عام 2009، التقيت محمد مهر الدين في دمشق. بدا غاضباً من الوضع الذي آلت إليه البلاد. كان هذا الغضب يتحوّل إلى لوحات بأحجام وطرائق متفاوته، وكان طيلة الليل يستمر بالرسم في مرسم الفنانة العراقيّة نوال السعدون، وسط العاصمة السورية. لا تُفارقه سجائره، ولا يملّ العرق الشامي.
على خلاف المثقفين العراقيين الذين تحيّروا في الموقف السياسي من احتلال بغداد، عرف مهرد الدين مسبّقاً أن الاحتلال سيجرّ الويلات، وكان حانقاً على نظام صدّام حسين، وعلى الجيش الأميركي وما حمل معه من السياسيين، وكان يبحث في الآن ذاته، عن دوّي في الألوان يُدين كل ذلك.
لم تنصف الأنظمة العراقية المتفاوتة مهر الدين، ولم ينصفه النقد. وبالرغم من جدارياته الكبيرة الثلاث التي تتصدر مطارَي بغداد والبصرة وساحة الاحتفالات؛ إلا أن صهيل العراقي القادم من أقصى الجنوب، ظلّ يخترق برمزيته المحرّم والمسكوت عنه في القضايا الاجتماعية والإنسانية.
“اللوحة بالنسبة لي فكرة، يجب أن تقدم مضموناً فكرياً وجمالياً، ويجب أن يكون فيها هدف.. القيمة الجمالية تأتي بالدرجة الثانية، وأهم شيء عندي هو الموضوع”. هكذا، من دون تضليل أو تشبث بمقولات التجريد التشكيلي، يعلن مهر الدين انحيازه إلى قضايا شعب ووطن أنهكته الحروب وبساطير الجنرالات، في حوار قبل رحيله.
بالقرب من شطّ العرب في محافظة البصرة ولد محمد مهر الدين عام 1938، وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها. وفي عام 1956 انضم إلى “معهد الفنون الجميلة” لدراسة الفن التشكيلي على يد أستاذه فائق حسن. وفي عام 1959، شارك للمرة الأولى في معرض “جمعية الفنانين” في بغداد، ثم سافر إلى بولندا عام 1961 ليحصل من أكاديمية الفنون الجميلة في وارسو على شهادة الماجستير في الرسم والغرافيك. بعدها، عاد إلى بغداد عام 1965، وعمل مدرساً لمادة الفن في معهد الفنون الجميلة.
ومنذ معرضه الشخصي الذي أقامه عام 1967، تمكن مهر الدين من ترويض الخامات كالحديد والإسمنت والقماش والورق والخشب المحروق. أسكنها سطح لوحاته الذي أصبح
مزدحماً بالخطوط والتعرجات والظلال التي تهب اللوحة ملمساً مغايراً، مما عد في حينها خرقاً للمألوف والسائد.
كان هذا الأسلوب عصارة دراسة ومشاهدات الفنان في بولونيا وتأثره المباشر بالفنان الإسباني تابيس، الذي يقول عنه: “كان يستعمل مواداً مختلفة، هي من إفرازات الحضارة وتطورها، لكنه كان يخلق نوعاً من التوافق المدهش بين أسلوبه التجريدي – المطلق، وبين الخامات الكثيفة التي يتعامل معها”.
حافظ مهر الدين خلال سنوات إبداعه التي تجاوزت الخمسة عقود على إنشاء نص بصري عبر صياغات بنائية متعددة، جعلت بعض النقاد يسجلون عليه تنقلاته الأسلوبية. لكنه، وبما يشبه الاحتجاج، يقول: “هناك تطور أسلوبي وليس تغييراً في الأسلوب. هناك خط بياني يتصاعد بخمس أو ست مراحل أسلوبية، وهناك من يعتقد أنني غيرت أسلوبي بينما أنا طورت فيه ولم أغيره. أدخلت الغرافيك مع الرسم، وكذلك الكولاج والمواد المختلفة والتقنيات الجديدة والأحبار، تحتم أن يكون إنشاء أو إخراج اللوحة بنمط آخر.. كل مضمون وكل موضوع يدفعني إلى أسلوب”.”
وعلى العكس من الفنانين الذين أصابتهم لوثة النرجسية؛ بقي مهر الدين يتطلع للنظر إلى الأعمال الجديدة في العالمين العربي والغربي. كان طوال وجوده في دمشق يتنقّل بين صالات العرض، وهو يعدّل نظّارته ويركّز في اللوحات ويتأملها. ولم يكن أيضاً يخجل من إبداء وجهات نظره اللاذعة، أو الساخرة في أحيان كثيرة.
يختزل رائد مسرح الصورة في العراق المخرج صلاح القصب تجربة محمد مهر الدين بالقول إنه “خلاصة العصر وجوهرة التاريخ، فهو حركة من الفيزياء، كدافنشي؛ كلاهما يبحث عن فيزياء اللون كطاقة في العمارة التشكيلية، لقد أثرَت تجربته اللونية عوالم كثيرة حتى غدت لوحاته رموزاً تعبر عن انفجار، مشكّلة علامات تتناثر كالسحب.”
رحل مهر الدين مثل معظم المبدعين العراقيين، وحيداً وبعيداً عن مدينته، مخلفاً مئات اللوحات وعشرات المخططات في مراسم أصدقائه. حمل ألوانه وفرشاته وأعوامه السبعة والسبعين وعلبة السجائر التي لم تفارقه رغم إصابته بمرض الربو، ورحل يوم 22 نيسان/ أبريل الجاري، من دون أن يتمكن من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على بغداد أو البصرة.