لانعتقد أن البريكان عندما كان يكتب كان مهتما بإيجاد صلة إتصال تلقائية ومباشرة ما بينه وبين المتلقي كون سعيه لايكون أساساً للتفكير في سرعة إسترضاء الطرف الآخر بالقدر الذي كان ينشد التغيير وعدم تكريس الواقع القائم ، فالشاعر البريكان لايفكر ضمن هذا المنحى في فترة زمنية أو يفكر في حيز محدود بعينه أو ضمن مكان معلوم ،وبالرغم من توارد بعض الدالات في القليل من نصوصه التي تشير لذلك لكنه كان يبحث عن الدافع البديل الذي يهئ له الضرورات التي تفتح له أبواب المداخل الجمالية وهذا هو تصورنا الذي يختلف مع البعض من النقاد الذين كتبوا عن تجربة محمود البريكان الشعرية حين حصروا إهتمام كتاباتهم بالأسس والمقاييس البلاغية واللغوية ، وقطعا هو إغفالٌ أو هو عدم المقدرة على الوصول الى القدرات غير المرئية والمتشعبة في كيفية إدراك النص وفهمه ومحاولة إيضاح مراميه وهو السعي الذي مارسه البريكان لعدم الوقوع في البدائل المباشرة والتي تتوفر في سياقات النص إيمانا منه بأن الأشياء في تحول مستمر وأستخدامها يقتضي إدراك هذا التحول وبالتالي الوصول الى النمط الخاص من الموجودات التي تتقبل هذا التحول وتنسجم مع أي ضرورة محتملة تطغي بكيانها داخل وحدات النص الشعري وهو ما يعني أن البريكان لايعطي أهمية للتسلسل الزمني ولايعطي أهمية للرؤية المكانية المحددة وبذلك فأن مجالات العبث في هذين المفهومين يهئ فرص تجاوز الحشد الصوري المسبق ويوسع من دائرة الإفتراق بين مضمون وآخر حيث لايشكل هذا الإفتراق عبئاً على ماهيات الأشياء التي تتنقل ضمن مفهوم الأزلي الثابت والمتسلط المتحرك ليؤمن الإزدواج يؤمن الفرصة والوقت ، الوقت في خلق الصورة الملائمة والفرصة في الإفلات منها أو الثبات عليها بعد تدخل عوامل عارضة تكون تأثيراتها مقدرة أصلا في طبيعة إختيار الشاعر لموجوداته التي تتطلب شكلا خاصا من الغموض تارة وتارة نوعا أخر في طرح معضلة ما كمسوغ لفتح نوافذ مرئية على دفعات محددة من المعرفة والفلسفة والمتوارث الإجتماعي بجميع أشكاله من خلال الموضوعات التي تتصل بالكائن والكون والتي قد خلقت هذه المواضيع شكل من أشكال التأزم والقلق اللذان يتوالدان بفعل ماذكرنا إضافة لما تتركه المتغيرات من أثار أخرى في البنى الروحية والنفسية وكذلك ماتتركه في أساليب التفكير وأدواته ، ويقينا أن البريكان كان يُجيد تحريك العبارات من مستوياتها الدلالية الى سياقاتها الطاردة كي لاتكون هناك ترتيبات ذات إعدادات مرئية لأن الشاعر ينبذ الإمتاع المباشر ويخفيه في محيطه الواسع الخراب ،ولاشك أن ذلك يبدو جليا في نصه (القوة الطاردة ) عندما يكتسى النص بأشياء من المجهولية المجهولية التي تؤمن المزيد من الرغبة والإكتشاف والتوقع غير المحسوب لدى المتلقي :
دوائر سود على بحيرة بيضاء / زوبعة صامتة تبعثر اللون على المسافة الباهتة / كابوس في أعين مفتوحة /إغماء ليست له علامة / / توتر مغروس في صمت الإيقاع /
هنا يراد تحديد أبعاد اللامعقول للوصل للمحور الصرف في تشكيل الذات الأمر الذي يستدعي العودة لنقطة البدء أي الإمساك بأكثر من مشهد للوصول لدالة المفردة في مضمونها وبطبيعة الحال فأن هذه المفردات لاتخلو من رمزيات ما ترتبط بأثر خفي ما والأهم أنه لايتصل بواقعة ما أي أن عملية الخلق ليست عملية إستذكارية ذات رؤيا زمكانية محددة وهذا مانفيناه في مقدمة مقالنا هذا أي يمكن القول أن هناك منفىً ما يحتفظ فيه البريكان بكامل عدته وكذا قواه ويرتب من خلاله الحالات التي يريد قولها شريطة أن لاتفهم بأنها قضايا شخصية عامة ومشتركة لأن الشاعر لايريد ذلك لايريد أن يكون نصه الشعري عبارة عن رُكام لغوي يدور بمركزيته حول الحدث ، فنصوص البريكان تتحرك بها الكوابيس والوحدة والضياع والموت والخرافة والعويل وكأنه يرى أن هذا هو عالمه المجدي والصحيح وتوفر له مضامين تلك الأشياء علاقات جديدة يتمتع من خلالها بأنتاجية ثرة ومترفة ضمن غاياته الجمالية تتجاوز كفاياتها المادية وهو مايوسع مفاصل إستيطان المشهد الشعري ليبدا بترتيبات نوعية لقدرات النفي وترتيبات أقل من ذلك لقدرات الإثبات وبهذه الحركة يفتح باب الإنسيابية للغته التي يكتنف البعض منها شئ من التعقيد وكأنه يصوغ منظومة جديدة من المعتقدات الكونية بفعل التغيير المستمر الذي يطرأ على الدالات تحت تأثير الإهمال المقصود للتسلسلات الزمانية التي تحث على عدم التوقف إزاء مكملات المعضلة كــــ ( الموت ….متى ، المأساة … لماذا .. وكيف ، الضحايا … من .. وكم ) أي إهمال التفاصيل التي تقوض أمام المتلقي حريته في الكشف والإستدلال ، إن فكرة الكائن هي فكرة الديمومة وفكرة الديمومة تعني الإحساس الأمثل لوجود الذات وفي وجهها الآخر تعني أن المفردة لدى البريكان تتمتع بالكفأة والإقناع لأنها مفردات ليست قاموسية وبالمؤكد فأن خلقها للعبارة سيكون على مستوى الفعل المتبادل بينها وبين أبعادها الرمزية التي تستحدثها المخيلة آنياً وهو شكل مثير من أشكال الإستخدام حين نجد ذلك متاحا في (أغنية رعب هادئ ) :
لأن للنار وراء رقصها العنيف جسما من الرماد / لأن للصحو مدى ، وللرؤى رفيف ، ) ومن هنا تتشكل غايات النص وهي غايات جمعية في معرفة الموت وماتعني المفردات ذات الصلة به ( الإغتراب ،،التراب ،،العذاب ،، القهر ،، …. ) ولعل هذه الأشياء تنعدم أو ترتبط بذات المعنى عن معنى الموت فالمجهول أيضا هو الصمت وهو ظلام الرؤيا ولأجل هذا التأكيد لابد أن يضع البريكان نفسه في الموضع المناسب ولن يحصل ذلك إلا بالهلاك حين يتجسد بوصلة تشير الى الفناء ،