17 نوفمبر، 2024 10:26 م
Search
Close this search box.

محمود عبد الوهاب فتي البصرة الذهبي لا يليق بكَ السرير.. ليس رثاءً

محمود عبد الوهاب فتي البصرة الذهبي لا يليق بكَ السرير.. ليس رثاءً

أنتَ عابر إستثنائي  في الحياة النصية والواقعية معا ، إستطعت َ بقوة  إنسانيتكَ العالية  ورؤيتك  الجمالية  أن تحتل حيزا مؤثرا في الحياة البْصرية  والمشهد الإبداعي العراقي والإنساني عموما ..
محمود بن عبد الوهاب الفتى الذهبي  أبن البصرة البار،  ومن أهم الشهود والفاعلين في ولادة الحركة  الإبداعية  العراقية  والعربية  الحديثة  شعرا ونثرا ..
زاملت السياب والبريكان وكل رواد الشعر العربي الحديث ، وشاركتَ  أساطين النثر العراقي  منذ فترة الخمسينات في  إنتاج ابداع متميز .. أنت  الفتى  المتمرد والطوح معا .
 ذهبت  للحصول على الدكتوراه  من جامعة كامبريدج في بريطانيا، لكنك عدّت بسبب  وفاة أمك . ثم كررت  المحاولة و سافرت إلي مصر لتلتحق بجامعة عين شمس والحصول علي الدكتوراه منها . لكنك  قطعت الدراسه وعدّت  إلي البصرة، وقد كان  محمود  يقول  لنا عن سبب  عدم جديته في الحصول على اللقب العلمي ” الدكتور” إذ  انه لا يستطيع أن يحتمل اسمه  كمبدع مسبوقا بقفص  كعبارة  ” القاص الدكتور محمود عبد الوهاب “.  وهو ما قاله لنا عند حضورنا  مناقشة رسالة الماجستير  للقاص  لؤي حمزة عباس في أحد قاعات كلية الاداب – جامعة البصرة .. في  أواسط تسعينيات القرن المنصرم.
وعلى الرغم من أن محمود عبد الوهاب كان قاصا  لكنه عمل في المسرح  وأخرج مسرحية ” أهل الكهف ” لتوفيق الحكيم عام 1957ومسرحية “عرس الدم ” للوركا ومسرحية ” سوء تفاهم ” لكامو عام 1958. واشترك مع الشاعر كاظم نعمة التميمي عام 1973 في تقديم برنامج ” مسائل ثقافية ” لتلفزيون البصرة. كما مارس ترجمة القصة والرواية عن الانكليزية في الخمسينات فترجم ” قطة في المطر ” و ” المخيم الهندي ” و” العجوز على الجسر ” لهمنغواي، و”” هروب ” و ” سارق الحصان ” لكادويل، و” سارق عربة الشحن ” لمورافيا .
لم يتورط محمود  في لعبة الإنتفاخ في الشهادات العليا والنوم فيها  ..  فرجع الى البصرة  أبنا للنص والحياة .
في عدستي الذهنية  وذاكرتي  صورا وملامحَ  لهذا الرجل  المبدع  الشفاف حد اللعنة والأنيق تماما والمتحضر بجدارة  والمديني بأمتياز..

صورة أولى

في مطلع سبعينيات القرن العشرين ، كنت أحد طلاب الصف الأول المتوسط  ، وكان محمود  مفتشا تربويا إختصاصيا.. زارنا يومذاك  في درس  اللغة العربية ، وبدّد  خوف  مدرسنا  في تقييم مستواه   ..
أسكته بأدب ومضى يتكلم عن المكتبة المدرسية وضرورة تواجدها في المدارس .. مدرسنا كائن نائم  في النحو .. واللفيف المفروق واللفيق المقرون  والمنصوبات والممنوعات من الصرف.. الخ..
ومحمود عبد الوهاب أبن الحياة   والمنقّب الحساس عن المواهب  إختار  موضوع الإنشاء  ليناقشنا  عن دور القراءة في تشكيل الموهبة لكتابة أثر ما ، في  يوما ما.
رجل مستقبلي بأمتياز  وها نحن خرجنا من معطف درسه .

………………
صورة ثانية

 محمود عبد الوهاب  يتحرر من وظيفة المفتش  ليتقاعد برتبة ” مبدع عظيم” .
 إنها الحقيقة المعجونة بالفنطازيا ، محمود عبد الوهاب يحرقه الوقوف في  حضرة  الصمت ، وحياة الهامش .. لذا صار  فاعلا في رصد المدينة والناس.. انه حكواتي بأمتياز ، وظريف  لا يعمل بشروط التقيّة . هو من ظرفاء البصرة الكبار الذي لا ُيشبه الصعاليك في تشردهم ولا الشطارين في  مكائدهم .. انه الظريف الذي يعمل على كوميديا الموقف في الحياة .. لانه يحب الحياة ويريدها أجمل لذا فهو يسخر من الأموات في الحياة  ويقول لبعض الذين اعتزلوا الحياة : لو وضعت شهادة وفاة بجوارهم سيصبحون أمواتا رسميا ..  وعندما سألته : لماذا تعيش معهم  قال:  (أنا المشترك وضعا  والمختلف صقعا)
طرائفة واقعية بأمتياز  تخترق العقل والمنطق  بقدرتها على الضحك من أحرج المواقف ..وأهل الادب   في البصرة يحفظون نوادره العذبة المليئة بالحياة ..

………………….

مشهد ثالث

محمود عبد الوهاب يركب القطار الصاعد الى بغداد .. يرقب  المدينة ويعاين الناس عبر مجسات الكائن الاستثنائي ،  يرش  ” رائحة الشتاء” على قامة  الصاعدين والنازلين ..إنه  خازن الحكمة ، كان يحدثنا نحن تلاميذه  عن المستقبل أكثر من أيّ شيء ،وعندما كبرنا صار صديقنا يستأنس بأرائنا وينصت كتلميذ نجيب الى تعليقاتنا على ما يَكتب .. عندما نشر قصة “عابر إستثنائي” رأيته في العشار وأبديت وجهة نظري المتواضعة عن زمان ومكان القصة  فكان فرحا جدا في مستوى التلقي  ومنفعلا تماما مع قراءتي ، كما كان  حيويّا يجوس كل جديد في النقد ونظريات النقد الحديثة والمعرفة الشاملة  واصدر كتابا  بعنوان ” ثريا النص” وعشرات المقالات في الشأن الابداعي عموما .

……..

لقطة رابعة

محمود  المعلم الفاضل ، المبدع .. طلّق السياسة وأحزابها  بعد خيبة عمله  مع اليسار العراقي  والذي أودى به  للعمل كقاطع تذاكر في أحد سينمات البصرة  في الستينيات.  هكذا هجر محمود باب السياسة مفضلا شباك الحلم ..  إنتصر الرجل للانسان وهمومه وجماله معا .. لم  يساكن الحكام ولم يسعى الى مجالستهم  فحقق  الشرط الإبداعي الجمالي  لنصوصة وجنّب قامته الإنحناء الذليل .. لقد راهن على ما يتبقى فكان له ما أراد.

…..

الواقعة  الخامسة

حين بلغت سن الرشد ، الحروب أكلت جسدي ،  وأورثتني  قلة الأدب ، وفائض الحلم معا .
رأيته في شارع الوطن  قامة  مهيبة … فشاركته كأس الخمرة  في نادي إتحاد البصرة وبعدها بسنين في نادي إتحاد بغداد.. ..

كسرت الخمرة خجلي  فبدأ موسوم البوح .
صار محمود صديقي :

أتلو عليه  الرأي في  قصته .. فيستقيم منصتا ..  وأقرأ  له الشعر وأهديه  شيئا .. فيقرأ  بحب  ويعُلق بدراية  الحكيم الخبير .
أصبحنا أصدقاء  ..  ليس لفضيلة بيّ  /  لكنه كبير جدا  ويمتص الهذيان .

وحين غادرت البصرة  واستوطنت بغداد ، كنت أراه  أبن الحياة  البار نصيا وواقعيا  ..
من مقهى حسن عجمي الى نادي إتحاد الأدباء  هو درس متصل  للأنسان   الذي  يقطف من يد الله أخر ورقة  للنشور.
كنا نستقبل محمود في بغداد  وهو يسخر من  بعض جلاس  مقهى حسن عجمي ،أدباء التزلف والمجاملات  قال لي ضاحكا: عجيب  أمرهم في الصباح يمرون متجهمين ويؤدون التحية برسمية عالية ، وحين أراهم في  نادي الاتحاد  ليلا يتحولون الى كائنات ودودة حد القرف!!

نعم يا محمود هذا دورهم النهاري الرسمي ، وأما الليل والخمرة فهما كفيلان بكشف الازدواج ..

اليوم السادس..

عندما  فاضت روحي  في العراق ونضجت بداخلي فكرة الخروج  ، رجعت الى البصرة لأكمل إجراءات  إستحصال الجواز كوني من أهل البصرة .. واثناء وجودي هناك التقيت  الصديق المعلم محمود عبد الوهاب أكثر من مرّة  كانت آخرها برفقة المبدع الكبير محمد خضير صديق محمود وتوأم روحه  وكان الصديق القاص كريم عباس زامل  معنا ونحن نتمشى  في شارع كورنيش العشار ، ومحمود يعلّق بذات الروح المرحة  عن أعقد الأشياء  وأكثرها  سوداديه  في ذلك الزمن العراقي  ..
 وعند وصولنا الى تمثال الشاعر بدر شاكر السياب ، ألحت عليّ رغبة  في أخذ صورة لنا مع السياب  ، إستأذنت الاصدقاء” محمود ومحمد وكريم ” في  الوقوف لإلتقاط صورة … نظر محمود خلفه ورأى السياب . فسحبني من يدي بود وقال لي : وديع لنصور هناك ،واشار الى اشجار صغيرة وورود في الجانب الآخر من شارع الكورنيش . عرفت بحدسي  ما يريد ..وأنسقنا جميعا الى رغبته .. عرفت أنه لا يريد  الأنعتاق الى الماضي .. الى الموتى .. الى الذكرى حتى ولو كان  السياب 
أنه أبن  الحياة المتدفقة ، الماضية الى مستقبلها ..
 قبل أن أغادر البصرة للسفر الى عمان ألتقيته  لأعطيه نسخته من الصورة الورقية  :أخرج قلمه الحبر الأسود الأنيق  وكتب على ظهر الصورة  أسماءنا .. من اليمين .. محمود عبد الوهاب ، محمد خضير .. وتوقف قائلا :  وديع شامخ أم لديك اسما ثلاثيا ، قلت وديع شامخ فقط
قال : هذا يكفي وضحك .. وكتب ..
لينتهي بكتابة أسم ” كريم عباس زامل .
خط أنيق جدا .. لرجل أنيق الروح والمعرفة والابداع .
…….

اليوم السابع

غادرت البصرة والعراق حيث كانت ” عمان ”  الملاذ  الوحيد أمام العراقي الخارج من ظلمة الحياة هناك ..
بقيت على أتصال بأخبار الكبير محمود ، وحين سافرت الى إستراليا لم تنقطع علاقتي به روحيا أو نصيا .. فقد أصدرت كتابين شعريين ، وصلت  له عن طريق الصديق  المبدع خالد خضير الصالحي .
حتى جاء  في الخبر  أن محمودا  ارتقى السرير .. ورأيت صورته وهو مسجى ..  على صفحة  الفيسبوك لصديقنا  البصري الكاتب محمد عطوان .
لا يمكن أن ارى محمود  بهذه الهيئة ، رغم إيماني بالموت وصاحبه ..
 هل أكمل الله عمله يا محمود  في اليوم السادس ليستريح بك
ينقلك اليه .. ليستمع الى  نوادرك ..؟؟
 ربما هي  روعة الخالق في  مجالسة المبدعين  العاقين من أبنائه ..
ُقبلة أطبعها على يديك الرشيقتين،  على سبورة الصف زمانا وسبورة الروح الآن ..
قبلة أطبعها على خديك الورديين
على شعرك الثلجي كهامة جبل
  الآن يا محمود هو درس أنكيدو من جديد
وخيبة جلجامش..
أيها العراقي  حدّ اللعنة والانسان حدّ اللامعقول ..
أخذت زمنك بعافية  وأناقة .
كنت معطفا  بلا قيود لتلاميذك ، وقلبا بلا أسوار للإصدقاء .
نمّ هنيئا وتمتع بقيلولتك البصرية..
فالشمس  هناك أحلى .. حيث سألتقيك  على الكورنيش بلا أصنام .
سأجيئك لا تتأخر في قيلولتك
السرير لا يليق بك .
 وآخر يوم في  شجرتكَ  ستقطفه من يد الله..

أحدث المقالات