19 ديسمبر، 2024 12:04 ص

محمود البريكان..موت شعري

محمود البريكان..موت شعري

سوف يركن الشاعر من بعد إلى صمت طويل، قريب من (موت شعري) مؤقت، لكن أصدقاءه المقربين يعلمون أن البريكان (يعيش) شعرياً ويكتب، لكنه يزهد بالنشر لأسباب ظلت مجهولة، لعل أكثرها ترديداً هو خوفه المبالغ فيه، أو (رهابه) في الأصح، من الأخطاء الطباعية التي تظهر في القصائد عند النشر.
وكان لي خلال رئاسي لتحرير مجلة (الأقلام) توق شديد لآقتحام عزلته، حتى أقنعته- خلال إحدى زياراتي للبصرة وبمساعدة مهمة وأساسية من الصديق الراحل الشاعر رياض إبراهيم الذي شاركني حماسي للفكرة،، أن يخرج من صمته، ما دام لديه شعر لم ينشر، وهو فيما قرأنا مواكب للحظة الحداثة التي وصلت إليها القصيدة العربية الحديثة، فضلاً عن مراقبة البريكان المدهشة، والمفاجئة بالنسبة لي ، للمشهد الشعري المعاصر بتفاصيله الدقيقة’أي ان عزلته فعلا ذات طابع فناري ’فهو يراقب من معتزله القصي نبض الحياة الحقيقية وتجلياتها المجازية في الشعر.
وهكذا أفلحنا بعد متابعة وجهد بذله بإخلاص وتفانٍ الشاعر الراحل العزيز رياض إبراهيم وبشروط عسيرة من البريكان تتصل بالمراجعة المتأنية والدقيقة للتجارب الطباعية التي أصر أن نقوم بها بأنفسنا: الراحل رياض وأنا، فقدم لنا (ثماني عشرة قصيدة) كتبها بين عامي 1970 و 1992 ، وأعطاها عنوان (عوالم متداخلة) ،ونشرناها في (الأقلام) العدد 3-4/1993 بمقدمة نقدية مني بعنوان (الذكرى تلاعب النسيان) نشرتها في كتابي ( كتابة الذات) عام 1994 .ولا أستطيع حتى اللحظة نسيان لقائي الأخير به في بيته بالصرة ، حيث أعد مائدة صغيرة يتوسطها إبريق شاي وكؤوس بعدد الضيوف (صحبني في لقائي ذاك الشاعر الراحل رياض إبراهيم والشاعر الراحل حسين عبداللطيف) وكان البيت الذي يسكنه وحيداً غارقاً في الظلمة، عدا الغرفة التي جلسنا فيها، بينما كانت تنبعث أصوات الموسيقى من جهاز ضخم يضعه في غرفة نومه..وتكرر في اللقاء خوفه على القصائد وتأكدت لي إنسانيته وتواضعه ورهافة إحساسه,رغم ما لاحظته من تلميحاته إلى انه سبق الرواد في تجربة الشعر الحر, وأن السياب نفسه يعلم بذلك.
وبعد قراءة تحليلية للقصائد التي هيأها بنفسه ،ورتبها بالكيفية التي ظهرت عليها عند النشر ووضع عنوانها أيضا ،فكانت أشعاره تولد أول مرة برعايته دون قابلة أو وسيط.
سنجد أن مرحلة (عوالم متداخلة) كانت شيئاً جديداً في شعر البريكان، حيث دخل السرد كعمود فقري لقصائده، وخفّ احتفاؤه بالوزنية ولوازم الموسيقى الخارجية والتقفية لصالح الأفكار التي تزدحم بها قصيدته، متنازلاً عن الغنائية والمباشرة والفهم العادي للنثرية واستضافة الحس النثري في القصيدة، مندفعاً إلى تأثيث قصائده بالأفكار التي لم تسمح بالاستطالات أو الترهلات فكتب مجموعة قصائد قصيرة بسطرين شعريين أسماها (بلورات) وراح يكثف من خلالها رؤاه ومخاوفه التي كان أشدها وضوحاً وأكثرها ظهوراً : خوفه من الموت، فالإنسان بين المخلوقات الحية هو الوحيد الذي (يموت في داخله .. يموت في غيبوبة الذكرى).

*من كتابه( في غيبوبة الذكرى)