10 أبريل، 2024 3:37 م
Search
Close this search box.

محمود عبد الوهاب غربة الثلج .. وحدة النار

Facebook
Twitter
LinkedIn

مدخل :

ما يعترينا كبشر يتأرجحون بين سطوة القيم العليا وعمليات الكشف عن تثبت الذات ، يحيلنا ونحن نرصد ونترصد حياة عظيم  او داعية ، أن نغلب فطرتنا بالإحساس بالجديد القديم او القديم الجديد .. او لأجمل هذا كله بما يعرف بالعود الأبدي .. فلطالما تراودنا الوساوس بأن ما نكتبه – وان أيقنا بجدته –  قد تناولته أقلام وقراطيس من سبقنا .. اعتقد أنها معادلة غير عادلة ، على الرغم من معرفتنا بشخوص وشخصيات نعرفها جيدا وندرك طبائعها .
إن لعنة العود الأبدي المتصاهرة مع ثورة المعلومات الانفجارية جعلتنا نتحسب من عباراتنا ، ونلتفت إلى الوراء نحو كل خطوة نخطوها باتجاه الآخر .

صورة (أولى ) :
حينما يخترق وجوده زحمة الليل ، كان الرجل الثلجي يجتاز بحيوية ظل مدينته السمراء متحريا الوجوه القديمة ، الأبواب العريضة ، الأزقة والشبابيك الملونة ، الشناشيل بألوانها الحنائية ، وهي تبعث بقايا استغاثاتها من هول الأتربة التي نفضها ثقل الزمن بعدما راحت تتحكم بأطيافها اللونية ..يغمض عينيه وهو يشم رائحة الأرض المنبعثة من مرشاة سيارة البلدية المتباطئة ، وهي ترسل نذيرها المستحي إلى المارة المسرعين ، والطلبة الذين يجتازون الطريق الذي يعانق نهر العشار ..بإيماءته المشفوعة بابتسامته الخجلة يرد على من يسبقه بتحية الصباح ، وهو يمسد شعره الأبيض من بقايا الرذاذ الذي خلفته عجلة البلدية .. يردد ، لا بأس ، فلطالما رشت أزقة هذه المدينة بماء الورد .
في سوق الخضارة كان يبتاع اللحم والخضر من دون أن يتعب عينيه بفحص المبيع وجودته ، او المساومة على سعره ، فجميع الاشياءتعني لديه طيبة البصريين المعروفة .  لكنه سرعان ما يعود واجما وجلا بعد أن يتذكر عتب شقيقته الدائم على رداءة ما يبتاع . كانت تنتظره في أعلى الشقة لتصب تصويباتها وتصحيحاتها على ما يحمله من سوق الخضارة : (هذا ذابل يا محمود ، والخضرة بائتة ، واللحم لا يستوي ، وو..) لكنه يرفع رأسه متذمرا بابتسامة تسبق ضحكته التي سيطلقها حتما في الخفاء ، او عندما يلتقي الموسوي او الحجاج . كان (داء الشقيقة) الجميل يلازم محمود حتى بأحلامه ، فلطالما شخص جسد شقيقته النحيل شامخا مهيبا وهو يكرر لومه : ( ذابل ، بائت ، عفن ، …) تمتم بتلعثم : ( والله لو أجاز الشرع طلاق الأخت ، لطلقتك بالثلاث ) .
كان حبه لشقيقته يفوق كل التصورات ، وقبلها لم أجده متأثرا إلا حين اجبره الراحل يعرب طلال ليتحدث عن تجربته المسرحية وتحديدا عن مسرحية خص بها أخاه الراحل .. كان بودي أن أقف وأسجل بعدستي المتطفلة التماعات دموع محمود عبد الوهاب ، ولا ادري حينها أن حققت بوصلتي الخجولة وعدساتها المشوهة لقطة لدموعه ! .. او أن الأضواء المنعكسة من المدينة قد خدعتني كعادتها  ، لا عجب فانا اعترف بخبطي العشوائي هنا ، كان منتدى المسرح في بيت المقام العراقي الشناشيلي يحتفي بالراحل في طابقه الأعلى .

( صورة ثانية ) :
الطواف الملح بأزقته المكرورة ، المشاهد التي تشخص أمامه لم تمنعه من العيش متمردا حتى على ذاته ، كانت خطاه العجيبة تبعث رسالتها الواضحة من انه لا يمكن أن يعيش من دون أن يؤمن بشيء ، ولو بمحض صدفة .. حتى المعرفة العابرة كانت تعني له الشيء الكثير ، إن رده كان ايجابيا على كل ما سمعه او التقى به ، بل حتى أجوبته لم ترو غلته الطموحة بسبب إفراطه في التجريد .. كانت مرآته التي تعكس المرايا الأخرى تتأرجح بين حلولية روحه وصيرورة الآخرين .. العجب كل العجب ، كيف تتطابق روح هذا الكائن الثلجي مع أرواح الآخرين ؟ حتى إبهام الفكرة التي يتلمس حدودها ويتبع اتقادها .. كان يلحظ تطابق روحه مع الآخر .. لم يعر اهتماما لذانيته  الفردية ، إنما كان مشروعه هو الكل .. الحقيقة التي تتراءى لنا انه كان يبكي بصمت ، ولكنه كان يصطنع ببراعة إخفاء دموعه حتى في أحلك الحالات .. عندما لم يستوعب الراحل يوسف يعقوب حداد موقف الاحتفاء به وأطلق بكاءه بقوة لم يعهدها الأدباء ، تقربت منه متحريا رد فعله فقال : (مسكين ) ، ولم يضف إلى هذه العبارة شيء .  كان على حد كاف من الطيبة الفطرية على الرغم من أن عالمه كان يؤلف لنا مصهرا من التجارب والغربلات الملحة لكل الأشياء حتى صغيرها .. لم يصطف الاستعباد ، كان استعباده الأوتوقراطي الوحيد هو لفردانيته المتمردة ، اعتقد أن تحرره من الأفكار التقليدية والأعراف الجامدة فتح له آفاقا من خوض التأملات ، فكان مثقفا كبيرا إذ تحدث او رصد أي ظاهرة ثقافية ، وزاد حده على محدوده عندما تاهت طقوسه الفكرية المكتوبة ، بل أفصحت عن غربتها أمام رصده المباشر .. كان شعوره عقيما بالإصغاء ولو تصنع ذلك الشعور .. لم يقف خجله أن ينتهي بمرحلة زمنية ، إنما ناف على شخصه وعرف به .. صورته الماثلة الكبيرة عبارة عن طفل خجول ترهقه التفاتات الآخرين ، او حتى من يومئ إليه من المتطفلين ..

(صورة ثالثة) :
الوحدة تناقض جوهري بينه ومحبة الآخرين ، لم يكن صمته المفضوح إلا ثورة لذاته الهائمة بكل الأشياء .. ما أن يصل مقهى الأدباء العتيق حتى تتلاشى أمامه كل ألوان التوتر التي طاردت وحدته ، والتي انصبت على سكونه .. كان ليله الطويل وساعاته الوئيدة المتباطئة تزحف بسلحفاتية تجبره على أن يستحضر شواخص متنوعة تشاطره مائدته المنصوبة دائما ، وأقداحها التي تنوء بوحدتها ، لا باس أن يكون الصدى أنيسا وقسيما لمعاناته ، فلطالما أتحفه بخيارات وأجوبة قسرية عجزت عنها نفسه المتمردة …إن عقدة التثليث (هو / الذكرى / الوحدة ) هي كل ما خاضته عوالمه القائمة والمستورة ، فذاته المستلبة تشاطر زحاماتها ذكراه ، وكلاهما يصبان في انهار وحدته .. أخيرا أصبحت تلك العقدة عقيدة لديه فأمل بل عزم إلى أن يصل الليل بالنهار أملا باكتشاف ما وراء هواجسه الثلاث ، فراح يطرق أبواب عمار المظفر والعايف والموسوي ، الذين لم يقدموا إليه إلا بعض مناجل حصدت شيء من سويعاته الجاثمه أمامه .. كانت مائدته وعقده الثلاث تحتفي به وكأنها تحتفي بزينون الايلي وهو يشاطرها بقايا الكؤوس المترعة .. وهكذا برهن الرجل الثلجي على بوفاريته ، ولكن بطريقة الإباء السمؤلي ، ناسخا بشراسة إشكالية استبدال الخيال بالواقع والواقع بالخيال .. واستطاع بقوة أن يخرق ثلاثية الانغلاق ، إذ استطاع على حين بغتة أن يجعل ظله الزئبقي سارحا محلقا في عالم الآخر ،  ولا بأس أن يخترق عوالمه بدون استئذان .

( صورة أخيرة) :
البرقع الذي ارتداه محمود كان يؤلف صورة واضحة لكل قرائه ، بل حتى حبيبته البولندية التي كانت تحتفي بشيخوخته المبكرة .. لأول مرة يبرهن على أن الانخداع في الشخصية ينطلي على القراء قبل المؤلف الذكي الذي تحكم بأدوات سرده ودلائل شخوصه بطريقة عجيبة وذكية في توزيع الأدوار .. قد يؤول بنا الحال لأن نعرف او نستفهم أي شيء عن غموض حياته على الرغم من صراحته التي تجاوزت حدود المألوف ..وهكذا نكثر من طوافنا المعقود مع تيهنا لنستنبط الجمال من خلال الجميل . لطالما الفت صورة محمود لنا لوحة صوفية مغتربة ، على الرغم من كسره اليومي لأعمدة صومعته ، او أصنامه الماثلة في فضاء أروقته ، فالمتصوف هو خير من يدّخر معاناته وعذاباته ولا يفصح عنها حتى في أشعاره وتجلياته .. فقد اثبت محمود لنا انه  كائن (فوق اجتماعي) يجبرك على أن تؤمن بصدقه وجديته ، انه زاهد حتى مع الآه . لم نجد بثنايا عينيه أي زواية للتوريات ، كان صادقا حتى مع غربته ، لم يكن الفرح أبديا بمملكته ، لكنما حزنه كان يمتطي السرمدية دائما .. لقد شاطر سارتر بقناعته فلم ترهبه سطوة الذات ، نعم فان طهر الذات يعني طهارة حقيقتها . عندما لا يحصل المبدع على حلمه فان الكمد هو حصيلة حظوته .. إن حقيقة الاغتراب التي هيمنت عليه هي اسمي المشاهد التي أفصح عنها وجهه .. كان حلمه اللامحدود واللامتناهي ينصب على فضوله الفكري ، فراح يغيض جيوش وحدته وشخوص تأملاته بالقراءة والطواف في مدنه الممتدة ، فلطالما غلّب الانسلاخ على واقعه معتمدا معادلة المطلق والنسبي .. كانت أفكاره تلح عليه وتزاحمه حتى في ساعاته الأخيرة على أن يستقل قطار الأبدية الصاعد إلى ذاته 

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب