19 ديسمبر، 2024 12:51 ص

محمد يونس والادب الروسي في العراق

محمد يونس والادب الروسي في العراق

الى روح الفقيد الدكتور محمد يونس – استاذ الادب الروسي في جامعة بغداد.

تعارفنا عام 1958 في الصف الاول( ب )بقسم اللغة الروسية في معهد اللغات بجامعة بغداد, وهي الدورة الاولى في ذلك القسم , وسافرنا معا الى موسكو عام 1959 لاكمال دراستنا في كلية الاداب بجامعة موسكو, وعشنا معا في نفس القسم الداخلي , وفي بعض الاحيان في نفس الغرفة ايضا, وافترقنا نهاية الستينات ثم التقينا مرة اخرى في بداية السبعينات للتدريس في قسم اللغة الروسية بكلية الاداب في جامعة بغداد, واستمرت علاقات الصداقة والود بيننا الى حين رحيله عام 2009, عندما سمعت بوفاته في ماليزيا اثناء زيارته لابنه بشارالذي يعمل هناك, كتبت رأسا بعض السطور عنه ونشرتها في بغداد , وكنت املي تلك السطور على احد الطلبة العراقيين في مركز الدراسات العراقية- الروسية في جامعة فارونش الروسية وانا ابكي , واخذ الطالب يبكي معي وهو يطبع تلك الكلمات التي كانت تنطلق من اعماق قلبي, والتي اختتمتها بالاعتذار عن الاستمرار بها الى حين جفاف دموعي, وها انا ذا اعود للكتابة عن صديقي الاستاذ الدكتور المرحوم محمد يونس جبر الساعدي ( 1937- 2009) ودوره الرائد الكبير في مسيرة الادب الروسي في العراق رغم عدم جفاف تلك الدموع.
ناقش المرحوم محمد يونس اطروحة الدكتوراه في جامعة موسكو عام 1972 وكانت حول تولستوي في الادب والفكر العربي, وهي من اوائل اعمال الباحثين العرب في هذه المجال آنذاك, وتناول فيها علاقات تولستوي مع اسماء عربية كبيرة , ولقد تحدث الكثيرون في السنوات العشرين الاخيرة حول هذا الموضوع , دون ان يذكروا – مع الاسف – اطروحة محمد يونس تلك , ورغم ذلك لازالت هذه الاطروحة مهمة لانها تتضمن موادا غير معروفة في موضوعة الادب الروسي في العراق وتقبٌله من قبل الادباء والنقاد العراقيين لادب تولستوي , اذ توجد هناك –مثلا – رسالة وجهها محمد يونس الى غائب طعمة فرمان وعبد المجيد لطفي وجوابهما حول تاثير تولستوي على نتاجاتهما ورأيهما الشخصي بشأن ابداع تولستوي عموما , وتوجد في تلك الاطروحة اجابة وافية حول موقف تولستوي من الاسلام , وهو موضوع كثر الحديث عنه في الاونة الاخيرة واصبح يخضع لاجتهادات شخصية وسياسية بعض الاحيان مع الاسف , وباختصار , فان اطروحته لا زالت حيوية لحد الان , واتجاهها هو الذي حدد مسيرة محمد يونس اللاحقة في هذا المجال والتي أدٌت الى تأليفه لابرز كتبه في موضوعة الادب الروسي في العراق , واقصد بالطبع مؤلفه القٌيم الموسوم – ( الكلاسيكيون الروس والادب العربي ) الذي اصدرته دار آفاق عربية في وزارة الاعلام العراقية عام 1985 والذي يشغل – ولحد الان – مكانته المتميزة في المكتبة العراقية خصوصا والعربية عموما, اذ عرض الدكتور محمد يونس في هذا الكتاب عشرات المصادر العربية حول الادب الروسي وناقشها من وجهة نظره , بما فيها المصادر الاجنبية المترجمة الى العربية , والتي كتبها اساتذة متخصصون كبار في الجامعات الغربية, وبغض النظر عن تلك الاراء التي جاءت في مناقشات محمد يونس مع هؤلاء ( واؤكد على ذلك) , تبقى شاخصة امام القارئ شجاعة الباحث العراقي واقتداره في موضوع كنا نؤدي فيه دائما تقريبا دور المتلقي وليس دور المشارك على قدم المساواة في عملية تناول تلك المواضيع وتحليلها , وفي هذه النقطة بالذات تكمن – في رأي- اهمية الكتاب وقيمة الدكتور محمد يونس العلمية , اذ انه اعطانا كلمة شجاعة و مبتكرة وجديدة واصيلة كليا في موضوعة الادب الروسي في العراق, لم يسبق ان قالها اي واحد منٌا سابقا. لقد كان محمد يونس متواضعا غاية التواضع , وهو تواضع العلماء النابع من القلب وغير المصطنع ابدا, ولم اسمع منه بتاتا ضمير ال (انا ) طوال عشرات السنين التي كنٌا فيها معا, ولم اسمع منه بتاتا ايضا اي كلمة فخر حول كتابه المهم هذا سوى مرة واحدة حكى لي فيها موقف جرى له عندما كان يعمل في جامعات اليمن, وفحواه ان احد الزملاء هناك قال في جلسة حول الادب الروسي , دون ان يعرف ان مؤلف الكتاب يقف امامه, انه يعتبر كتاب ( الكلاسيكيون الروس والادب العربي) لمؤلف عراقي نسي الان اسمه افضل دراسة عربية حول الادب الروسي, ولم يكرر محمد يونس هذه الحكاية امام الآخرين من الاصدقاء والمعارف , وما اكثرهم, ولكنه حكاها لي خصيصا بحكم صداقتنا الوطيدة ليس الا. واود هنا ان اعلن باني اؤيد رأي ذلك الزميل من اليمن بشأن هذا الكتاب, والذي اعتبره المصدر رقم واحد في المكتبة العراقية حول موضوعة الادب الروسي في العراق , رغم انه يعبر عن آراء محمد يونس وافكاره المقتنع بها والتي يمكن ان نختلف بشأنها بعض الاحيان. ( هل كان هذا الكتاب وصيتك يا ابا جاسم الورد؟؟؟؟؟)
انجز الدكتور محمد يونس ثلاثة كتب اخرى تتناول الادب الروسي, اثنان منهما صدرا ضمن سلسلة اعلام الفكر العالمي في بيروت وهما –عن الاديبين غوغول وتورغينيف , ورسم فيهما صورة قلمية متكاملة لحياة وابداع هذين الاديبين , ولا زالا يعدان من المصادر الاساسية عنهما للقارئ العربي,اما الكتاب الثالث فقد انجزه سوية مع المرحومة الاستاذة الدكتورة حياة شرارة وعنوانه – ( مدخل الى الادب الروسي في القرن التاسع عشر) والذي اعادت طبعه قبل سنتين دار المدى , وهو الان مطروح في الاسواق من جديد,وقد عاصرت فكرة هذا الكتاب , اذ ان تلك الفكرة ولدت في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد, عندما كنٌا ندرس مادة تاريخ الادب الروسي باللغة الروسية لطلبة القسم, ولم نكن نستطيع عبر المعرفة المحدودة لتلك اللغة عند الطلبة ان نوصل لهم عمق ذلك الادب وقيمته واهميته , وهكذا ولدت فكرة تاليف كتاب منهجي مساعد للطلبة باللغة العربية كي يطلعون بلغتهم القومية على هذا الادب ومكنوناته, وقد كان من المفروض ان يقوم بتاليف هذا الكتاب المنهجي المساعد كل من الدكتورة حياة شرارة والدكتور محمد يونس والدكتور جليل كمال الدين وانا , الا ان ظروف القسم لم تسمح بالاستمرار بتنفيذ ذلك آنذاك, وبقي محمد يونس الوحيد المتحمس لتنفيذ تلك الفكرة وساندته حياة شرارة وهكذا استطاعا تحقيق هذا المصدر التدريسي المهم على غرار بنية الكتب المنهجية الروسية , وقد نجح هذا الكتاب فعلا بتأدية ذلك الدور الذي رسمناه له عند ولادة فكرته, اذ ساعد طلبة قسمنا على استيعاب مادة تاريخ الادب الروسي بشكل علمي اثناء دراستهم لها باللغة الروسية, وكذلك استخدمناه كمصدر اساسي في توجيهاتنا للطلبة من اجل كتابة بحوثهم, اضافة الى انه اصبح مصدرا مهما للقارئ المهتم بتاريخ الادب الروسي عموما, وقد لاحظ بعض الذين كتبوا عنه ذلك , واذكر من بينهم القاص العراقي عبد الله نيازي الذي ادهشه تثبيت عدة مصادر بعد كل فصل من فصول الكتاب, وهي طريقة تقليدية وعلمية متبعة في معظم الكتب المنهجية الروسية بشكل عام , والتي اشاد بها نيازي كثيرا في عرضه للكتاب المذكورلانه يراها على ما يبدو لاول مرة في هذا الكتاب . واخيرا يجب التوقف حتما عند كتاب مهم جدا قام المرحوم محمد يونس بترجمته عن اللغة الروسية ونشرته ايضا دار آفاق عربية في حينه واعيد نشره ثانية في مصر ولاقى اقبالا كبيرا وواسعا لدى القراء  وعنوانه  –  ( فن الادب الروائي عند تولستوي ) وهو من تأليف الباحث الروسي السوفيتي ادينوكوف, ويعد هذا الكتاب الان واحدا من المراجع والمصادر المهمة في دراسة تولستوي.
الاستاذ الدكتور المرحوم محمد يونس جبر الساعدي – اسم كبير في عالم الادب الروسي في العراق وهو ينتظر الباحث العراقي الذي يجب ان يكتب عنه – في الاقل – اطروحة ماجستير في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد , هذا القسم الذي عمل فيه محمد يونس طوال حياته واحبه ومنحه عصارة فكره وعلمه, وفي حالة الموافقة على مقترحي هذا فاني اعلن استعدادي التام للتعاون مع طالب الماجستير هذا ومشرفه العلمي, كما سبق لي ان اعلنت عن استعدادي للتعاون بشأن اطروحة عن المرحومة الاستاذة الدكتورة حياة شرارة.