الأعاجيب في اقتسام المُلك وانتشار الفوضى، وذيوع الفتنة والاضطراب والعبث بسلطان الخلفاء، والتحكم في مصايرهم على ما يحلو للُمهيمن المُتسلط من الولاة والحُكام”. وأشار أبو حيان للعامة في كتابه” الإمتاع والمؤانسة” وروايته لحكايات الشطّار والعيّارين، وما فعلوه من اضطرابات في البلاد من حركات تمرد على السلطة علاوة على النقد الذي وجهّه التوحيدي في أمثاله ونوادره التاريخية والسياسية.
أما الحالة الاجتماعية والاقتصادية، فألمح فيها المؤلف إلى الحال الذي بلغ الناس من الشدة والضيق وقلّة ذات اليد إلى ارتفاع الأسعار في سنة 331هـ، حتى قيل: ” أنّ الناس أكلت الكلاب، وصار الجراد زاد الناس فبيع كل خمسين رطلاً بدرهم على حدّ قول ابن الأثير. وأصبحت الحالة الاجتماعية في أواخر القرن الثالث الهجري شبيهة بالحالة السياسية، إذ أعقب فقدان الاستقرار السياسي فساداً في الوضعين الاجتماعي والاقتصادي وتباعد في الطبقات الشعبية وسوء توزيع للثروة العامة. وأورد التوحيدي أمثلة عن حالة البؤس التي أنحدر إليها مفكرو وأدباء عصره. لأنّ الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي هوت بالعامة من الناس قد جرَّت معها صوب القاع الفكر، وبالأخص ما يتصل منه بجانب الأدب والفن نحو مجالس الحُكام والأمراء. وكانت الحياة الاقتصادية الشّاقة عاملاً مُساعداً على زيادة الاتجاه نحو التكسّب بالشعر، لأنّ هذه الحياة أنتابها كثير من الخلل والفساد بسبب سوء سياسة الحُكام. ووجد كل ذلك الفساد والاستبداد بمقدرات الشعب أيام حكم البويهيين للعراق صدّاه في الأدب، عندما عمد ذوو الجاه والسلطان إلى الاعتداء على أموال الرعية، بل مصادرتها؛ سدّاً لبذخهم والأنفاق على ملذاتهم، مما دعا الناس- دفعاً للشّر عن أنفسهم- إلى الظهور بمظهر الفاقة، فنراهم قد مدحوا الفقر، وانتقصوا من الغنى، وسرت فيهم روح الكآبة، وذم الزّمان وأهله، والشكوى من الظلم.
ثم أشار السامرائي عن الحالة الفكرية والثقافية إلى نشاطها حينما أصبح في القرن الرابع الهجري إعطاء الأدباء عن سعة إلاّ ما فعل عن الصاحب بن عبّاد فإنّه كان أقل من سبعة عطاء، فلم يرد على مئة درهم وثوب إلى خمسمائة، وما يبلغ إلى الألف نادر، وما يوفى على الألف جديح. وقد تبلور النضج المعرفي والثقافي في ازدهار حلقات العلم ومجالس الأدب التي ازدانت بها قصور الحُكام، سواء كانت في عاصمة الخلافة بغداد، أم في عواصم الأقاليم التي استقلت عملياً عن الخلافة العباسية، فبرزت في بغداد حلقة الوزير المهلبي، وحلقة الوزير ابن سعدان، وظهرت حلقة سيف الدولة الحمداني في حلب، وعُرفت في الري وشيراز وأصفهان حلقات الوزير ابن العميد وعضد الدولة البويهي، والصاحب عبّاد. وضمت كل تلك المجالس والحلقات الأدبية طائفة من أبرز الشعراء والأدباء والكُتّاب ومفكري العصر.
ثم تطرق السامرائي في هذا الموضوع إلى توسع النثر الفني في العصر العباسي إلى حد كبير من خلال موضوعاته العديدة . وكيف أخذ يزاحم الشعر في إبراز أغراضه مدحا وغزلاً ووصفاً ورثاء وشكوى، كما صور النثر الحياة عامة سواء كانت سياسية أم ثقافية أم عقلية؛ من خلا ل الرسائل بأنواع الأدبية والأخوانية والرسمية” الديوانية ” وأدب السمر والحكايات التي تمثل ضرباً من الاتجاه الشعبي في هذه الجوانب من النثر. ونلاحظ ميل الكتاب في عصر ازدهارها وتطوره إلى اقتناص الصور البلاغية والأخيلة المبتدعة والمعاني المبتكرة والعناية بالألفاظ الأدبية من حيث فصاحتها وأداؤها، كما نراهم قد أجادوا تضمين الأنواع النثرية مما يتناسب ومعانيها وغاياتها من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وأطايب الشعر والمثال فضلاً عن اعتماد الاتجاهات الأسلوبية المختلفة ترسلا وازدواجاً وسجعاً، وهذا ما عابه التوحيدي على الوزير ابن العميد وكان عبد الله بن المقفع صاحب الترسل الطبيعي، أما الترسل الصناعي فأبدعه عبد الحميد الكاتب. ثم ما لبثت الأساليب في النثر العباسي أن مالت إلى التنويع والتفريغ والتحلل والتغلب على يد الأديب الكبير الجاحظ.
بعد ذلك عرّج مؤلف الكتاب للوقوف عند محطات للأديب التوحيدي الذي يُعدّ من أبرز كُتّاب النثر العربي القديم الذين نالوا الحظوة والمكانة عند المؤرخين والباحثين القدامى والمُحدثين، مما أهلّه ليحتل منزلة الموسوعي الشامل التي تبرزها مصنفاته الوافرة وامتهانه لحرفة الوراقة في بغداد، ومعرفته بالتصحيف والتحريف، وخطه الجميل. وأشار المؤلف إلى صلة أبي حيان بالوزير أبي الفضل بن العميد” ت 360هـ”، وما جرى له من ظلم على يديه، علاوة على ذكر جوانب من الوراقة والنسخ التي أمتهنها التوحيدي حرفة له، وإقدامه على إحراق كتبها التي وجدها عالة عليه، وتناول رسائله وأفانين كتبه التي تركها، وبيان ألوان من أسلوبه الفني في الكتابة الساخرة الناقمة على الوضع الذي عاشه وللخبر عنده، وللنص الشفاهي، والحوار الذي تبناه في تأليف كتابه” الإمتاع والمؤانسة”، والإسناد، والمناظرة، والمناجاة التي عرضها لنا في كتابه” الإشارات الإلهية”، وكذلك الحديث عن الإيقاع بين الجاحظ والتوحيدي، والاستطراد، واللغة، والغربة التي لازمته وتركت أثرها في نثره المدوّن.
الفصل الثاني: أبو حيان التوحيدي الأديب
تحدث مؤلف الكتاب في الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان: ” أبو حيان التوحيدي الأديب”، بأنّ التوحيدي رغم كل التأويلات في كتاباته، فإنّه الأقرب إلى الحقيقة، إنّه مفكر عاش يبحث عن السعادة التي حُرِمَ منها طوال حياته، وكان يأمل في تحقيقها، فكتب عن تلك المراحل الأليمة التي مرّ بها، فقد ظهر في الفترة من سنة 347- 400هـ، أديباً فقيراً، من روّاد القصور، ولكنّه رغم كل ذلك فإنّ كتابه” الإمتاع والمؤانسة”، هو من الكتب المهمة ضمن أسفار التوحيدي، وهنا سرد السامرائي تفاصيل عن الكتاب، ومضامينه الفلسفية والموسوعية، واتصاله بالوزير أبو عبدالله العارض المعروف بابن سعدان” ت 375هـ”، وزير صمصام الدولة البويهي، الذي حكم بغداد من 373-375هـ، واختبار المرارة التي ذاقها في مجلسي ابن العميد والصاحب بن عبّاد، مع الإشارة إلى أبي الوفاء المهندس الذي طلب من التوحيدي أن يجمع مسامراته مع الوزير، وأن يجمعها في رسالة، وألمح المؤلف بأنه من خلال قراءته لليالي الإمتاع والمؤانسة الأربعين وجدها ناقصة لليلتين، في التحقيق اليتيم الذي نشره أحمد أمين وأحمد الزين، الذي قال أمين في مقدمة التحقيق: ” لا أعلم لهما في مكاتب العالم ثالثة”، وقد ردّ السامرائي على هذا الرأي بالرجوع إلى القسم الأول من النسخة الخزائنية ضمن مقتنيات دار المخطوطات العراقية في بغداد ذات رقم” 10048″، وهي أقدم من النسخة المحققة بعام واحد وفيها فهارس ومكتوبة بخط النسخ الجميل، ويوجد القسم الثاني منها في أسطنبول.
وتميز القرن الرابع الهجري، بما كوّنه من نضج واضح في تاريخ الثقافة العربية بعد أن تفاعلت تلك الثقافة ولعدة قرون مع ثقافات الأمم المجاورة وتمازجت معها، إلى أن تكونت من خلال التفاعل الفكري والثقافي هذا، ثقافة عربية- إسلامية استوعبت تلكم الثقافات واحتوتها، وأضافت إليها إشراقات علمائنا ومفكرينا مما طبعها بطابع الهوية العربية، ويتضح ذلك النضج المعرفي والثقافي جلياً في ازدهار حلقات العلم ومجالس الأدب التي ازدانت بها قصور الخلفاء والحكام، سواء أكانت في بغداد السلام عاصمة الخلافة العربية أيام العباسيين، أم في عواصم الأقاليم التي استقلت عملياً عن الخلافة العباسية فبرزت في بغداد حلقة الوزير المهلبي، وحلقة الوزير ابن سعدان، وظهرت في حلب حلقة سيف الدولة الحمداني، وعرفت في مدن الري وشيراز وأصفهان حلقات الوزير ابن العميد، وعضد الدولة البويهي، والصاحب بن عباد، وضمت هذه الحلقات مجتمعة طائفة من أبرز شعراء وأدباء وكتاب ومفكري العصر.
وإذ عدّ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري عصراً مغبشاً بالظلام، إبّان تسلط البويهيين الفرس على حكم العراق للفترة ” 334-447 هـ “. حيث عاش الناس على اختلاف طبقاتهم في ظل حكم جائر لاقى فيه الناس مرّ الهوان، فعلى الرغم من الظروف القاسية التي ألمت ببعض الشعراء والأدباء وقتذاك فإنّهم فئة من أبناء المجتمع، قد أصبحوا بما دون لنا من مصنفات، شاهد إثبات على أولئك الحكام واستبدادهم في التصرف بشؤون الناس ويبرز خلال تلك الفترة الحرجة علي بن محمد بن العباس أبو حيان التوحيدي(312- 414هـ ) أحد أبرز كُتّاب النثر العربي، وصاحب المؤلفات الوافرة، التي لاقت عناية المؤلفين في تحقيقها ونشرها في مختلف ألوان الثقافة والمعارف. ونرى المجتمع الذي عاش فيه التوحيدي وقد أضفى عليه أدبه الشيء الكثير، لكن المجتمع غض الطرف عن مضمونه وفحواه، بمعنى أنه تسلى به ولم يستجب له.
أعظم كُتّاب النثر العربي
وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي عرفناها في سني حياة أبي حيان التوحيدي خلال القرن الرابع الهجري، والذي يُعدُّ من جانب الحياة الأدبية، عصر النضج الثقافي والعلمي، فأبو حيان كان بمثابة مكتبة جامعة لأكثر هذه الثقافات العامة، فهو عالم واسع الآفاق والمعرفة، خبير باللغة والنحو والأدب، والكلام والفلسفة والفقه والتصوف، وربما لم يندّ عنه إلاّ الطب والكيمياء والرياضة، فهو برأي ياقوت الحموي: ” شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وأمام البلغاء،.. فردُ الدنيا لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنه، كثير التحصيل للعلوم في كل حفظه، واسع الدراية والرواية”.
فإذا عدّه الحموي شيخ الصوفية، فإنّ السبكي جعله من فقهاء الشافعية ومن المؤرخين الكبار اللامعين، وأعجب به من المحدثين وبفكره وأسلوبه” آدم متـــز” الذي قال بحقه: ” أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق ” في حين جعله زكي مبارك على رأس كُتّاب الآراء والمذاهب في القرن الرابع الهجري .
فقد جمع التوحيدي في رسائله وكتبه أفانين من المعرفة وزاوج بينها لأنه استقاها كما نعلم من الكتب والرسائل التي قرأها ونسخها بيده، ونجده على العكس من الجاحظ الذي كان يكتري دكاكين الوراقين، وبلا شك فإنّ حِرفة الوراقة والنسخ التي امتهنها زمناً، قد يسّرت عليه الإطلاع على النادر من الكتب والرسائل في شتى المعارف والعلوم. والحق يقال إنّ أبا حيان من الكّتاب الذين لهم الحظوة في هذا المقام لأنه مفخرة من مفاخر هذا العصر و ربما كان أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق أو أنّه الأستاذ لهذه الطريقة دون تكلف.
وإذا نظرنا إلى أكثر أفكار أبي حيان التي ساقها في مؤلفاته، فنراه قد انتقى العبارات والألفاظ ذات الوَقْع الجميل للتعبير عنها، وأعطى لكم الألفاظ: ” أقصى ما تخمر في ذهنه، وأرق ما تفاعل مع فكره، فكان الحائك الماهر لسُدى المواقف الإبداعية في زمانه ولُحْمة الأفكار الفلسفية التي تداولها المفكرين واقتنعوا بها “. 1
لكن رغم التأويلات في كتاباته، فإنّ التأويل الأقرب للحقيقة، أنه مفكر عاش يبحث عن السعادة التي حُرِمَ منها طوال حياته، ويأمل في تحقيقها، مثله مثل أي إنسان، ولكن رغم ذلك فإنّه لم يحصد إلاّ الخيبة والمرارة. فكتب عن تجربته المؤلمة، تلك التجربة التي مرّت بمراحل عدة اختلف في كل منها تصوره لضالته المنشودة. وقد جمع كتبه للناس من أجل: ” طلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ الجاه عنهم، فحرمت ذلك كله”. 2
الأديب المعـــوّز
وقد ظهر أبو حيان التوحيدي في الفترة من سنة” 347 –400 هـ”، أديباً فقيراً، من رواد القصور مريضاً بجملة من الأمراض النفسية أبرزها شعوره بالخيبة، وأن انتقاله من حياة أوساط الأرستقراطيين إلى التصوف دللّ لنا بأنه الأديب الذي وصل إلى مرحلة اليأس والشؤم، حتى أقدم على حرق كتبه، إعلاناً ونتيجة على تمرده على الحياة التي يعيشها. وانتهى التوحيدي بعد تلك الرحلة العلمية الشاقة إلى الموت فقيراً بائساً في إحدى زوايا شيراز، اعتقادا منه بقلة جدواها: ” وضناً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته” 3 . ولا يبالي أبو حيان في إظهار وضعه هذا، بل هو يعترف بجرأة بذلك في كتابه : ” الإشارات الإلهية” ونحسّ بكتاباته قدرته على استبطان الذات واستقصاء جوانب النفس، وأنّ مناجاته ذات غور عميق، وضعها في سجعات غير مستقرة وجادة…” . 4
الإمتاع والمؤانســــة
أما كتاب ” الإمتاع والمؤانسة” فهو من الكتب المهمة ضمن أسفار أبي حيان التوحيدي التي خلفها، إذ تضمن مسائل عديدة ضمتها لياليه الأربعين وعرض لمسائل الفلسفة والدين والمنطق، واللغة والنحو، والحكم والأمثال، والعادات والتقاليد الاجتماعية وضم الكتاب جانبين هما: الجانب الفلسفي والجانب الثقافي أي الموسوعية في المادة الشفاهية، حيث تشكلت فيه المادة الشعبية، كماً وكيفاً الجزء الأوسع باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من بنية الكتاب، والتي دونها فيما بعد. 5
أشار التوحيدي في ” الإمتاع والمؤانسة” إلى نقد عصره وبعض الشخصيات والناس، ونراه لم يكن مجرد مصوّر لعصره ذاك، بل شاهد عليه ناقد ناقم رافض ومرفوض معاً، ومن أثاره في البيئة والعصر أنه كثيراً ما ألمح توخياً لغرض مقصود وهدف يرمي إليه، فنراه حين يتكلم عن الماضي فإنه يقصد الحاضر وإن قرأنا سرده للحوادث وذكر الأشخاص، فإنّما يؤرخ بعلمه وذاكرته الحافظة الواعية لحقبة ما يعيش أحداثها. فقد حكى لوزيره في الليلة السابعة عشرة قائلاً:” فحكيت أنه لما تقلد كسرى أو نشروان مملكته عكف على الصبوح والغبوق.. وأبلغه بنشر الدعاء له في الجوامع مع طول البقاء ودوام العلاء وكبت الأعداء ونصر الأولياء… “. فاتصاله بالوزير أبي عبد الله العارض المعروف بابن سعدان” ت 375هـ “، وزير صمصام الدولة البويهي، الذي حكم بغداد من سنــة” 373 ـ 375هـ “، واختبار المرارة في مجلس ابن العميد والصاحب بن عباد، قد علمه أن يكون أكثر حذرا في صحبة الأمراء، لهذا ابتسم الحظ لأبي حيان حيناً، لأن أبي الوفاء البوزجاني ” ت 376هـ”، أحد أئمة علم الهندسة وكان صديقه الذي مهد له الاتصال بالوزير ابن سعدان وسامره بأربعين ليلة شفاها في مجلسه وألقى فيه ليالي ” الإمتاع والمؤانسة”، وأهدى كتابه إلى صديقه أبي الوفاء اعترافاً بفضله وجميل صنيعه.
مسامرات وأحاديث
إنّ الإمتاع والمؤانسة كتاب يجمع مسامرات وأحاديث وضروباً من التفاوض والمحاورات والمثاقفة كما أطلق عليها التوحيدي، والمناظرة دارت في مجلس الوزير ابن سعدان في بغداد، وسردها عليه وأعاد إنتاجها بعد أن كانت مادة شفوية- حدثاً لغوياً منفلتاً- تنحل لحظة فتنعقد وتموت حين تقال. إذن الكتاب استجابة لداعٍ خارجي لاعلاقة له بصاحبه إلاّ من ناحية أنّه كان أهم منتج لتلك المادة الشفوية المندثرة، وشاهداً مرموقاً حضر تلك المجالس وخدم الوزير بتلكم الأحاديث الماتعة المؤنسة. وقد ساد أبو حيان صديقه المهندس:” على البناء على وهم المطابقة والذهول عن مسألة العبارة حين اعتذر له عن الارتجال والقول على البديهة”. 6 فقال له في الليلة الأولى بهذا الخصوص: ” وأنا أفعل عن مطالبتي به من سرد جميع ذلك إلاّ أنّ الخوض فيه على البديهة في هذه الساعة يشقّ ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض- الإلقاء في مجلس الوزير- فإنّ أذنت جمعته كلّه في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل والحلو والمرّ، والطريّ والعاسي، والمحبوب والمكروه”. 7
جمع الليالي
ولرغبة في نفس أبي الوفاء المهندس فإنّه طلب من أبي حيان أن يجمع مسامراته مع الوزير ويجمعها في رسالة، ولم ينسَ التوحيدي التنويه بفضل أبي الوفاء عليه، إذ أشار إلى ذلك في بداية الليلة الرابعة، حين سأله الوزير ابن سعدان قائلا: ” كيف رضاك عن أبي الوفاء؟ قلت: أرضي رضا بأتم شكر وأحمد ثناء، أخذ بيدي، ونظر في معاشي، ونشطني وبشرني، ورعى عهدي، ثم ختم هذا كله بالنعمة الكبرى، وقلدني بها القلادة الحسنى، وشملني بهذه الخدمة، وأذاقني حلاوة هذه المزية، وأوجهني عند نظرائي”.8
ولعلّ الفضل في تأليف” الإمتاع والمؤانسة” يرجع إلى أبي الوفاء المهندس، الذي فعل خيراً بتهديده لأبي حيان، حيث انتقل الكتاب من مجرد صورته الشفاهية التي ألقاها في ليالي السّمر الثقافي كما أشرنا أنفاً إلى صورته الكتابية، ومن هيئة السماع إلى الصور اللفظية ذات الجرس اللفظي الذي يعجب السامعين. وإذا عرفنا أن كتاب الليالي ـ ” الإمتاع والمؤانسة” ثنائي العنوان، فإن هناك مصنفات أخرى للتوحيدي تحمل ذاتية الثنائية مثـل:” الصداقة والصديــق” و ” الهوامل والشوامل” و ” البصائر والذخائر” و” الإشارات الإلهية”، ولهذه العنوانات مدلولها على نفس المؤلف، لتشي بهاجس التوحيدي من العزلة التي عاشها وحيدا فأراد لكتبه ألاّ تبقى وحيدة مثل حاله حتى وفاته.
في اللغــــة
يقصد بالإمتاع في اللغة : من متّع الرجل. ومتّع بمعنى جاد وظرف. وقيل كل ما جاد فقد متع وهو ماتع، والماتع من كل شيء: البالغ في الجودة الغاية في بابه 9 فالمجود للشيء هو الذي يمتع. أما المؤانسة، فهي خلاف الوحشة. والأنسُ والإنسُ الطمأنينة. وفي بعض الكلام: إذا جاء الليل استأنس كلّ وحشي واستوحش كل أنسي” 10
ومن خلال تلك المعاني” للإمتاع والمؤانسة” تدور كل ليلة من ليالي كتاب التوحيدي الأربعين ضمن ذاك الإطار، من أجل جلب المتعة وإبعاد الوحشة من نفوس المتلقين لطائفة من الأسمار التي تروي في هزيع الليل. فكل ليلة ألقاها أبو حيان على مسامع الوزير ابن سعدان في مجلسه هي صور واضحة الدلالات ولها إطارها الزماني والمكاني، ولكل واحدة ألوانها المميزة لنماذجها وشخصياتها، ووقائعها وتفصيلاتها، وبريقها الجلي من خلال شخوص ونماذج المؤلف التي أفردها في كتابه الفلسفي الموسوعي الماتع المؤنس.
أربعون ليلة ناقصة؟
كان ” الإمتاع والمؤانسة” في صيغته الشفاهية قبل التدوين أربعين ليلة، لكن ما ثبت في ليالي الكتاب المُحقق فقد نقص ليلتين هما الليلة الحادية والثانية عشرة. وإنّ تقسيم التوحيدي لليالي كتابه إلى أربعين ليلة، يصور للمتلقين من ناحيته كصانع نصّ ومؤلف، كفايته العلمية، إلى جانب سوء تأتيه في الناحية العلمية، وفقره وحاجته للمال، إلى جانب تعاليه وتعديه على بعض الخاصة، وذوي النفوذ أيامه، وهما صورتان كادت تتجرد منهما مؤلفاته في شطر حياته المتأخر. والإمتاع والمؤانسة هو سبب متاعبه ومخاوفه، ثم اختفائه وهجرته لمدينته بغداد، حيث ابتدأت من هنا نقطة التحول في سلوك التوحيدي العلمي والعملي.11
ووجد محقق الكتاب أحمد أمين أن سهرة التوحيدي في مجلس الوزير صعبة في تحديده للشخصية التاريخية التي يطلق عليها أبو حيان هذه التسمية، حيث لاحظ المحقق أن ليالي الإمتاع والمؤانسة هي أشبه شيء بليالي شهرزاد، لكن مع اختلاف جوهري في خصائص كل منهما. ويشير أحمد أمين في مقدمة الإمتاع والمؤانسة لذلك قائلاً: ” ثم أن أسلوبه في تقسيمه إلى ليال، وذكر ما دار في كل ليلة على سبيل الحديث والحوار، يجعله لذيذاً شيقاً، أو على حد تعبيره هو ـ ممتعاً مؤنساً ـ فهو أشبه شيء بألف ليلة وليلة، ولكنها ليست ليالي للهو والطرب وكيدَّ النساء ولعب الغرام، إنما هي ليال للفلاسفة والمفكرين والأدباء… “. 12 إذا لم يكن ـ حسب هذا الرأي ـ باستطاعة أبي حيان أن يسامر وزيره ابن سعدان في “الإمتاع والمؤانسة”، وهناك من يرى أن شهرزاد لم تجلس فعلاً تقصّ على شهريار الصامت حكاياتها الصاعقة لتمتد إلى ألف ليلة وواحدة، وهي لم تفعل سوى الحكي، أو لم تحتج وهي الراوية مرة إلى أن تسعل، أو تصاب بصداع ليمنعها من الكلام المباح لساعة أو ساعتين طيلة السنوات بلياليها السرمديات؟ 13
الليالي والمجلس
إنّ مفهوم الليالي هذه للكتابين، يشبه تماما مفهوم المجلس، فهو ابتكار تخيلي حاذق من أجل أن يتم فعل السّرد الإبداعي على أتم وجه يملك الفنان أن يحققه. وأنّ مفهوم الليالي تلك أحد الابتكارات المدهشة للفاعلية الإبداعية العربية، بلوره أولاً أبو حيان التوحيدي. فقد ابتكر في أغلب أعماله الأدبية ـ الإمتاع والمؤانسة خاصة ـ عملاً تخيلياً فيه تركيبة جديدة تستند إلى فكرة المجلس ودوره التاريخي في المجتمع العربي والثقافة العربية، وتخرج فكرة هذا المجلس من كونها تعبيراً عن حدث حقيقي تاريخي إلى كونها: ” مكوناً أساسياً في لعبة تخيلية بارعة مزج لنا فيها أبو حيان بين المظهرين ” المجلس والليلة”، وتجده من خلال هذين المظهرين قد بنى إمتاعه ومؤانسته، كإطار زماني ومكاني متخيل لما ينتجه من إبداع تخيلي يضم بين دفتيه الأحداث والشخصيات المتباينة؛ بمعنى أنه عمليا قد خلق للقارئ فيه لعبة مسرحية تبرز على خشبتها عشرات الشخصيات ويسود فيها الصوت الملقن الذي يلقنها ما تنطق به، وتُفصح عنه” 14
فالنصوص التي يزدحم بها كتاب أبي حيان ليست تدويناً لشخصيات ومنطوقات تاريخية معلنة، بل ترد من خلف الستار، أقنعة عديدة، وأصوات كثيرة للمؤلف ذاته، من أجل أن يطرح من خلالها رؤيته الثاقبة لروح عصره ومشكلاته منتصف القرن الرابع الهجري وتسلط البويهيين على حكم العراق في جميع الاتجاهات، حتى لانكاد نسمع صوته يملأ: ” فضاء المسرح بالصراعات الإحتدامية بين التأويلات المختلفة والمتناقضة للوجود الإنساني والأسئلة الكبرى المطروحة على الإنسان، ولا يمكننا أن ننسى طرح التوحيدي لمأساته الشخصية الخاصة، وعن الصراعات والنزعات الداخلية التي تشجه في تعامله مع الطبقة التي انتمى إليها أصلاً، وانتقاله إلى موقع الجليس لمن يملكون المعرفية داخل الثقافة، ثم في تعامله مع تناقضاته التي تتحول إلى سهام يسقط بعضها فوق بعض.. “15
فمثلما اضطرب تقسيم ليالي” الإمتاع والمؤانسة” لأنّها لم تكن متوالية عنه، وليس في بدايات لياليها ما يوضح لنا بتتابع أبي حيان للوزير، فإنّنا عرفنا ذلك في كتاب السمر العربيّ الأول ” ألف ليلة وليلة” 16 فإذا لم تحافظ بدايات الليالي على التتابع فإن ابن سعدان الوزير طالب في نهاية الليلة الأولى” بمُلْحَةِ الوداع”، حيث يكون بعدها انفضاض الحضور والتوحيدي- الراوي- عن مجلس الوزير، فطلب الأخير من محاوره مُلحة قائلاً: ” هات مُلْحَةِ الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث”. 17
المُلَح: تخوم الليالي
ووضع التوحيدي لتخوم ختام ليالي الإمتاع والمؤانسة نكهة خاصة تتمثل بهذه المُلْحَة الوداعية، التي توحي للقارئ بقرب نهاية ليلة السمر الثقافي، ثم بتحديد وقتها، وهو تحديد لم تصل الليلة معه إلى بزوغ نور الإصباح، والامتناع عن الكلام المباح كما فعلت شهرزاد في ألف ليلة وليلة، وإنما كانت تحده حدود أهل السمر من أصحاب المسؤولية في الصباح التالي، وقد تكون هذه الحدود إلى أن يكتهل الليل، وهذا يحتاج إلى بدء زمان وتفريغ قلب في الليلة الثانية. 18 أو” قد يتقطع الليل، ويحتاج في هذا الحديث إلى استئناف زمان، بعد استيفاء جمام” في نهاية الليلة الثالثة 19 وكذلك حسبما يقول الوزير ويطلب من أبي حيان في ختام الليلة السابعة: ” أظن أنه قد نصف الليل قلت: لعله..” 20 وكقول الوزير للتوحيدي في الليلة التالية: “إنّ الليل قد ولّى، والنعاس قد طرق العين عابثاً، والرأي أن نستجم لننشط، ونستريح لنتعب..”. 21 ويختلف ذاك الطلب لينعقد لإنشاد الشعر في الليلة الخامسة عشرة، فيقول الوزير لأبيّ حيان: ” أنشدني شيئاً نختم به المجلس، فقد مرت طرائف. فأنشدته لعمارة بن عقيل في بنت له” . 22
ثم تكون مُلْحَةُ الوداع مع كل الليلة الملقاة في مجلس الوزير مجونية، حسبما طلب الوزير في الليلة الثامنة عشرة من التوحيدي: ” وقال مرة: تعال حتى نجعل ليلتنا هذه مجونية، ونأخذ من الهزل نصيباً وافراً، فإنّ الجد قد كدنا، ونال من قوانا، وملأنا قبضا وكرباً، هات ما عندك قلت..” . 23 وقال الوزير لأبي حيان في خاتم الليلة التاسعة والعشرين: “هات حديثاً يكون مقطعاً للوداع، فإن الليل قد عبس وجهه، وجنح كاهله، وأهدى إلى العين سنة تسرق الذهن وتسي الرأي، فكان من الجواب، 000”.24
كذلك نلحظ على ملحة الوداع في “الإمتاع المؤانسة” أنّها عبارة عن جمل قصيرة في ختام الليلة الحادي الثلاثين. قال الوزير لأبي حيان التوحيدي: “وهات ملحة الوداع. قلت: قيل لصوفي في جامعة المدينة؟ قال: ما تشتهي؟ قال: مائدة روحاء عليها جفنة رحاء، فيها ثريدة صفراء، وقدر حراء بيضاء. قال: أبيت الآن ألا تودع إلا بمثل ما تقدم؟ وانصرفت”.25 لكنّ ملحة الوداع الأخرى تأتي بدعاء الصوفية، عندما سأل الوزير أن يكون مسك ختام الليلة السابعة والثلاثين بقوله: ” اختم مجلسنا بدعاء الصوفية. فقلت: سمعت ابن سمعون يدعو في الجامع في آخر مجلسه ويقول: 000″.26
إذن كان الوزير في الإمتاع والمؤانسة المروض داعية إلى ختم الحديث، بينما تستجيب شهرزاد “الراوية” في ألف ليلة وليلة لمثل هذه الختامة، حتى نلحظ التوحيدي: “باستطاعته المراوغة من خلال المحكي، فيدر لديه الأصوات، ويتحرك لها حرية السرد، بعدما أتاحت له المشافهة هذه النقولات”. 27 ليكون التوحيدي مؤهلاً للانتقال من موضوع شائك يرى فيه علامات على مُحيا الوزير السائل، إلى موضوع يبعث الراحة في نفسه وفي نفوس المتلقين ممن يحضر مجلس الوزير أبن سعدان للاستمتاع والاستمتاع بليالي” الإمتاع والمؤنسة”.
وهكذا كانت ليالي “الإمتاع والمؤنسة” ليالي سمر ومسامرة ومتعة ليلية تشترك فيها كل أسباب اللهو ودواعيه، فالسمر منتدى ليلي ثقافي-فكري، ولم تكن الموضوعات التي تلقى في هذه المجالس على الغالب عملاً فنياً واحداً متكاملاً، وهذا ما نراه في ليالي “الإمتاع والمؤنسة”، حيث يدخل هذا العمل الفني ضمن إطار قصة ذات حوار متتابع، أو رواية مجزأة الحكايات، بل كان مجلس مسامرات التوحيدي للوزير أبن سعدان خليطاً متعدداً من المثاقفات والأخبار والمحاورات والاستطرادات للقضايا الدينية والثقافية العامة0
ومن خلال تلك المعاني” للإمتاع والمؤانسة” تدور كل ليلة من ليالي كتاب التوحيدي الأربعين ضمن ذاك الإطار، من أجل جلب المتعة وإبعاد الوحشة من نفوس المتلقين لطائفة من الأسمار التي تروي في هزيع الليل. فكل ليلة ألقاها أبو حيان على مسامع الوزير ابن سعدان في مجلسه هي صور واضحة الدلالات ولها إطارها الزماني والمكاني، ولكل واحدة ألوانها المميزة لنماذجها وشخصياتها، ووقائعها وتفصيلاتها، وبريقها الجلي من خلال شخوص ونماذج المؤلف التي أفردها في كتابه الفلسفي الموسوعي الماتع المؤنس.